آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي
"قد أبصر طريقه وسلك سبيله وعرف مناره وقطع غماره واستمسك من العُرى بأوثقها ومن الحبال بأمتنها، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس. قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور من إصدار كل وارد عليه وتصيير كل فعل إلى أصله. مصباح ظلماتٍ، كشافُ عشواتٍ، مفتاحُ مبهماتٍ، دَفَّاعُ معضلاتٍ، دليلُ فلواتٍ، يقول فيفهم ويسكت فيسلم"(1).
*سرّ توفيق عباد الله
أشرنا في مقالات سابقة إلى بعض خصائص عباد الله وذلك من خلال كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام . ونتابع البحث في خصائص أخرى تحدّث عنها عليه السلام في خطبته وتناول فيها بعض صفات عباد الله عليه السلام قائلاً: "قد أبصر طريقه وسلك سبيله وعرف مناره وقطع غماره واستمسك من العرى بأوثقها ومن الحبال بأمتنها".
من جملة خصائص العبد السّالك، التزيّن بنور البصيرة، الذي يمكن بواسطته قطع مسيرة السعادة انطلاقاً من المعرفة واليقظة.
استعمل الإمام عليه السلام في كلامه لفظ "أبصر" وهي دلالة على الرؤية العميقة لكافة أبعاد مسير الكمال والسعادة. فلقد كان الناس في الماضي يبنون الأبراج في الطرقات التي تعبرها القوافل، وكانوا يضعون الفوانيس فوقها، أو يشعلون النار حتى لا تضلّ القوافل طريقها. وكان العرب يطلقون على تلك الأبراج "المنارة".
فيقول الإمام عليه السلام واصفاً هذا الإنسان بأنه قد استعان بالعلامات - أي المنارة - ليتمكن من عبور ذاك الطريق الذي تكثر فيه التعرّجات والصعاب؛ وذلك ليصل سالماً إلى المقصد النهائي. أمّا المنارات والعلامات في حياة الإنسان، فهي الأئمة المعصومون عليهم السلام الذين إنْ عرفهم السالك واتّبعهم، أصبح مصاناً من الضلال ووصل إلى السعادة والقرب الإلهي.
*حبل الله المتين
من خصوصيّات عباد الله، التمسّك بأكثر الأمور اطمئناناً، أي الهداية والتعلق بحبل النجاة. ويشير القرآن الكريم إلى هذه الخاصيّة وبالقول: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا﴾ (البقرة: 256).
ومن جملة معاني "العروة": القبضة التي توضع في الأواني والأكواب ليسهل حملها، أما المقصود من "العروة الوثقى" في هذه الآية فهو الإيمان بالله والكفر بالطاغوت في الظاهر، وأما في الباطن فقد فُسّرت على أنها ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وأبنائه المعصومين عليهم السلام . يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الخصوص: "من أحبَّ أن يستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فليستمسك بولاية أخي ووصيي علي بن أبي طالب فإنّه لا يهلك من أحبّه وتولّاه ولا ينجو من أبغضه وعاداه"(2).
وقد يكون الإنسان مطمئناً إلى سلوكه في مسيرة حياته الهادئة، ولا يرى أنه بحاجة إلى وسيلة نجاة، ولكنه في الحقيقة مُعرَّض دائماً للسقوط، لذلك لا بدّ للإنسان من شيء يتمسَّك به، ومن حبل متين ينجيه من السقوط في الهلاك. هذا الحبل عبارة عن الإيمان بالله الذي يحفظ الإنسان في حصنه المنيع ويمنع سقوطه في وادي الانحراف والمعصية.
كذلك نحن بحاجة إلى حبل الله المتين، أي القرآن الكريم حيث نحفظ أنفسنا من السقوط بواسطة التمسك به والعمل بتعاليمه وأوامره. ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (آل عمران: 101).
*صعوبة مسير الكمال
نحن في الغالب غافلون عن التمسّك بالله وبأسباب الهداية. والحقيقة أن الحاجة إلى الله تعالى، حاجة حقيقية دائمة. فالمؤمنون الصالحون، بالأخصّ عباد الله (بالمعنى الذي يبيّنه أمير المؤمنين عليه السلام)، لا يغفلون ولو للحظة واحدة، عن الله تعالى، بل يتوسّلون إليه باستمرار، ويتوجّهون إليه بدعائهم ليجعلهم في حرم سلطانه.
*الحكمة من صعوبة مسير السعادة
يتّضح مما تقدّم أن مسير السعادة والكمال الإنساني، ليس ممهّداً، أو من السهل عبوره؛ بل هو طريق صعب كثير التعرّجات. وأما حكمة الصعوبة والتعرّج في هذا المسير الطويل، فهي وجود المراتب والدرجات اللامتناهية للبشر الذين يتحرّكون في مسير الكمال والقرب إلى الله. وهو مسير مجعول لأصحاب الهمم العالية والمقاومة، هؤلاء هم الذين يمكنهم العبور وطيّ المراحل الصعبة فيه. كما أن صعوبة هذا الطريق تبيّن قيمة عبادة الأنبياء وأولياء الله.
*قطرة من بحر فضائل أمير المؤمنين عليه السلام
إن شخصية عظيمة مثل أمير المؤمنين عليه السلام قد وصلت إلى أعلى مقام في مسير القرب الإلهي، جمعت بين كل حالات الجهاد والتضحية في سبيل الله، وبين البكاء خوفاً من عذاب الله، وجمعت بين الصلاة ألف ركعة في اليوم، وبين الإحسان إلى الفقراء والأيتام، فوصلت إلى منزلة ليس بإمكان أحد الوصول إليها. بل نحن عاجزون عن بلوغ المقام الذي بلغه الإمام عليه السلام في أيام الطفولة وفي أيام بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فكيف بمراتب المعرفة النهائية؟ لقد عاش الإمام عليه السلام في حضن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتربّى معه حتى وصل في مراحل لاحقة إلى ذاك المقام وهذا ما دفع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليقول بحقه: "ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين"(3).
يُنقل عن ضرار أحد أصحاب الإمام عليه السلام أنه كان عند معاوية، عندما طلب منه الحديث حول علي عليه السلام . فتحدّث حول ما رآه من حالات الإمام عليه السلام وكيف أنه كان يجلس في محراب عبادته يأخذ محاسنه ويقول: "يا دنيا يا دنيا إليك عني! أَبي تعرّضت أم إليّ تشوّقت؟ لا حان حينك هيهات! غرّي غيري لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها. فعيشك قصير وخطرك يسير وأملك حقير. آه من قلّة الزاد وطول الطريق وبُعد السفر وعظيم المورد"(4).
يقول حبّة العرني إنه كان مع نوف البكالي نائمين في صحن دار الإمارة حيث دخل أمير المؤمنين عليه السلام وسط الليل بهدوء ثم توجّه إلى طرف الصحن.
كانت حال الإمام عليه السلام عجيبة، كان منحني الظهر، وغير قادر على حفظ توازنه وقد أخذ يردّد الآيتين الشريفتين: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران: 190 - 191).
كان الإمام عليه السلام يكرر الآيتين عندما توجّه إلى حبّة قائلاً: "أراقد أنت يا حبّة أم رامق؟". أجابه حبّة بأنه مستيقظ، ثم بدأ حبّة بسؤاله عن أحواله وما الذي دفع به إلى هذا الحال العجيب الذي يشاهد عليه. عند ذلك توجّه الإمام عليه السلام إليه قائلاً: "يا حبّة إن لله موقفاً ولنا بين يديه موقف لا يخفى عليه شيء من أعمالنا. يا حبّة إن الله أقرب إليَّ وإليك من حبل الوريد. يا حبَّة إنه لا يحجبني ولا إياك عن الله شيء"(5).
لقد كان الإمام عليه السلام يصلي في اليوم ألف ركعة. وقد يسأل البعض كيف يمكن للإمام عليه السلام أن يصلي ألف ركعة مع كل تلك الأعمال والمسؤوليات؟ والجواب: إن شروط وآداب الصلاة، كالتوجّه نحو القبلة، واجبة في الصلاة الواجبة، إلّا أن ذلك غير واجب في الصلاة المستحبة. لذلك يمكن الإتيان بالركوع والسجود على نحو الإشارة. ومن هنا فالإمام عليه السلام كان يأتي بالصلاة المستحبة بكامل الشروط والآداب إذا لم يكن لديه عمل، وإلا فإنه كان في حالة صلاة في الكثير من الأوقات التي يكون فيها منشغلاً بعمل ما.
1- نهج البلاغة، خطبة 87.
2- بحار الأنوار، المجلسي، ج67، ص132.
3- إرشاد القلوب، الديلمي، ج2، ص215.
4- نهج البلاغة، م. س، الحديث 74.
5- بحار الأنوار، م.س، ج41، ص22.