إلهي.. وأن الراحل إليك قريب المسافة.. وإنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الأعمال دونك -دعاء السحر-
بعد أن عرفنا أن الله تعالى لا يمسك فضله عن أحد يستحقه ولا يحجب فيضه عن موجود مستعد لنيله، وبعد أن عرفنا أن جميع الموانع الخارجية المتصورة لا يمكن أن تقف حائلاً بين هداية الله وعباده، أدركنا أن المسؤول الوحيد عن هذا النقص والحرمان هو الإنسان نفسه.
فهداية الله وعطاؤه ورحمته وفضله أمور فوق حدود المادة والدنيا، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يتصور لها دفع دفاع أو منع مانع، فقط الإنسان هو الذي يرفض استقبال هذه الفيوضات الرحمانية التي تهب عليه من سماء القدس لترفعه إلى أعلى عليين وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة بقوله عز وجل: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ "العلق6/7".
حيث يستغني الإنسان عن نعم الله المطلقة بطغيانه وخروجه عن صراط الله الأقوم، صراط الإنسانية المستقيم.
ولا شك أن هذا الأعراض له منشأ أو أسباب تحدث بدافع إرادة الإنسان نفسه، وأن هذا الأعراض يظهر بصور مختلفة سوف نشير إليها في هذا المقام.
* الحجب الذاتية: أربعة
أشار أهل الله إلى الأسباب والموانع التي تنشأ في نفس الإنسان وفي المقابل توهم البعض من ظواهر الروايات الشريفة أن الإنسان يكون عدو نفسه بالكامل. ونظراً إلى عدم درايتهم بمفاد الروايات فقد انتهجوا نهجاً منحرفاً في تهذيب النفس والوصول إلى الله.
فعندما أطلعوا على الأحاديث التي تبين العدو اللدود للإنسان ظنوا بأنها تفيد الإطلاق والعموم. وأنَّ الإنسان هو عدو نفسه. ولكن بمراجعة بقية الروايات في هذا المجال يتبين لنا أن مقصود دائمة الهدى عليهم أفضل الصلاة والسلام هو النفس الإمارة، وهي تلك الحالة المرضية التي تصاب بها نفس الإنسان. فعندما يمرض المرء يقال بدنه مريض، ولكن العلاج لا يكون بالقضاء على البدن بأكمله وأن قيل أنه مريض.
ونفس الإنسان من هذا القبيل تعرض عليها حالات قد تصل إلى حد الملكات والعادات الراسخة فيه، ولكن العلاج يكون بالقضاء على هذه الحالات أو الملكات الخبيثة.
إن الإنسان يحتجب عن خالقه بالحجب الذاتية التي تصبح حالات لنفسه، وإذا اشتدت هذه الحالات فإنها تصل إلى المحجوبية الكاملة: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ...﴾ "المطففين/15".
ومعنى ذلك أن هذا المحتجب عن ربه وفيضه اللامتناهي يضع بينه وبين الله موانع من نفسه تكون سبباً لنقصانه.
1: حجاب القابليات والاستعدادات
وأهم هذه الحجب وأخطرها وهو أكثرها شيوعاً: حجاب القابليات والاستعدادات. فالله تعالى لما دعا الإنسان إلى جواره وكرّمه على الملائكة المقربين بارتفاعه، منحه إلى جانب الإرادة والاختيار قابليات تمكّنه- إن هو أحسن الاستفادة منها- من بلوغ تلك المقامات الشامخة ولكن ماذا يفعل البشر بهذه القابليات؟
وهل يحسنون الاستفادة منها؟
يحدثنا الواقع والتاريخ أن أكثر البشر قد دفنوا هذه القابليات ولم يستثمروا كنوزها الكبرى. فبدلاً من الانطلاق منها وتقويتها، قاموا بوأدها تحت تراب الشهوات والآمال المنحطة وكانت هذه قصة الناس عبر العصور، يرون أنفسهم في مقام الحيوانات بل أضل، ويبيعون أرواحهم الثمينة لشراء حاجات وضيعة. فانظروا إلى عصرنا، وجولوا بأبصار معرفتكم بين صفحات كتاب الخليقة، لتروا كم من مئات ألوف البشر عاشوا على هامش الحياة يأكلون كما تأكل الأنعام، ويرون حياتهم مختصرة إلى الملك الطاغي أو السلطان الباغي. وهكذا في أيامنا هذه، مئات الملايين من الناس لا يدركون سبب وجودهم، ولا يستغلون فرص نفوسهم، قد ضاعوا في حياة البهيمية ويرتعون في أودية الحيوانية.
ثم تقف الصرخة العلوية المدوية لتجلجل جحافل الراتعين:
أتحسب أنك جرم صغير | وفيك انطوى العالم الأكبر |
وتنبعث نسمات قدسية من سماء الرحمة الإلهية:
"يا ابن أدم خلقت الكون لأجلك وخلقتك لأجلي فهل تفرمني"
ولا يلبي النداء إلا من أدرك سر البقاء.
وخلاصة الكلام: أن أول الحجب الذاتية التي يعلن الإنسان الطاغي عن استغنائه عن فيض الله تكون من خلال عدم استغلال القابليات المودعة فيه، والتي تؤهله لبلوغ قمة الإنسانية والكمال، وعلى أثر عدم الاستغلال الجيد، تذبل هذه القابليات، لتصل في نهاية المطاف إلى الموت والهلاك:
"هلك خزان المال..."
"الناس هلكى إلا العالمون..."
ِ
ومن هذه القابليات المودعة في كل إنسان: الفطرة الصافية العاشقة والمنجذبة نحو الكمال المطلق، فإن في أعماق كل مخلوق انجذاباً فطرياً نحو خالقه، يجعل في نفسه حنيناً دائماً للقائه: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه﴾ "الإنشقاق/6"
ولكن أكثر الناس يعطلون هذه الفطرة الإلهية عن عملها بالانصراف والإعراض عن الاستماع والاستجابة لنداءاتها المنبعثة دوماً. وتكون النتيجة أن يرى الإنسان نفسه مخلوقة للدنيا، وتصبح الشهوات الجسمانية أكبر همه، ويقطع صلته بعالم الغيب ويقصر النظر على هذا العالم الفاني والمحدود.
ومن هذه القابليات أيضاً، ذلك العقل الذي يميز به الإنسان النجدين، ويصل من خلاله إلى عبادة الرب الودود وبلوغ رضوانه: "العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان".
ولولا هذه النعمة الإلهية لما امتاز البشر عن الأنعام بل لكان من الحيوانات ما هو أفضل منه.
هاتان القابليتان يودعهما الله في كل إنسان منذ ولادته، وتتفتحان مع تفتح قواه الأخرى ووسائط اتصالاته بالعالم. ولكن قد تأتي التربية الفاسدة والوراثة السيئة لإضعافهما وحرفهما فنجد:
"ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه إما يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
أو يكون اشتغال الكثيرين منهم بعلوم الدنيا فقط، أو بفنونها دون غيرها. وبدل أن تتفتح استعدادات العقل وتقوى توجهات الفطرة يصل البشر إلى الانحراف التام.
ثم يرسل الله تعالى الأنبياء هداة لإحياء هذه القابليات:
"...أن الله بعثهم... ليذكروهم منسي نعمته وليثيروا لهم دفائن العقول ويستأدوهم ميثاق فطرته..." - نهج البلاغة-
أما أهم العوامل التي تؤدي إلى تعطل القابليات فهي:
1- الوراثة السيئة
2- التربية الفاسدة
3- البيئة المنحطة
4- الذنوب والمعاصي
5- الانشغال بالدنيا
ولكن جميع هذه العوامل لا تسلب الإنسان اختياره وإرادته للتغيير فإن حجة الله لا تتم إلا مع الإرادة والاختيار.