إنّ هدف الأنبياء إيصال الإنسان وهدايته إلى النور ليقوم بالقسط، وهذا الأمر لا يمكن تحقّقه إلاّ بالتحرز عن طلب الرفاهية والإسراف والترف، فإنّ في ظلال التذكر للمعاد والعيش في أجواء يوم القيامة يتمكن الإنسان من غضّ نظره عن بعض المسرات، كما أنّه يمكنه الانصراف عن بعض الملذات في سبيل تحقيق هدف الأنبياء وتحصيله، فإنّ الإنسان قد لا يتمكن من الوصول إلى الهدف نتيجة لانشغاله وانهماكه، أو لصعوبة السبل التي ينبغي عليه تهيئتها للوصول إليه فإن التعب والصعوبة والمشقّة قد تقف مانعاً أمام انطلاق الإنسان وتحول بينه وبين طي الطريق الموصل إلى الهدف.
كما أنّ اللذات الزائلة والانهماكات والارتباطات والمشتهيات قد تلعب نفس الدور أيضاً، فإذا اشتغل الإنسان بواحدة من هذه الأمور المذكورة. فإنّه قد يتأخر عن القافلة وبالتالي لا يصل إلى هدفه.
والعامل المؤثّر في التخلّص من هذين المانعين – أعني المصائب، والانشغال بالملذات – هو ذكر المعاد.
نقل عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال (حب الدنيا رأس كلّ خطيئة). إنّ الملذات والمشتهيات تجذب الإنسان نحوها وتشغله بنفسها، فإذا علم الإنسان أنّ أمامه هدفاً نبيلاً وطريقاً طويلاً فإنّه لا يدع نفسه تنهمك بها أصلاً، إذ أنّه بنفس المقدار الذي يشتغل به فيها فإنّه يبتعد عن الهدف، كما أنّه بنفس المقدار الذي يبتعد فيه عن الهدف ينهمك فيها وينشغل بها، ولذا فإنّ القرآن الكريم وتفادياً لهذا الخطر – خطر الانهماك بالملذات والابتعاد عن الهدف ونسيانه – قد ذكر نموذجاً لعاقبة السير في هذا الطريق، ليعتبر به الإنسان حتى لا ينتحي هذا المنحى ولا ينتهج هذا النهج، وهو قصة قارون فإنّها مثال بارز في هذا المجال، أما لماذا ابتلي قارون بهذه الآفة، وكيف كانت نظرة أصحاب الفكر المحدود لدنياه البرّاقة الخادعة، وكيف كان موقف أهل العلم والعقل إزاءها، فهذا كله ما يبينه القرآن الكريم.
يقول تعالى ابتداءً في سورة القصص في مقام ترسيم خط كلّي عام ما مؤداه إنّ كل ما تحت اختياركم من اللذات إنّما هو متاع الحياة الدنيا، وإيّاكم والانقياد إليها والانهماك بها، فإنّ بعد هذه الدنيا هناك آخرة وحياة أبدية دائمة.
الدنيا بمعنى الأدنى وإنّما يقال لهذا العالم، الدنيا لكونه أخس العوالم وأدناه مرتبة وليس هناك عالم أدنى منه، ومن مأثورات أمير المؤمنين عليه السلام قوله في مقام بيان وجه أخسيّة الدنيا أنّه (لا يعصى الله فيها ولا يُنال ما عند الله إلاّ بتركها) وعلى هذا فلا عالم أدنى من هذا العالم ولذا يسمى بالدنيا.
يقول تعالى في هذه الآية المذكورة: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا) [الشورى/36].
يعني أنّ هذه الملذات الزائلة متاع أخس العوالم وأدناها، ومتاع أخس العوالم هي بالطبع أخس أنواع المتاع الإنساني أي في حدود الحياة الحيوانية.
فيما أنّ اللذات العالية والسامية لا توجد في أخس العوالم وأدناها وأنزلها مرتبة لذا قال تعال: (فما أوتيتم من شيء).. إذ أنّ الزينة واللذة والمتعة لا يمكن أن تكون عالية سامية وتكون واقعة في عالم خسيس، لأنّ ملذات العالم الخسيس خسيسة ودانية، كما أنّ العالم الرفيع والراقي تكون لذته وزينته رفيعة وراقية يقول تعالى: (حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون) [الحجرات/7]. يبيّن تعالى في هذه الآية معنى الرشد فيقول إنّ الرشد يتحقّق بتحقّق أصول خمسة وهي حبّ الإيمان، وكونه مزيناً في القلب وكراهة الكفر والفسوق والعصيان، فالأقسام الثلاثة الأخيرة من صفات المؤمن السلبية والصفتان الأوليان من صفاته الإيجابية، فالإيمان ينبغي أن يكون محبوب قلب المؤمن وأن يكون مزداناً في قلبه، فالإيمان خير المتاع وخير الزينة في أرفع العوالم وأعلاها.