مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

تجهّزوا فقد نودي فيكم بالرحيل

سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)

موضوعنا عن الموت وما بعد الموت ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (آل عمران: 185). هذه المسألة كانت موضع نِقاش منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا، والأسئلة عن ذلك كثيرة: هل نفنى؟ هل يتلف الجسد في التراب وتنتهي الروح؟ هل هناك حياة أخرى، ورجوع إلى الله سبحانه وتعالى بعد الموت ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ؟

*الأمثال من حياة الإنسان
في القرآن الكريم، وفي دعوات الأنبياء يوجد استدلال عقلي، ومنطقي، وعلمي للناس عن الحياة بعد الموت. فالقرآن الكريم يضرب الأمثال من حياة الناس كما في موضوع الأرض والزراعة والمطر وهي مسألة حيويّة وحياتيّة لكل البشر على مدار التاريخ. فيضرب الأمثال في القرآن الكريم، عن الأرض الميتة التي يحييها الله بعد موتها. كيف تنبت، وكيف تصير خضراء.

*عناوين عامة من القرآن الكريم
أريد أن أتحدّث عن عناوين تعرّض لها القرآن، والأحاديث الشريفة. وبعد ذلك، أعرض بعض الآثار التربويّة، والمعنويّة، لهذه المعرفة وهذا الاعتقاد بعقيدة الموت وما بعده.

أ – أينما تكونوا يدرككم الموت
الجانب العملي الذي يمكن أن نستفيد منه هو من القرآن أو من الأحاديث الشريفة، فكلام القرآن هو:
أولاً: عن أصل الموت وحتمية الموت.
ثانياً: أنه لا مفر من هذا الموت ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ (النساء: 78).

وفي القرآن الكريم كلام عن سكرات الموت وحالة نزْع الروح، وعن القبر، هل هو روضةٌ من رياض الجنة، أم حفرةٌ من حفر النيران؟ وعن البرزخ وأحوال البرزخ. كذلك الآيات القرآنية، تحكي عن أحداث الكون في تلك الساعة، عن السماوات، والأرض، والكواكب، والجبال، والبحار، الإنسان، الوحوش، الحيوانات والقبور، ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (إبراهيم: 48)."

ب – لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه
الله سبحانه وتعالى يدكّ الجبال ويهزّها ويزلزلها ويمدّها فتصير ما يسمّى بـ "صحراء المحشر" ثم إنّه سبحانه وتعالى يأمر بنفخ الصّور، فيُبعث الناس، ويعودون إلى الحياة ويخرجون من قبورهم، وهذا هو "يوم الخروج... يخرجون من بطون الحيتان، والأسماك أو الطيور والوحوش. ويجمع هؤلاء الناس ويبعثون من جديد مذهولين، مرعوبين؛ هذه الحالة كلّها موصّفة في القرآن، ثم يُحشر الناس في الصحراء، في هذه الأرض الممدودة. ويقفون بين يدي الله سبحانه وتعالى: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (عبس: 37).

ج – يوم لا مفرّ
كلُّ إنسان مشغول بنفسه. يوضَع الميزان، وتُنشر الكتب ويقف الناس، يتقدّمون للحساب أمام الله سبحانه وتعالى... يُحاسب الناس أفراداً، وجماعات. يحاسبهم الله أيضاً كشعوب وكأمم. في موقف الحساب تظهر الموازين والمعايير، والمقاييس الأخرويّة غير مقاييس الدنيا. هناك لا ابن عشيرة ولا ابن دولة، الموازين مختلفة تماماً. ليس المعيار هناك، كم تملك من المال، أو كم عندك قصور، أو جاه أو زعامة، أو ألقاب. لا معيار هناك سوى الإيمان والعمل الصالح.
يُعرَض هذا أمام القضاء الإلهي الذي لا مهرب منه ولا مفرّ.
الموت والحساب، من الموضوعات التي كانت دائماً موضع اهتمام أنبياء الله عزَّ وجلّ، وهذا كله من أنباء الغيب التي أوحى بها الله سبحانه وتعالى. وهو يريدنا أن نؤمن بهذه الأنباء، وبهذه الأخبار، وبهذه الأحداث، أي أن نعتقد به وأن نؤمن بذلك بقلوبنا وعقولنا.

ثالثاً: عندما ينبئنا الله سبحانه وتعالى بذلك إنما يقيم الحجّة على البشرية كلّها إلى يوم القيامة.
فلا يقول قائل: "أنا ما علمت أو ما أخبرتُ أو ما سمعت". العقل هو حجة أيضاً، وحتى نعمل عندما يحدّثنا الله عن الجنة ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُون (الصافات: 61) ويحدثنا الله عن النار من أجل أن نحذر، أن ننتبه، أن لا نذهب بأنفسنا وأهلينا وأحبّائنا والناس من حولنا إلى جهنم.

د – الله تعالى يذكّرنا
إذاً، الأمر ليس موضوعاً عقائدياً معرفياً علمياً فقط. وإنما يترتّب عليه أثر وله علاقة بعمل الإنسان، وبسعيه، وسلوكه. أن يعمل ليكون من أهل الجنّة والثواب والقرب من الله سبحانه وتعالى أن يحذر عذاب الله ولقاء الله.
الله سبحانه وتعالى، أيضاً، يريدنا أن نتذكّر هذا المعنى دائماً، وأن نبقى منتبهين لهذه الحقيقة الّتي نحن مقبلون عليها، الموت وما بعده. وألّا نغفل عن هذا الحضور الذهني، والنفسي، والروحي لفكرة القيامة وأحداث القيامة.

*نتائج اليقظة والانتباه
من صفات الله عزَّ وجل أنه ربنا، فهو مربٍّ لنا، يأخذ بيدنا درجة درجة كما يُربّي الأب والأم ولدهما. هنا، يوجد تربية إلهيّة لنا، وهذا الانتباه وهذا التذكّر الدائم تترتّب عليه مجموعة نتائج تربوية، ومعنوية، ونفسية مهمة وكبيرة جداً:

أ – الانتباه من الحساب الآتي
النتيجة الأولى، لهذا الانتباه وهذا الحضور الذهني، والنفسي، لفكرة القيامة وعقيدة القيامة أن نبقى منتبهين، ويقظين، ومتيقنين أننا لسنا متروكين سُدىً، وسنحاسب.
إذا لم يكن من سؤال وحساب، يتفلّت الإنسان من القيود، والضوابط. لأن النفس الأمارة بالسوء، أضف إليها شياطين الإنس والجن يوسوسون للإنسان فعل المعصية، والظلم. الله سبحانه وتعالى يبدأ تربيته لنا من لحظة التكليف: أنت قلت كذا، وعملت كذا، هنا كذبت، وهنا اغتبت، وهنا قتلت، وهنا اعتديت... يبدأ معنا من لحظة التكليف إلى لحظة بلوغ الروح للحلقوم. فأين المفرّ؟
﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُون (يس: 24). نُواجَه بالحقائق وبالشهود في محكمة العدل الإلهي. عندما نتكلم يجب أن ننتبه وعندما نعمل أيضاً، هذا الوعي وهذه اليقظة يصبحان رادعَين عن المعصية، عن الذنب، عن الخطيئة.

ب – الرجاء للثواب الإلهي
تهتم الروايات وما ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام بالتأكيد على الرجاء والرغبة بما عند الله عزَّ وجل. فعندما نقرأ عمّا أعدّ الله سبحانه وتعالى للمطيعين، وللمحسنين، وللمجاهدين وللشهداء، وللصّابرين إلخ... تتطلع نفس الإنسان وقلبه وعقله إلى ما أعدّ الله سبحانه وتعالى في تلك الحياة التي طبيعتها: الخلود والأبدية، وكل ما يطمح له الإنسان في هذه الدنيا.
وفي الآخرة العزَّة حقيقية، الكرامة حقيقية، والأمن والسلامة والعافية، والسعادة كل ذلك حقيقي. كل ما يخطر ببالك من نعمة، راحة بال، عافية.. أعدّه الله سبحانه وتعالى للصالحين وللمؤمنين وللمجاهدين وللخيّرين وللمحسنين. هذا الشوق، هذه اللهفة للشهادة عند الشهداء، هي لأنهم عرَفوا ما أعدَّ الله سبحانه وتعالى لهم.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة المتقين، إنهم عندما يمرّون بآية، من القرآن الكريم، فيها حديث عن الجنة وفيها تشويق تطلّعت نفوسهم إليها طمعاً، وحتى أرواحهم تكاد تخرج من شدّة شوقها إلى ما أعدّ الله سبحانه وتعالى لها "ولولا الأجل الذي كتب عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أبدانهم طرفة عين أبداً؛ شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب"(1).

ج – التزوّد للآخرة
من النتائج التربوية لهذا الحضور الإيماني والذهني والنفسي للقيامة حُسن الاستفادة من الدنيا ومن هذا العمر. عندما نلتفت للآخرة ولا تغيب عنّا القيامة يصبح لهذا العمر قيمة عالية جداً، ويتحوّل إلى فرصة للتزوّد لذلك اليوم، لتلك الحياة الأبديّة والأزليّة. أستفيد من هذه الحياة الزائلة، الزائفة، الفانية، المحدودة وأتزوّد.

إذاً، من آثار الانتباه والحضور العقائدي والإيماني للقيامة حُسن الاستفادة من الدنيا وممّا أتاحه الله لنا في هذه الدنيا. ولذلك كان دائماً الأمير عليه السلام يقول للناس: "تجهزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل"(2)... وفي مكان آخر أوضَحَ عليه السلام: "وخير الزاد التقوى"(3).


(*) من كلمة له (حفظه الله) بتاريخ 31/7/2013 الموافق 22 شهر رمضان 1434هـ.
1- نهج البلاغة، من كلام الإمام عليه السلام(204).
2- م.ن، خطبة (130).
3- م.ن، خطبة (193).

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع