السيّد بلال وهبي
يواجه المهر الكثير من الشبهات والمغالاة والتعامل الخاطئ. هذا فضلاً عن تحوّله إلى عائق كبير أمام الزواج، بسبب شروع الكثير من العائلات في رفع قيمته، اعتقاداً منهم أنّه يعكس قيمة ابنتهم. كما يتعرّض المهر في أيّامنا هذه إلى حملات تصويب وتشويه من قِبل العديد من الجهات والحركات، خصوصاً النسويّة منها، والتي تعدّه ثمناً يهدف إلى تسليع المرأة وشرائها به!
من هنا، كان هذا المقال للردّ على الكثير من التساؤلات والشبهات التي تُثار حول قضيّة المهر، وتقديمه بالصورة الصحيحة التي تحدّث عنها الإسلام.
•المهر ليس ثمناً وإنّما هديّة
تزعم بعض الاتّجاهات أنّ المهر يعني تسليع المرأة وثمن شرائها، يدفعه الرجل إليها لقضاء حاجته منها، وأنّ في ذلك امتهاناً وظلماً لها.
غير أنّ الشريعة الإلهيّة الغَرَّاء تدحض ذلك الزعم وتنسفه من أساسه، وتفيد أنّ المهر -الذي هو ركن من أركان الزواج الذي لا يصحّ من دونه- ليس ثمناً للمرأة، ولا الزواج منها شراءً لها، إنّما هو هديّة يلتزم بها الرجل إكراماً وتشريفاً لها، واستمالةً لقلبها، وطلباً لقبولها به زوجاً لها؛ وذلك أنّ الرجل طالبٌ والمرأة هي المطلوب، وهو راغبٌ والمرأة هي المرغوب فيها، لأنّها كائن جميل لطيف يسكن الرجل إليه.
ولكي يُثْبِت الرجل صدقه معها وحبّه وإكرامه لها، يُقَدِّمُ لها المهر برهاناً على ذلك؛ ولهذا نجد القرآن الكريم دقيقاً في التعبير عن المهر، الذي لم يرد بهذا اللفظ الصريح فيه، بل ورد بلفظتَي "الصَّدُقات" و"النِّحْلَة"، والتي تعني في اللغة الهديّة والعطِيَّة، قال تعالى: ﴿وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾ (النساء: 4).
•المهر واجب وليس اختياريّاً
جاء التأكيد في الروايات الشريفة على وجوب المهر، فعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "في المرأة تَهَبُ نفَسها للرّجل ينكَحُها بغيرٍ مَهرٍ؟ فقال: إنّما كان هذا للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأمّا لغيره فلا يصلح هذا حتّى يُعوّضها شيئاً يُقَدَّمُ إليها قَلَّ أو كَثُرَ، ولو ثوب أو درهم، وقال: يُجزي الدرهم"(1). فيصحُّ أن يكون المهر مالاً، أو عقاراً، أو منفعةً، أو عملاً، ولا يُقَدَّر قِلَّة أو كَثْرَةً، فيجوز الكثير منه ويجوز القليل، وكلّ ما يتّفق الزوجان عليه ما دام له قيمة معتدّة عينيّة أو معنويّة شرعاً، فعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "الصِّداقُ ما تراضيا عليه من قليلٍ أو كثيرٍ، فهذا الصداق"(2). ويجب أن يكون مُعَيَّناً مُحَدَّداً، وإذا لم يعيّن المهر، كان للزوجة مهر مثيلاتها من النساء، ويمكن أن يكون مُعَجَّلاً أو مُؤَجَّلاً إلى أجَلٍ مُسَمَّى، وإذا مات الزوج ولم تكن الزوجة قد قبضت أو تسلّمت مهرها منه، وجب دفعه من ميراثه قبل تقسيمه على الورثة.
•المهر حقّ للزوجة
لا يجوز للزوج أن يمتنع عن إعطاء الزوجة مهرها، فإنّه حقٌّ لها، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إنّ الله ليغفر كلّ ذنبٍ يوم القيامة إلّا مهر امرأة..."(3)، فالمهر ليس حِبراً على ورق كما قد يظنّ أحدهم، بل هو حقّ لازم في ذمّة الزوج تبقى مشغولة به إلى أن يدفعه إليها، فإن لم يفعل وظلمها إيّاه، طالبته به يوم الدين، فقد رُوِيَ عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: "من أمهر مهراً ثمّ لا ينوي قضاءَه، كان بمنزلة السارقِ"(4). ولا يجوز للزوج أن يضغط على زوجته لتتنازل له عن مهرها، قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ (النساء: 19). وكذلك، إذا أراد الزوج أن يُطلِّقها ليتزوّج مِن أخرى، فلا يجوز له أن يُعَنِّفها ويضغط عليها لتتنازل له عن مهرها أو عن بعضه، ما دام هو الذي يريد الطلاق، ولا تريده هي، قال تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (النساء: 21).
كما لا يجوز لأحد أن يتصرَّف في مهر الزوجة، حتَّى أبوها وأمّها، إلّا بإذنها؛ لأنّه مُلكها ومالها، وهي مُسَلَّطَةٌ عليه، فقد سأل أحمد بن محمّد بن أبي نصر الإمام موسى الكاظم عليه السلام: "عن الرجل يزوجّ ابنته أله أن يأكل صداقها؟ قال: لا، ليس ذلك له"(5).
•المهر بين القلّة والكثرة
ورد في الروايات الشريفة كراهة أن يكون المهر قليلاً قِلَّة فاحشة، فعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عن آبائه عن عليّ عليهم السلام قال: "إنّي أكره أن يكون المهر أقلّ من عشرة دراهم"(6).
ولكنّ الروايات الشريفة حَثَّت من ناحية أخرى على أن لا يكون المهر فاحش الكثرة، واعتبرت كثرته نذير شؤمٍ للمرأة، فقد رُوِيَ أنّ: "من بركة المرأة قِلَّةُ مهرها، ومن شؤمها كثرة مهرها"(7)، إذ يدلّ ذلك على تطلّبها الكثير وقلّة قناعتها، فيكون إشارة إلى ما سيكون من أمرها بعد الزواج.
•مهر الزهراء عليها السلام
ولقد حدَّدَت السُنَّة الشريفة المهر بـ500 درهم، وهو ما يساوي 1260 غراماً من الفضّة، وهو المعروف بمهر السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام. وقد روى الحسين بن خالد قال: قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن مهر السُّنَّة، كيف صار خمسمائة؟ فقال: "إنّ الله تبارك وتعالى أوجب على نفسه أن لا يكبّره مؤمن مائة تكبيرة، ويسبّحه مائة تسبيحة، ويحمده مائة تحميدة، ويهلّله مائة تهليلة، ويصلّي على محمّد وآله مائة مرّة، ثمّ يقول: (اللهمّ زوّجني من الحور العين) إلّا زوَّجه الله حوراء عيناء، وجعل ذلك مهرها، ثمّ أوحى الله إلى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: أنْ سُنّ مهور المؤمنات خمسمائة درهم، ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأيّما مؤمن خطب إلى أخيه حرمته (فبذل له) خمسمائة درهم فلم يزوّجه فقد عَقَّه..."(8).
•المهر كعائق
إنّ المغالاة في المهر أمر يرفضه الإسلام؛ لأنّه ليس قيمة للمرأة كي نرفع منه حتّى يوازي قيمتها، فكثرته وقلّته لا تزيدان من مكانتها الاجتماعيّة ولا تقلّلان منها، ولا تدلّان على كثرة محبّة الزوج لها أو قلّتها، فضلاً عن أنّ المهر بذاته لا يمثّل ضماناً للمرأة يمنع الزوج من الإساءة إليها، أو التقصير في أداء حقوقها، أو تطليقها، لا سمح الله، والتجربة الطويلة تؤكّد ما نقول. ناهيك عن أنّ المغالاة في المهر، وكثرة متطلّبات الزوجة، تقلّلان فرص زواجها، خصوصاً في أيّامنا الصعبة التي نمرّ بها، حيث يقضي الواجب أن نُسَهِّل الزواج لا أن نضع العراقيل في طريقه، ومن أهمّ العراقيل غلاء المهر، وما تطلبه الزوجة أو أهلها من مسكن مملوك أو سيّارة فارهة، أو حُلِيٍّ كثيرة، أو حفلات صاخبة، أو ألبسة غالية الأثمان، وسوى ذلك ممّا صرنا نشاهده في أيّامنا هذه، لا يُقَدِّمُ ولا يُؤَخِّر في كرامة الزوجة ومكانتها الاجتماعيّة، بل غالباً يرهق الزوج ماديّاً ويوقعه أسيراً للديون، ما يؤدّي تالياً إلى نفوره من الزوجة، وقد يصل به الأمر إلى طلاقها، كما حدث في الكثير من الحالات.
•المهر لائقٌ بالمرأة
علينا أن نكون أكثر ثقة بشريعة الله تعالى، وأكثر يقيناً بكمالها وحكمتها البالغة، فما دام الله تعالى قد سَنَّ المهر للمرأة، فذلك يعني أنّه لائق بها، وأنَّ فيه تكريماً لها وتعظيماً لمكانتها. وما دامت السُنَّة الشريفة قد حَثَّتْ المرأة على أن يكون مهرها وَسطاً، لا كثيراً ولا قليلاً فاحشاً، فليكن ما حثَّت الشريعة الغرَّاء عليه، وليعلم الزوجان أنّ العلاقة التي تقوم على أسباب ماديّة بحتة، لن يُكتب لها النجاح ولا الاستمرار، وأنّهما إن أرادا أن يُكْتَب لزواجهما الدوام والاستقرار والطمأنينة، فسبيل ذلك: خُلْقٌ رفيع، والتزام دينيّ بشريعة الله، وتقوى منه سبحانه، وحُبٌّ يسكن قلبَيهما، ومَوَدَّة تُوَطِّدُ العلاقة بينهما، ورحمة تجعل الزوج في عون زوجه مدى الحياة.
1. الوسائل (آل البيت)، الحرّ العاملي، ج 15، ص 13.
2. (م. ن.)، ج 15، ص 2.
3. (م. ن.)، ج 15، ص 22.
4. (م. ن.)، ج 15، ص 21.
5. (م. ن.)، ج 15، ص 26.
6. (م. ن.)، ج 21، ص 253.
7. (م. ن.)، ج 20، ص 112.
(8) (م.ن)، ج21، ص245.7