الشيخ موسى خشّاب
يعدّ سعي الإنسان نحو التخلّص من آثار الذنوب الماديّة والمعنويّة أمراً فطريّاً. وقد رسم الله تعالى طريقاً للمخلوقات لتحقيق هذا الميل الفطريّ. وسوف نتعرّض في هذه المقالة للآثار التي تتركها الذنوب، ونبيّن كيفيّة التعافي منها من خلال إرشادات أطبّاء النفوس محمّد وآله عليهم السلام.
* ثقل الذنوب
تترك الذنوب تبعات ثقيلة على دنيا الإنسان وآخرته، وتضع بصماتها على الكثير من المصائب التي تصيب البشر، وقد يصل أثرها إلى حدّ هلاك الأمم: ﴿فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ﴾ (الأنعام: 6)، فعن الإمام الصادق عليه السلام: «من يموت بالذنوب أكثر ممّن يموت بالآجال»(1). ويظهر من النصوص الشريفة أنّ سبب بعض البلاءات التي تصيب المجتمعات، كفساد الثمار وقلّة الأمطار وظهور الأمراض وكثرة موت الفجأة، وما يصيب الفرد في ماله وبدنه من ضيق في الرزق أو مرض، هو الذنوب، فعن الإمام الرضا عليه السلام: «كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون»(2).
* للذنوب قيود معنويّة
لا شكّ في أنّ الآثار التي تصيب الإنسان في جنبته المعنويّة أعظم من تلك التي تصيبه في جنبته الماديّة، وما يصيب الإنسان في نفسه أشدّ عليه ممّا يصيبه في جسده، كالذنوب التي تترك أثرها في عقل الإنسان، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من استشاره أخوه المؤمن فلم يمحضه النصيحة، سلبه الله لبّه»(3). وأكثر تلك الذنوب خطورة ما يترك أثره في قلب الإنسان كالحرمان من لذّة العبادة: «وعزّتي وجلالي! لأحرمنّك حلاوة ذكري»(4)، أو النفاق، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إيّاكم واستماع المعازف والغناء فإنّهما ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع»(5)، أو قسوة القلب، فعن الإمام الباقر عليه السلام: «إنّ لله عقوبات في القلوب والأبدان، ضنك في المعيشة ووهن في العبادة، وما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب»(6).
ويبيّن لنا الإمام الباقر عليه السلام طبيعة الأثر الذي تتركه الذنوب في القلب: «ما من عبد إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى الخير أبداً، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (المطفّفين: 14)»(7).
* الاستغفار أوّل ترياق
تبيّن لنا هذه الرواية أنّ الذنوب تحدث اسوداداً في القلب، وهو قابل للزيادة والنقصان. ويعلّمنا أطبّاء النفوس -صلوات الله عليهم- أنّ الاستغفار هو الدواء والترياق الأساسيّ لإزالة آثار الذنوب. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لكلّ داء دواء، ودواء الذنوب الاستغفار»(8). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: «طوبى لمن وجد في صحيفة عمله يوم القيامة تحت كلّ ذنب «أستغفر الله»(9)، وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا أكثر العبد الاستغفار، رفعت صحيفته وهي تتلألأ»(10).
* للاستغفار الشافي تركيبة خاصّة
إنّ ترياق الاستغفار لا ينفع من لم يحقّق الشروط، ففي الرواية: «أنّ قائلاً قال بحضرة أمير المؤمنين عليه السلام: أستغفر الله، فقال عليه السلام: ثكلتك أمّك، أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العلّيّين وهو اسم واقع على ستّة معان: أوّلها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود إليه أبداً، والثالث أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله عزّ وجلّ أملس ليس عليك تبعة، والرابع أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها، والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله»(11).
تحدّثنا هذه الرواية عن الشروط التي لا بدّ من تحقيقها قبل الاستغفار، وهي بمثابة عناصر في تركيبة خاصّة لهذا الترياق لينفع في إزالة رواسب الذنوب وتبعاتها وظلالها على النفس، من هذه العناصر:
1. الندم: فلا معنى للاستغفار من دون الشعور بالندم، وذلك أنّ جوهر التوبة هو الشعور بذلك. والندم قد يكون على موقف خاصّ مرّ به الإنسان أو على تضييع العمر بأمور لا قيمة لها. ومهما استغفر الإنسان، فإنّ المغفرة لن تتحقّق طالما أنّه لم يشعر بالندم على ذلك الفعل.
2. العزم: من شروط نجاح علاج الاستغفار العزم على عدم العودة إلى الفعل الذي ندم عليه مطلقاً، وبعبارة أخرى: أن لا يكون مقيماً على الذنب وإلّا صار مستهزئاً. ولا معنى للاستغفار مع الإصرار، فعن الامام الباقر عليه السلام: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو يستغفر كالمستهزئ»(12).
لا بدّ من تحقيق هذين الشرطين لضمان نجاح علاج الاستغفار وقبول التوبة في جميع الذنوب، ولا معنى للاستغفار من أيّ ذنب طالما لم يتحقّق الندم والعزم.
* الترياق الثاني: أداء الحقوق
في حال تعلّقت الذنوب بحقوق الله تعالى (الفرائض)، فلا بدّ من الشروع بأداء هذه الحقوق لقبول التوبة، سواء كانت ماليّة (الخمس والزكاة وأموال الوقف و...)، أو عباديّة (الصلاة والصوم والحجّ)، أو غيرها. وكذلك بالنسبة إلى حقوق الناس، فإنّ قبول التوبة مرهون بالشروع بأداء حقوقهم، إضافة إلى الشروط السابقة لتكون التوبة مقبولة. ويدخل تحت هذا العنوان الحقوق الماديّة (الأموال والأمانات والإرث و...) والمعنويّة (كالغيبة وسائر أنواع الأذى المعنويّ)، ويوجد تفصيل لهذا الأمر تحت عنوان ردّ المظالم في فتاوى الفقهاء.
* ترياق المهلكات
قد يستغرق الإنسان في العصيان، ويسلك سبيل التمرّد من خلال ارتكاب الموبقات، والتي هي أكبر الكبائر، كالشرك بالله، وما يلحق به من أكل السحت من الربا وأموال الأيتام وتعاطي السحر وغيرها، وهي المهلكات من الذنوب. وفي هذه الحالة، على الإنسان أن يحقّق شرطين آخرين، إضافة إلى الندم والعزم، لتكون توبته كاملة، وهما: أن يذيب اللحم الذي نبت من أكل الحرام، ويذيق نفسه ألم الطاعة كما أذاقها حلاوة المعصية، وبذلك، يعيد نفسه إلى موقعها الطبيعيّ في العبوديّة بعد أن تمردّت على أمر الله تعالى أو تجرّأت على حدوده.
* مثال توضيحيّ
لتوضيح شروط التوبة نطرح المثال الآتي: لنفترض أنّ ولداً حطّم في المرّة الأولى الأغراض التي جلبها له والده، وفي المرّة الثانية حطّم أغراض إخوته، وفي المرّة الثالثة تمرّد على أوامر والده وسلطته، وعاث في البيت فساداً، وتسلّط على إخوته الصغار، ممّا دفع والده أن يطرده من المنزل؛ ففي الحالة الأولى، تُقبل التوبة شرط أن يعتذر الولد لأبيه ويعده أن لا يكرّر ما فعله. وفي الحالة الثانية، لا يكفي الاعتذار والوعد بعدم تكرار ما قام به، بل لا بدّ له أيضاً من أن يصلح ما بينه وبين إخوته، لأنّه تعدّى على حقوقهم. وفي الحالة الثالثة، لا يكتفي بالاعتذار وإرجاع الحقوق، بل لا بدّ له من أن يخضع لسلطة والده، ويتعهّد بأن يكون تابعاً له، لا أن يكون ندّاً له أو متسلّطاً على إخوته.
* ومن يغفر الذنوب إلّا الله؟
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران: 135).
بعد تحقيق شروط التوبة، يتوجّه الإنسان إلى الله تعالى مستغفراً، ويهيّئ جميع الظروف الزمانيّة والمكانيّة والعمليّة للاستغفار، فيستغفر في وقت السحر «والمستغفرين بالأسحار» في بيت الله تعالى، وهو في حالة البكاء ساجداً أو قانتاً، ويتوجّه إلى الله مستشفعاً بأوليائه، لا سيّما بقيّة الله في الأرضين عجل الله تعالى فرجه الشريف، مخاطباً إيّاه كخطاب إخوة يوسف لأبيهم يعقوب عليه السلام: ﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ (يوسف: 79) ليمحو الله بشفاعته عنه آثار المعاصي وعقوباتها بعفوه، ويستر عليه ذنوبه بمغفرته.
«واختم لي بخير حتّى لا تضرّني الذنوب».
(1) الكافي، الشيخ الكليني،ج 6، ص 140.
(2) المصدر نفسه، ج 2، ص 275.
(3) بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 75، ص 272.
(4) مصباح الشريعة، ص 88.
(5) الكافي، مصدر سابق، ج 6، ص 431.
(6) تحف العقول، ص 296.
(7) الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 273.
(8) ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، ص 164.
(9) بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 90، ص 280.
(10) وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 7، ص 176.
(11) المصدر نفسه، ج 16، ص 77.
(12) بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 6، ص 41.