آية الله الشيخ حسين المظاهري
لأنّ الزواج سنّةٌ إلهيّة مقدّسة، وجب تذليل العقبات أمامه. وفيما يلي، تتمّة لما كنّا قد بدأنا الحديث عنه في العدد السابق عن موانع الزواج، التي ما هي إلّا عادات أصبحت ضروريّات.
1- التقليد الممقوت
أ- الهدايا الثمينة: هذا المانع أو السدّ الثاني في وجه الزواج، وخصوصاً في هذا الزمان، نراه يزداد يوماً بعد يوم؛ ففي البداية كان يُفرَض على الشاب تقديم قرآن من الدرجة الأولى، وبعد ذلك صار عليه أن يضيف هدايا أخرى تنتخبها أمّ الفتاة، ثمّ تفاقم الأمر إلى أبعد من ذلك ليصل إلى أنّ الفتى لو باع نفسه في السوق لما وفّى بمبالغ تلك المتطلّبات، المشتملة على خواتم ذهبيّة عدّة وأسورة ذهب من العيار الغالي، وقلادة ألماس مطعّمة بالذهب الخالص و.. و.. حتّى بلغ الأمر إلى أن يُقال: "أتوسّل إليكم إعفائي من هذا الزواج!".
ما الذي عدا ممّا بدا؟ وما الذي سيحدث لو رضيت العروس بنسخة من كتاب الله الكريم؟ وماذا سيحدث لو لم تكن كلّ تلك الهدايا؟ ما المانع في أن تكون تلك الخواتم العدّة خاتماً واحداً، ويكون خاتم العريس عقيقاً؟
يروى أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً بين أصحابه عندما جاءت فتاة وأخبرته من خلف الحجاب أنّها تريد الزواج، وطلبت منه صلى الله عليه وآله وسلم أن يُزوِّجها، فتوجَّه إلى أصحابه وسألهم عمّن يريد الزواج. فقام أحدهم فسأله صلى الله عليه وآله وسلم عن المهر الذي يستطيع تقديمه، فأجاب بأنّه لا يملك غير القميص الذي يرتديه. وعندها سأله صلى الله عليه وآله وسلم عمّا إذا كان يعرف شيئاً من القرآن، فأجابه أنّه يعرف سورة الواقعة، ثمّ توجَّه صوب الفتاة، وسألها إنْ كانت مستعدّة للزواج على أنْ يكون مهرها تعليمها هذه السورة من القرآن، فردَّت بالإيجاب، وتمَّ العقد.
إنّنا لا نقول إنّه من الواجب عليكم أن تفعلوا مثلما فعل ذلك الرجل وتلك المرأة في صدر الإسلام، ولكنّنا نقول لكم لا تصبحوا أُسارى هذه القيود العصريّة، ولِمَ نضع أنفسنا في مواضع يُشَمّ منها رائحة العبوديّة؟
ب- الثياب الفاخرة: الطريف في الأمر أنّ بعضهم يقول: لا يمكن أن يكون العقد عقد فرح وسرور ما لم يأتِ العريس بثياب فاخرة لأمّ العروس ولأخت العروس ولأب العروس [كما هو جارٍ في بعض البلدان]، وهذا ما لا يُطاق! أو قد تطلب والدة العريس أشياء ولوازم لها كي يتمّ الفرح والسرور، وبدون تلك الطلبات لا تتحقّق فرحة!
وأقول هنا: إذا لم تكن فرحة، فلن تكون بهذه اللوازم الكماليّة كذلك، ولو كانت تريد خير ابنتها لما فعلت ذلك؛ لأنّها بفعلها ذاك تعقّد مسألة المهر والزواج وتزيد الطين بلّة.
قد يتشبّث أحدهم بأنّ الهدايا الكثيرة تبعث على المحبّة، ولكننا نقول إنّ المحبّة لا يأتي بها إلّا الإيمان والعمل الصالح والالتزام بما أنزل الله في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾ (مريم: 96).
فمن أحكم علائقه بالله تعالت أسماؤه، تمكّن من إصابة الهدف الذي يريد، وعندها يتمكّن من حبّ الفتاة له؛ لأنّ الباري تعالى وعد الذين آمنوا من العاملين بأن يجعل لهم حبّاً وودّاً ووئاماً في قلوب الناس، وقسماً بذات الله أنا على يقين من أنّكم -أيّها المؤكّدون على الروتين الشائع- لا تجرؤون على القول إنّ الله ورسوله وإمام زماننا راضون عن زيجات كهذه!
وإنّكم لتدركون جيّداً بأنّ عملكم هذا مخالف لشرعة الله الحقّة في تسهيل الزواج، لذا ينبغي لنا جميعاً أن نساهم في كسر هذه القيود التي جعلت منّا أُسارى لهذا الروتين الممقوت!
2- المهور الثقيلة
أ- لا إفراط ولا تفريط في المهر: لقد سمعنا أنّ المهور طغت عليها صبغة ثوريّة في أيّامنا هذه، وأنّ بعض المتديّنين قد وضع مهراً لابنته يتجاوز المائة والأربعة وعشرين ألف سكّة ذهب تيمّناً بالمائة والأربعة وعشرين ألف نبيّ ورسول! وهذا ما يجعل الشاب يهرب من الزواج بعيداً!
إنّ فلاناً من الناس يحاول ربط هذا الفتى بمهر ثقيل كي يبقي على ابنته، ولو كان الفتى غير منسجمٍ مع تلك الفتاة، غير محبّ لها على الرغم من أنّه يصرف لها ما تريد من الأموال، وهذا ما تريده أنت أيضاً، ويسمح لها في الذهاب أينما شاءت، وهذا ما يوافق هواك أيضاً، لكنّه لا يتعامل مع ابنتك مثلما يتعامل الزوجان المحبّان، فتراه على سبيل المثال غير مجامل لابنتك كونه لا يحبّها، ولا ينسجم معها، فما العمل حينذاك؟ وما الذي تستطيع فعله كي تجعل هذا الرجل يحبّها؟ إنّه لا يضربها، ولا يشتمها، لكنّه عبوس، لا يرغب في التحدّث إليها بالمرّة.
ومع مرور الأيّام، ستشعر البنت أنّها في زنزانة انفراديّة، وما إن تمضي السنة حتّى نسمع تلك البنت تقول: "أخرجوني من هذه الدار، سأتنازل عن كلّ شيء في سبيل أن يطلّقني، وإنّ صداقي حلال له مقابل حرّيّتي التي سُلبت".
لذا، أيّها الآباء، أيّتها الأمّهات! إنّنا لا نوافق على تزويج فتياتكم بدون مهر، ولا نوافق أيضاً على تزويجهنّ بالملايين والمليارات، اجعلوا الأمر وسطاً، فلا بأس في أن يكون المهر، نسخة من كتاب الله المجيد، وبضع مسكوكات ذهبيّة بحيث لا تتجاوز الخمس، لا إفراط ولا تفريط. قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: "لا يرى الجاهلُ إلّا مفرِطاً أو مُفَرِّطاً".
ب- عداوة وبغضاء في المهر الثمين: إنّ على المتقدّم للخطبة أن يراعي شأن الفتاة، مثلما ينبغي للفتاة مراعاة شأن الفتى الخاطب، وما هو مقدار شأن الفتى أو شأن الفتاة. إنّ الكثير من الأسر تساهم في توجيه ضربة روحيّة إلى الفتى والفتاة منذ الليلة الأولى التي جاء فيها الخاطب، لتصل في النهاية إلى كراهية ظاهريّة ظانّين أنّهم يبيعون منزلاً، فهذا يقول كم سعر هذه الدار، وآخر يقول إنّ الثمن عالٍ جدّاً ولا بأس بتخفيضه قليلاً، ليصلوا في النهاية إلى تعيين القيمة الأصليّة لتباع الدار، ويتسلّم المبلغ.
أمّا بالنسبة للخطوبة، فالأمر في أيّامنا هذه لا يختلف كثيراً عن وضعيّة بيع وشراء الدار، يجلس أهل العروس في مواجهة أهل العريس، فيسأل أهل العريس عن قيمة المهر، فتكون القيمة باهظة جدّاً، فيجيبون: "ما الذي حدث؟ خفّضوا الثمن قليلاً!".
وقد تحتدّ لهجة الحديث في بعض الأحيان، لتبرز حالة من التجريح في البَين الأسريّ، وقد تصل تلك الحالة إلى قمّتها فتكسر أركان المحبّة التي كان يحملها الفتى لتلك الفتاة، والمحبّة كما تعلمون مثلها كمثل الزجاجة إذا كُسرت صعب التئامها.
3- ولائم من غير حساب
أ- احذروا الولائم المُكلفة: الوليمة مانع آخر، ولا أعني تلك الوليمة التي عدّها الإسلام من المستحبّات مثل تلك التي عملها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ودعا فيها جميع فقراء المدينة احتفاءً بزواج الزهراء عليها السلام -بعد أن ذبح خروفاً لذلك-، وبعد الوليمة بعث الرسول الكريم ما تبقّى من الطعام إلى المساكين والفقراء الذين لم يستطيعوا القدوم إلى منزله.
أمّا الولائم التي نراها ونسمع بها اليوم، فلا يُعرف منها غير الأذى لأهل العروس.
إنّ الوليمة التي يصرف فيها الشخص دم قلبه، لا يُثاب عليها كونها لا تجرّ عليه غير الضرر والخسران، ولا أعتقد أنّ ولائم كهذه تكون مباركة، لأنّ الله تبارك وتعالى نهى عن الإسراف، وذمَّ المسرفين، فأين هي من البركة؟
ب- ولائم لإطعام المساكين: إذا أردت حقاً أن تُقيم وليمةً، فليكن اهتمامك بالفقراء و"الأغنياء من التعفّف". يُنقل أن امرأةً كانت تُعدُّ كلَّ أسبوع مقداراً من الحلوى وتعطيه لولدها لكي يذهب به إلى قبر والده، فيأكل كلّ واحدٍ من المارّة منها شيئاً، واستمرّت على هذه الحال فترة. ومرّةً كان ابنها جائعاً، وقد اشتهى الحلوى عندما أعطته طبقها -كالمعتاد- فلم يذهب بها إلى المقبرة، بل إلى خلوةٍ أكلَ فيها الحلوى كاملةً. وفي الليل، رأت المرأة في عالم الرؤيا زوجها وهو في غاية السرور، وقال لها: "لم يصِلْني شيءٌ من الحلوى التي كنتِ تقدّمينها على مدى عامٍ كامل، ولكنّ البارحة وصلتني، وكانت لذيذة للغاية".
فعلينا أن نفكّر في أيتام المتوفّى وأسرته، ولو كنّا متمكّنين ماليّاً ونريد تقديم شيءٍ فلنقدّمه للفقراء والضعفاء والمساكين، وليس للقادرين على تهيئة الطعام المناسب.
إنّ طريقة إقامتنا لولائم الزواج والإطعام في المآتم غير صحيحة، فيجب الكفُّ عن هذه العادات التي لا يرضاها لنا الله ولا رسوله ولا الأئمّة الأطهار عليهم السلام ولا إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
(*) الأخلاق البيتيّة، آية الله الشيخ المظاهري، فصل: موانع أخرى، بتصرّف.