نهى عبد الله
تشكّل العافية ركناً أساسيّاً من متطلّبات الإنسان في حياته الدنيا، بحيث تعبّر عن حالة التوازن والسلامة من الأمراض الجسميّة، والآفات النفسيّة، والانحرافات الاجتماعيّة. وقد تناول القرآن الكريم هذا المفهوم بطريقة شاملة، وجعل منه هدفاً منشوداً عبر الدعاء والعمل الصالح.
* العافية تجاوزٌ عن كثير
لغويّاً، العافية أصلها «عَافَى»، المشتقّ من «عفا»، وهو فعل يدلّ على المحو والإزالة والتجاوز. يقول ابن فارس: «العين والفاء والألف أصلٌ صحيحٌ، وعفا يدلّ على محو الشيء وإزالته»(1). وعافى الله فلاناً، أي دفع عنه الأسقام والآلام وأزالها.
بالتالي، تحمل العافية معنى إزالة البلاء ومحو أثره، بل إزالة الشوائب التي تعتري الإنسان من أمراض البدن. وفي المعنى القرآني للعافية، تعني إزالة شوائب الفكر والنفس أيضاً. وقد أشار السيّد الطباطبائيّ قدس سره إلى أنّ: «العافية ضرب من العفو الإلهيّ، إذ إنّ العفو هو إزالة الآثار السلبيّة، والعافية هي إزالة آفات الإنسان في بدنه وروحه»(2).
وفي الأمثل: «العافية مرتبطة بالعفو من حيث المعنى الأصيل؛ لأنّ طلبها يعني طلب إزالة آثار الذنوب والآلام»(3).
* دائرة العافية في القرآن الكريم
وإن لم ترد كلمة «عافية» في القرآن الكريم صراحةً، إلّا أنّ قراءةً عامّةً للموارد التي تناولت معنى العافية والسلامة في كتاب الله العزيز، تُظهر أنّها ليست محصورةً بالشفاء من الأمراض الجسديّة، بل تشمل:
1. السلامة من الذنوب والآثام.
2. التحرّر من الحزن والغمّ.
3. النجاة من الفتن والابتلاءات.
4. الاستقرار الاجتماعيّ والنفسيّ.
إضافةً إلى موارد أخرى تشكّل العافية واحداً من تطبيقاتها ومصاديقها، مثل التحرّر من وسوسة الشيطان، والتحرّر من تسلّط الظالمين.
يضع العلّامة السيّد الطباطبائيّ قدس سره إطاراً واسعاً لمفهوم العافية، فيقول: «الشفاء والعافية في القرآن لا يقتصران على دفع المرض الجسمانيّ، بل يشملان كلّ ما يفسد نظام الإنسان البدنيّ والروحيّ»(4).
ويضيف الشيخ مكارم الشيرازيّ: «العافية مفهوم واسع، يشمل التحرّر من الشقاء الروحيّ والأمراض والشدائد. وهي في القرآن مرتبطة بالهداية والنقاء الداخليّ»(5).
وعليه، فإنّ العافية مرحلة شفاء تتلو البلاء، ورحلة يتحرّر فيها الإنسان من الأذى، أو ألمه، أو أثره.
* موارد العافية
وردت في القرآن الكريم موارد عدّة لطلب السلامة عموماً، منها ما جاء بتعبير الشفاء صراحةً، ومنها ما فسّره المفسّرون على أنّه طلبٌ للعافية. وفي ما يأتي عرضٌ لبعض الآيات القرآنيّة التي توضّح الموارد التي تُطلب فيها العافية والسلامة:
1. العافية من الأمراض الجسديّة: قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ (الشعراء: 80). يذكر النبيّ إبراهيم عليه السلام نِعَم الله عليه، وينسب المرض إلى نفسه، فيما ينسب الشفاء إلى الله تعالى، وهو فعل إزالة المرض والأذى.
2. العافية من الذنوب والآثام: قال تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ*رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ (آل عمران: 192-193). تشير الآيات إلى أنّ أولي الألباب يدركون أنّ دخول النار يعني الخزي والعار والذلّ، إذ يغمر قلب العاصي الشعور بالإهانة حين يكون مآله النار، فيلجأ العاقلون إلى إعلان إيمانهم ويتبعونه بطلب الاستغفار والعفو وتكفير السيّئات والخطايا ليكون مآلهم مع الأبرار.
3. العافية من الفتن الاجتماعيّة: قال تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (الممتحنة: 5). بعد إنذار النبيّ إبراهيم عليه السلام لمن كان في مقام والده، يدعو الله تعالى أن لا يجعله سبباً لإصرار الكفّار على كفرهم، أو ذريعةً لجحودهم(6)، بحيث يظلّون أهلاً للهداية والصلاح والعافية، ثمّ إذا وقعوا في فتنة بسبب إنكارهم للمرسَل، تتحقّق عافيتهم بإنقاذهم من الوقوع في هذه الفتنة.
4. العافية من تلوّث النفس: تنبيهاً للمرأة المؤمنة وحضّاً لها على التزام الحشمة والحجاب في سلوكها مع الرجل الأجنبيّ، قال تعالى: ﴿فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾ (الأحزاب: 32). فوصفت الآيات صراحةً كلّ من تحرّكه غريزته وشهوته بـ«مريضٍ قلبه، معتلّ»، كنايةً عن التلوّث النفسيّ.
5. العافية من العذاب الأخرويّ: قال تعالى: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ (آل عمران: 185). في الآية تصوير بليغ باستخدام فعل «الزحزحة»، وهي الحركة الثقيلة التي تدلّ على التنحّي والتباعد، وكناية عن الصعوبة. يُفهم من ذلك أنّ أحدهم كان محكوماً بدخول النار، لكنّه حاول التنحّي عنها من خلال عمله في الدنيا، حيث يوفّى أجره، فإذا أفلح، دخل الجنّة وفاز. وهو تصوير عمليّ للتعافي من حال إلى حال، فلا يستهيننّ أحدٌ بعمل صالح ولو بدا قليلاً.
* كيف تتحقّق العافية؟
تكمن هنا فائدة هذه المقالة، في معرفة كيف دلّنا القرآن الكريم على تحصيل العافية بكلّ أبعادها ومستوياتها:
1. الاستعانة بالله تعالى والتوكّل عليه: قال تعالى في إشارة إلى المبتلين المؤمنين، مبيّناً كيف تتنزّل عليهم رحمته، ويوجّههم إلى الهداية بعد وقوع البلاء المفجع: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 156 – 157).
2. الاهتداء بالقرآن الكريم: ذُكر في موارد عدّة في القرآن الكريم أنّه الشفاء والهدى والرحمة، وهذا يعدّ مرحلة عُليا تتجاوز التعافي من عثرات الحياة، على الصعيدين الماديّ والمعنويّ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 57).
3. الصبر: يُعدّ الصبر من الخطوات العمليّة المهمّة التي يقوم بها الإنسان في مواجهة البلاءات والصعوبات التي يواجهها. ولا يعني ذلك السكون المعهود، بل هو مرحلة كظم الغيظ وكبح انفعالات النفس العشوائيّة من غضب أو جزع أو انتقام، فضلاً عن الاعتماد على هدي القرآن والتوكّل على الله، فيأتي الصبر فاعلاً لا ساكناً، يراجع من خلاله المؤمن نفسه ويبني ردّ فعلٍ واعٍ للتعامل مع ألمه ووجعه وربّما نقصه. وهذه مرتبة من الجهاد الأكبر، قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155).
4. مواجهة الظالمين: المتوكّلون على الله، والسائرون بهدي القرآن الكريم، والصابرون على الأذى، هم أناسٌ أحسنوا إدارة أحزانهم وأفعالهم. هؤلاء إن واجهوا ظالماً وجاهدوا في سبيل الله لإقامة القسط وتحقيق العدالة، تصبح أفعالهم شفاءً لغيرهم من المؤمنين، قال تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ﴾ (التوبة: 14).
5. التقوى: قال تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ (آل عمران: 186). التقوى هي الاستقامة عامّةً على صراط الحقّ. تربطها الآيات الكريمة بالصبر على البلاء ومن أذى الآخرين. وإنّه لأذى نفسيّ عميق أن يعلم المؤمن أنّه على الحقّ فيما يهينه بالقول والفعل شخص غافل لا يقبل الحقائق. ومع ذلك، فهذا الأذى لا يؤثّر بعمق في المؤمن الذي استقامت نفسه كما أمر الله، ولن يتحوّل الأمر إلى قضيّة شخصيّة، بل سينظر إلى كلّ إهانة موجّهة للحقّ على أنّها دليلٌ على بُعد هؤلاء عن الحقيقة وخسارتهم لها. وبنتيجة هذا المنظور، يتولّد لديه عزم أقوى وشدّة أكبر، وهو ما يمثّل عافيته.
6. شكر الله دائماً: قال تعالى: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (النمل: 40).
في الآية السابقة يُختبر النبيّ سليمان عليه السلام بتسخير الله له الجنّ والعلم، وبدوره يدرك نبي الله أنّ اختباراً كهذا يستوجب منه الشكر الدائم؛ لأنّه سلطانٌ كبير على النفس، وهو من أصحاب النفوس الطاهرة، فبعض النِّعَم قد تكون بلاءات، وعلاجها يكمن في الشكر والاعتراف بأنّها فضلٌ من الله لا النفس.
7. الدعاء بطلب العافية: يزخر القرآن الكريم بالعديد من الآيات التي تضمّنت دعاء الأنبياء عليهم السلام طلباً للعافية والسلامة، والتي غالباً ما تكون بمعنى التسديد والقبول الإلهيّ ورفع الهمّة، إلّا أنّها جاءت في موارد أخرى بمعنى الشفاء أو طلب الاستعانة برحمة الله للتغلّب على بلاء المرض، قال تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (الأنبياء: 83). يتجلّى في هذا التضرّع بلاغة وأدب عظيمان في محضر الله، بحيث يقول عليه السلام في دعائه: «مسّني»، وهو الذي ورد في حقّه أنّه لم يبقَ بلاء إلّا ونزل به.
* العافية تحريرٌ للإنسان
قد نستخلص من معاني العافية في القرآن الكريم مشروعاً لتحرير الإنسان من كلّ أنواع الضعف الجسديّ والنفسيّ والأخلاقيّ والفكريّ والاجتماعيّ، وصولاً إلى تحقيق عافية الآخرة. وهو يقوم على تحقيق السلامة الكاملة عبر الإيمان، والطاعة، والعمل الصالح، والدعاء.
(1) معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، ج 4، ص 228.
(2) الميزان في تفسير القرآن، العلّامة الطباطبائي، ج 1، ص 278.
(3) تفسير الأمثل، الشيرازي، ج 5، ص 90.
(4) الميزان، مصدر سابق، ج 15، ص 44.
(5) الأمثل، مصدر سابق، ج 12، ص 123.
(6) تفسير أوضح البيان، السيّد عباس الموسويّ، ص 548.