بمَ ينتصر الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف؟ (1)* أخلاقنا | الكبر الرداء المحرّم (2)* تسابيح جراح | نور إرادتي أقوى من ظلام عينَيّ الشهيد القائد إبراهيم محمّد قبيسي (الحاج أبو موسى) صحة وحياة | كيف نتجاوز ألم الفقد؟ كشكول الأدب تحقيق | الشهادة ميراثٌ عظيم (2) بيئة | حربٌ على الشجر أيضاً عوائل الشهداء: لن يكسرنا الغياب لتكن علاقاتنا الاجتماعيّة مصدر أنس ٍوعافية

لتكن علاقاتنا الاجتماعيّة مصدر أنس ٍوعافية

أ. فاطمة رعد
 

قد تهتمّ بصحّتك الجسديّة، ولكن هل سألت نفسك يوماً عن حالتك النفسيّة أو مدى انسجامك الداخليّ؟ العافية لا تعني مجرّد غياب المرض، بل هي رحلة يوميّة نحو التوازن والسلام الداخليّ، بحيث تجد نفسك في حالة من الرضى والتوافق مع ذاتك والعالم من حولك.

* العافية: السكينة الداخليّة
يُعرّف الطبّ الحديث الصحّة على أنّها الخلوّ من المرض أو الإصابة أو الألم. لكنّ العافية أوسع من هذا المفهوم بكثير؛ إذ إنّها تقوم على أبعاد عدّة، هي: البدن، والفكر، والنفس، والروح، وعلى الانسجام والتناغم في ما بينها، بما يحقّق هناء القلب، وصفاء الذهن، وبلسمة المشاعر، وسكينة الروح.

إنَّها عمليّة واعية وذاتيّة التوجيه والمسؤوليّة لتحقيق الإمكانات الكاملة الكامنة فينا، ممزوجة بالشعور بقوّة البدن على ما أمرنا به الله، ووضوح الفكر، وطهارة القلب، والبصيرة النافذة، والسعادة، والشعور بالرضى، واحترام الذات، والقدرة على التعايش مع الآخرين بأمنٍ في ظلّ حالة من السلام الداخليّ والسكينة التي تغمر الإنسان وتطال من حوله. وهذا ما علّمنا إيّاه الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه لطلب العافية: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَعَافِنِي عَافِيَةً كَافِيَةً شَافِيَةً عَالِيَةً نَامِيةً، عَافِيَةً تُوَلِّدُ فِي بَدَنِي الْعَافِيَةَ، عَافِيَةَ الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَامْنُنْ عَلَيَّ بِالصِّحَّةِ وَالأمْنِ، وَالسَّلاَمَةِ فِي دِيْنِي وَبَـدَنِي، وَالْبَصِيرَةِ فِي قَلْبِي، وَالنَّفَاذِ فِي أمُورِيْ، وَالْخَشْيَةِ لَكَ، وَالْخَوْفِ مِنْكَ، وَالْقُوَّةِ عَلَى مَا أَمَرْتَنِي بِهِ مِنْ طَاعَتِكَ، وَالاجْتِنَابِ لِمَـا نَهَيْتَنِي عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِـكَ»(1).

* أبعاد الإنسان
نشرح في ما يأتي وظائف أبعاد الإنسان:

1. البدن: هو منزل النفس والفكر والمشاعر والروح، ومنصّة العروج نحو الله تعالى في مسيرة تكاملنا. فالعافية الجسديّة هي سلامة الأعضاء، ووظائف الجسم، والقدرة على أداء النشاطات اليوميّة والعبادات بدون عناء، وقد سأل أمير المؤمنين عليه السلام العافية في البدن: «نسأله المعافاة في الأديان، كما نسأله المعافاة في الأبدان»(2).

2. الفكر: هو جوهر الوعي الإنسانيّ وما يميّز الإنسان عن باقي الكائنات؛ لأنّه يعكس قدرته على التأمّل والنقد والإبداع. فالعافية الفكريّة هي وضوح التفكير والتركيز، واتّخاذ القرارات بشكل متّزن، والقدرة على ضبط الذهن، وإدارة الوهم والخيال.

3. الروح: تعدّ من أسرار الخلق التي لا يمكن للبشر إدراكها. وهي الأصل والقوّة التي تعطي الحياة للبدن. فكلّما أدرك الشخص طبيعته الروحيّة، كان أكثر عافية وارتباطاً بالله والحياة، لأنّه يتوق إلى اتّصال روحيّ أعمق. فالعافية الروحيّة تكون بالإيمان بالله، والقرب منه، وسلوك طريق التكامل، والالتزام بالقيم والمبادئ، والتسليم، ووجود هدف ومعنى للحياة: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ (طه: 124).

4. النفس: هي جوهر الإنسان الباطنيّ، وتُشكّل أحد الأبعاد غير الماديّة في كينونته، وكلّ ما يخصّ المشاعر والسلوك والإدراك الواعي واللاواعي. فالعافية النفسيّة هي ببساطة حالتك الشعوريّة التي تكمن في كيفيّة شعورك تجاه نفسك وحياتك بشكل عام، وكيفيّة تعاملك مع نفسك والحياة والآخرين.

* العافية في العلاقة مع الآخر
الحياة الاجتماعيّة جزء من عافيتنا كذلك، وتتمثّل في العلاقات السليمة مع الآخرين، والدعم الاجتماعيّ، والشعور بالانتماء، والتفاعل الإيجابيّ مع المجتمع والبيئة.

ولعلّ خلل العلاقات أكثر ما يسبّب للناس الآلام، سواء كانت زوجيّة أو أبويّة أو زمالة عمل. والتعافي منها رحلة تبدأ من النفس قبل الآخرين؛ إذ إنّ معاناتنا الحاليّة وأوجاعنا ليست في كثير من الأحيان وليدة اللحظة فقط، بل هي انعكاس لآلام وجروح قديمة لم تُشفَ بعد.

* مقدّمات لتحقيق علاقات سليمة
تتحقّق العافية من خلال خطوات عدّة:

1. الوعي الذاتيّ: فهم مشاعرك وأسباب شعورك بطريقة معيّنة.

2. تنظيم المشاعر: القدرة على إدارة مشاعرك بطريقة صحيّة واعية مثل الخوف والحزن والغضب.

3. المرونة: التعافي من المواقف الصعبة أو النكسات.

4. العلاقات الإيجابيّة: القدرة على بناء علاقات داعمة وصحيّة مع الآخرين أساسها الثقّة والاحترام وترك مساحة الخصوصيّة.

5. الشعور بالرضى: أي الرضى بما تقدّمه لك الحياة حتّى لو لم يكن كلّ شيء مثاليّاً.

ولا يعني ذلك أنّك ستكون سعيداً طوال الوقت، بل أنّك ستكون قادراً على تجربة مجموعة كاملة من المشاعر وتنظيمها مع الشعور بالاستقرار والرضى.

6. اللجوء إلى أبواب العافية، مثل:

أ. طلب العافية من الله: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما سُئل الله شيئاً أحبّ إليه من أن يُسأل العافية»(4)؛ فعندما نطلب العافية من الله، فإنّنا نطلب منه تعالى أن يصرف عنّا الأمراض والأسقام والبلاء والفتن والعيوب الأخلاقيّة والشرور المختلفة.

ب. الصلاة على محمّد وآل محمّد: هي من الوسائل التي تفتح علينا أبواب العافية. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من صلّى عليّ مرّة، فتح الله عليه باباً من العافية»(3).

وقيل للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: إن أنا أدركت ليلة القدر فما أسأل ربّي؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «العافية»(5). فالسعادة والحياة الطيّبة مطلب كلّ إنسان، وهما لا يُنالان إلّا بالعافية.

* التعافي من آثار العلاقات المسمومة
إنّ التعافي من شوائب العلاقات الخاطئة أو الموجعة يشمل جوانب عدّة:

1. مواجهة المشاعر بدلاً من قمعها: الطريقة الوحيدة للشفاء هي الغوص في الألم بدلاً من تجنّبه أو تخديره. المشاعر السلبيّة مثل الحزن، والغضب، والوحدة، والغيرة، يجب مواجهتها بصدق، لأنّ تجاهلها يطيل المعاناة. ولا يعني ذلك الاستغراق التامّ فيها وحبس النفس وتكبيلها، بحيث يغرق الإنسان في وحدته وألمه، بل المطلوب مواجهتها والاعتراف بالمشكلة فقط.

2. اكتشاف الجذور النفسيّة العميقة: عند انتهاء أيّ علاقة، أو سماع كلمة مزعجة، أو التعرّض لتصرّف سيّئ، اسأل نفسك: «ما الذي كان يحاول هذا الشخص أن يعكسه لي؟ وما الجرح الطفوليّ الذي تفعّلت به هذه العلاقة؟»، فإنّك بذلك تفتح باباً لفهم ذاتك على مستوى أعمق. الغاية من هذه التساؤلات ليست جلد ذاتك أو لوم الآخر، بل خطوة للتحرّر من الأنماط المتكرّرة في العلاقات والاختيار الواعي لها، واستعادة القوّة. مثلاً: يمكن أن تكره الزوجة طريقة انتقاد زوجها لتصرّفاتها أو إدارتها للمنزل أو إعدادها للطعام. ومع تراكم هذا السلوك، قد تشعر بانزعاج دائم وعميق، لذا، عليها أن تطرح الأسئلة السابقة على نفسها، لتحدّد حجم الانزعاج وسببه: هل نقده هو المزعج أم ثمّة جرح قديم تذكّرت ألمه بسبب هذا النقد؟! وهل كانت تتعرّض للنقد نفسه من آخرين؟ ما السبب؟

3. الاندماج الواعي: يعبّر كثير من الأشخاص الذين مرّوا بنكسة في علاقاتهم مع الآخرين، بأنّهم يشعرون بأنّ داخلهم مبعثر. والبعثرة في الحقيقة هي حالة من التشتت والضياع نتيجة صراعات متعبة للنفس بين جزء منها يرغب في الابتعاد، جزء آخر يرغب في الانتقام أو ردّ الاعتبار، جزء ثالث يرغب في المسامحة والمُضي قدماً... وهنا تعالج هذه الحالة بدمج أجزاء النفس المبعثرة والمجروحة أو المنفصلة التي ساهمت في وضع الإنسان في هذا الموقف، أو التي أوصلته إلى هذه الحالة من الأذى، وهو الاندماج الواعي. يحصل ذلك من خلال التأمّلات، والكتابة، وتمارين الحضور الذهنيّ، بهدف ترميم الأجزاء المجروحة في النفس. غالباً يُنصح بالاستجمام أو زيارة العتبات المقدّسة، حيث يعيش الإنسان تجربة الانتماء والارتباط بما هو مقدّس. هذه التجربة تمنح النفس دعماً معنويّاً يرتكز على إيمان أنّ المعصوم عليه السلام يرى ويسمع ويجيب، ممّا يوفّر مساحة للتواصل مع النفس، ومعالجة الجروح، ومصارحتها، وترميم عثراتها، وتحديد مكامن الخطأ الذي أنتج هذا الألم.

4. العلاقة مع نفسك: لا يمكن أن تكون علاقتك مع الآخرين صحيّة ما لم تتعافَ علاقتك بنفسك أوّلاً. لذا، الشفاء يبدأ من الداخل. وعندما تكون نفسك في حالة ضعيفة هشّة كالمصاب المضمّد للتوّ، فإنّها تحتاج إلى الرقّة والإحاطة والرعاية. ومن الجدير ذكره أنّ بعض العلاقات السامّة تؤثّر سلباً من خلال تشويه صورة النفس لدى صاحبها، فيرى نفسه عاجزاً، وفاشلاً، ومملّاً، ووحيداً. وتصحيح هذه الصورة ضروريّ للمضيّ قُدماً في الحياة دون سطوة رأي الآخر. ويبدأ ذلك بترسيخ قاعدة: «كلّ إنسان لديه نقاط قوّة وضعف»، وليس بالضرورة أبداً أن تكون تلك نقاط ضعفك، لكن ابدأ باكتشاف نقاط قوّتك، وعزّزها جيّداً.

مسؤوليّتنا أن نولي اهتماماً كافياً بكلّ جوانب العافية التي ذكرناها لكي ننعم بالحياة الطيّبة على المستوى الفرديّ والمجتمعيّ. فهذه الجوانب تعمل بانسجام وتناغم في ما بينها، وأيّ خلل في واحدة منها تؤثّر في جودة حياتنا وعافيتنا. وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى ذلك بقوله: «بالعافية توجد لذّة الحياة»(6).


(1) الصحيفة السجاديّة، ص 124.
(2) نهج البلاغة: الخطبة 99.
(3) معارج اليقين في أصول الدين، الشيخ السبزواري، 153 / 344.
(4) ميزان الحكمة، الريشهري، ج3، ص 2023.
(5) مستدرك الوسائل، الشيخ الطبرسي، ج 7، ص 458.
(6) موسوعة أحاديث أهل البيت عليهم السلام، الشيخ النجفيّ، ج 7، ص 21.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع