داليا فنيش*
حين يخطف الفقد منّا من نحبّ، لا يبقى الألم حبيس القلب فحسب، بل يبحث عن طريقٍ للخروج. لذا، تختلف أشكال التعبير عن الحزن من شخص إلى آخر؛ فثمّة من يكتب، ومن ينعزل، ومن يبكي بحرقة، أو يلوذ بالصمت، وثمّة من يلجأ إلى الله، مسلّماً بحكمه وقضائه؛ وهو يردّد قائلاً: ﴿إنّا لله وإنّا إليه راجعون﴾ (البقرة: 156)، ويحتسب كلّ ما جرى معه بعينه سبحانه.
صحيح أنّ الفقد تجربة صعبة، ولكن يمكن التعايش معها وتجاوز ألمها شيئاً فشيئاً. في هذا المقال، نقترب من تلك المسارات المتعدّدة التي يسلكها الإنسان في التعبير عن الفقد من ناحية نفسيّة فقط، ونستعرض الوسائل التي قد تساعده في تجاوز الحزن دون أن يتنكّر لذكرى من فقد.
* مظاهر ألم الفقد والحزن
يمرّ بعض المفجوعين بمراحل عدّة يعبّرون من خلالها عن فقدهم وأحزانهم، وهي:
1. الصدمة والخدر: هذه المرحلة تتبع الخسارة أو الموت مباشرة، فيشعر الشخص الحزين بالخدر، وهي آليّة للدفاع عن النفس تسمح له بالبقاء عاطفيّاً في أعقاب الخسارة مباشرة.
2. الشوق والبحث: تُعرف هذه المرحلة باسم “المتلهّف”، وتتميّز بشوق الشخص الحزين إلى عودة المتوفّى لملء الفراغ الذي أحدثه موته، من خلال التعبير عن المشاعر بطرق مختلفة، مثل البكاء، والغضب، والقلق، والانشغال، والارتباك.
3. الفوضى واليأس: غالباً ما يرغب الشخص الحزين خلال هذه المرحلة في الانفصال عن الآخرين، وعن النشاطات التي كان يستمتع بها بانتظام. وبعد قبول حقيقة الفقدان، تقلّ حدّة مشاعر البحث والشوق لدى المفجوع، وتزداد مشاعر اللامبالاة والغضب واليأس والتساؤل.
4. إعادة التنظيم والانتعاش: في المرحلة النهائيّة، يبدأ الشخص الحزين بالعودة إلى حالة طبيعيّة جديدة، فترتفع مستويات طاقته، ويعود اهتمامه إلى ممارسة النشاطات الممتعة، فالحزن لا ينتهي أبداً، لكنّ الألم يتضاءل، وتسيطر الذكريات الإيجابيّة عن المتوفّى على مشاعر الفاقد.
* مراحل ألم الفقد نفسياً
ما سوف نطرحه هنا إنّما هو عن فئة من الناس، ممّن يقعون في قبضة الصدمات، إلا أنّ بعضهم الآخر تكون ردود أفعالهم -بفعل خلفيّتهم الإيمانيّة وتأمّلهم وسرعة تدارك مواجهة الصدمة- أكثر سلاسة، ما يجعلهم في مأمنٍ من الوقوع في تبعات ما سوف نتحدّث عنه، حيث أظهرت الدراسات أنّ مدّة ألم الفقد تتراوح بين ستّة أشهر و18 شهراً، تتخلّلها مشاعر الاكتئاب والأرق وفقدان الشهيّة. ويمرّ ألم الفقد بمراحل عدّة، هي:
1. مرحلة الرفض والإنكار: عندما يفقد شخص عزيزاً عليه، فإنّه ينكر في البداية هذه الخسارة ولا يتقبّلها جرّاء الصدمة وألم الفقد.
2. مرحلة الغضب: عندما يبدأ في إدراك ما حدث، يشعر بالغضب ويسأل نفسه: “ماذا فعلت لأستحقّ هذه المعاناة؟”، ويبدأ بإلقاء اللوم على أحدٍ ما أو على نفسه. لكن في حال كان الشخص يملك قناعات قويّة واعتقاد معين بطبيعة الموت، أو اختبر سابقاً هذا الظرف، فستخفّ وطأة هذه المرحلة كثيراً.
3. مرحلة المساومة: يبدأ عقله بالمساومة من أجل البقاء على قيد الحياة مرّة أخرى، بمعنى أنّ الفاقد في هذه اللحظة يحاول استعادة السيطرة على حياته جرّاء الألم الكبير، من خلال الاندماج في الحياة ونشاطاتها مجدّداً. مع العلم أنّ ألم الفقد سيعود ويظهر في أيّ لحظة؛ إنّها فترة تأرجح المشاعر صعوداً وهبوطاً.
4. مرحلة الكآبة: إنّ استمرار الانغماس في مشاعر الألم يؤدّي إلى الوقوع في حالة حزن متواصلة، فتنعكس آثارها على الجانب الجسديّ، مثل الصداع، وفقدان الوزن أو زيادته، والأرق أو النعاس.
5. مرحلة القبول: مع مرور الوقت، يبدأ الشخص الفاقد بتقبّل فكرة خسارة من يحبّ. هذا لا يعني أنّه نسيَ، بل يقرّر أن يمضي قُدماً بالرغم من المعاناة، مدركاً أنّه لا يستطيع لوم نفسه أو تغيير الواقع. وهو أمر فطريّ لمواصلة الحياة وتلبية لغريزة البقاء.
هذه المراحل تطول وتقصر بحسب حالة الفقد، ووعي الفاقد وقدرته على التجاوز والتخطّي، وفي مجتمعنا يدخل عامل الإيمان ومفهوم الموت باعتباره سنّة حياة ومرحلة عبور؛ ليعالج كثيراً من صعوبات هذه المراحل.
* أعراض الحزن وألم الفقد
تختلف أعراض الحزن بعد الفقد من شخص إلى آخر، تبعاً لطبيعة تفاعله مع مشاعره، ومدى تقبّله لها، وقدرته على التعايش مع واقع الغياب، والأهمّ مدى ارتباطه بالبعد الإيمانيّ والتسليم المطلق لأمر الله تعالى. بشكلٍ عام، تظهر على المفجوع عوارض بدنيّة ونفسيّة وسلوكيّة، وهي:
1. تضارب المشاعر ما بين الحزن، والغضب، واللامبالاة، والتقبّل، والندم.
2. التعب والإرهاق.
3. الصداع والغثيان.
4. الأرق واضطرابات النوم.
5. ضعف العضلات وألم المفاصل.
6. فقدان الشهيّة.
7. ضيق الصدر وخفقان القلب.
8. الارتباك وفقدان التركيز.
9. فقدان الدافع والأمل.
10. صعوبة التذكّر.
11. عدم القدرة على اتّخاذ القرارات.
12. انعدام الرغبة في مواصلة نشاطات الحياة.
13. الانعزال عن الآخرين.
14. سيطرة أفكار أو سلوكات انتحاريّة عند بعض الناس.
15. الإصابة بأمراض القلب، أو السرطان، أو ارتفاع ضغط الدم، أو ظهور ما كان ساكناً منها.
* كيف نتعافى؟
1. اصبر على الفقد؛ فهذا أمر مهمّ وضروريّ لتخطّي مشاعر الألم، فقد جاء عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: “قد عجز من لم يُعدّ لكلّ بلاءٍ صبراً، ولكلّ نعمةٍ شكراً، ولكلّ عسر يسراً. أصبر نفسك عند كلّ بليّة ورزيّة في ولد أو في مال، فإنّ الله إنّما يقبض عاريته، أي ما أعاره لك، وهبَته لِيَبْلُوَ شكركَ وصبرَكَ”(1).
2. واجه مشاعرك، وتقبّلها، وعبّر عنها.
3. دوّن مشاعرك وأفكارك وذكرياتك في مذكّرة.
4. التزم بروتين محدّد، ورتّب مهامك وواجباتك لأنّ الحزن الطويل الأمد يشيع الفوضى في حياتك ويجعلك متخبّطاً.
5. تجنّب اتّخاذ قرارات مثل التخلّص من ممتلكات المتوفّى بعد وقت قصير من وفاته؛ لأنّك قد تندم على ذلك لاحقاً.
6. قم بأعمال خير نيابةً عن الفقيد، كالتصدّق عنه والدعاء له.
7. اطلب الدعم من الأشخاص الذين تثق بهم، أو علماء الدين، أو المتخصّصين في الدعم النفسيّ.
إذا سألت شخصاً فقَدَ عزيزاً له عن الطريقة التي تغلّب بها على حزنه، سيخبرك أنّه لم يفعل؛ فالحقيقة أنّك لن تتغلّب على الحزن، بل تتعايش معه وتتقبّله، وتواجه الحياة بحقيقة جديدة هي عدم وجود من تحبّ فيها. فإذا عرف العبد أنّ الله لم يبتلِه إلّا لما هو خير له وصلاحه، يسهل عليه الصبر والتحمّل، بل يستوجب ذلك منه الشكر والرضى.
*معالجة نفسيّة.
(1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 75، ص 243.