الشيخ تامر محمد حمزة
إن ارتباط الشيعة بالإمامة والولاية تجذّر مع مرور الأيام والليالي ومع اتساع رقعة انتشارهم الجغرافي وتوزّعهم الديمغرافي، وأضحى الإمام عليه السلام أهم عنصر تعتمد عليه الشيعة ويرجعون إليه في قضاياهم ومشكلاتهم الفردية والاجتماعية، ويقوم بتلبية حاجاتهم الفكرية والروحية والمادية. ومن ادعى أن الإمام أصبح يشكل كل شيء في حياتهم لكان صادقاً. ولذا، كانوا يبادرون إلى السؤال عن الإمام الخلف. وهكذا، تعود الشيعة على التواصل مع شخص الإمام عليه السلام لأكثر من قرنين تقريباً، وعلى ذلك جرت عادتهم وثقافتهم. وأما غيبة الإمام عنهم فترة طويلة من الزمن، فهي حدث جديد يحتاج إلى ثقافة جديدة حتى يتربوا عليها ويتقبلوا فكرة عدم رؤيته. ولا أبالغ إن قلت إن الحدث الكوني الكبير بظهور الإمام بالنسبة لنا لا يقل عن حدث الغيبة للإمام عليه السلام بالنسبة للشيعة المعاصرين لزمانها.
ومن هنا، تتبين لنا عظمة وخطورة الدور الذي أوكل إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام ولأبيه الإمام الهادي عليه السلام، لا سيما بملاحظة الظروف الصعبة والحرجة المحيطة بالإمام. ولذا، عليه أن يؤدي دوراً مهماً جديداً وهو تربية الشيعة على ثقافة غيبة الإمام. ويمكن القول بأن هذه التربية بدأت في ظل إمامة الإمام علي الهادي عليه السلام، لجهة أن تهيئة الشيعة على الثقافة الجديدة تحتاج إلى هذه المدة من الزمن، خصوصاً أن مدة ولاية الإمام العسكري كانت قصيرة جداً، مع صرف جل اهتمامه لحماية المولود الجديد. وأما الأعمال التي أنجزها للتهيئة للغيبة، فهي:
أولاً: سريّة حياة الإمام منذ الولادة:
إن الظروف المحيطة بولادة الإمام الحجة عجل الله فرجه كانت سرية للغاية، لأن السلطة العباسية كانت تراقب دائماً دار الإمام العسكري وزوجاته وكل ما يتعلق به، وقد أشار الإمام العسكري عليه السلام إلى هذه الظروف بقوله: "فسعوا (بنو العباس) في قتل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولد القائم أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون"(1). وأما بالنسبة لولادته، فلم يتسنَّ الاطلاع عليها إلا للسيدة حكيمة عمة الإمام العسكري، والتي فوجئت بأصل الحمل به، وكانت بعد منتصف الليل قريباً من الفجر. وعمل الإمام جاهداً ليبقى المولود الجديد بعيداً عن الأنظار، ولم يطلع عليه إلا خواص الخواص من أوليائه لينقلوا إلى الشيعة أن إمامهم قد ولد لرفع شبهة عدم ولادته. ومن هنا، نفهم مضمون بعض الروايات التي نهت عن استعمال اسمه، ويدل عليه توقيعه الشريف "ولد لنا مولود، فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً، فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والولي لولايته"(2). وقد رسم لنا الإمام العسكري عليه السلام الطريق إلى مولوده في ثمانية عشر حديثاً تلويحاً وتصريحاً، منها قوله: "إن الإمام وحجة الله من بعدي ابني سميّ رسول الله صلى الله عليه وآله وكنيه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه، فسأله: ممن هو؟ فقال: من ابنة ابن قيصر ملك الروم، ألا أنه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة ثم يظهر"(3).
ثانياً: الإعداد الفكري للغيبة:
لقد جرى الإمام العسكري عليه السلام على طريقة آبائه وأجداده عليهم في استعراض فكرة الغيبة وإمكانها ثبوتاً ثم تطبيقها على ولده القائم. وكان الحث والتركيز على الثبات في غيبته. وبما أن الإمام المهدي يمثل عنصراً من عناصر الغيب، فكان يسهل عليهم قبول فكرة الغيبة، لأن الإيمان بعالم الغيب هو توأم الإيمان بعالم الشهادة. وكان يخاطب الغائبين فضلاً عن المعدمين، ومن هم لا يزالون في أصلاب الرجال، عن طبيعة مرحلة الغيبة وما يقع فيها من بلاءات ومصائب، وفي الوقت نفسه يدعوهم إلى التصبر والتجلد والاحتساب ويزرع فيهم الأمل بالظهور وأن المنتظر له هو في عبادة وكالمتشحط في دمه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله، كما جاء في بعض الروايات عن الحسن بن محمد بن صالح البزّاز يقول: سمعت الحسن بن علي العسكري عليه السلام يقول:"إن ابني هو القائم من بعدي وهو الذي تجري فيه سنن الأنبياء بالتعمير والغيبة حتى تقسو القلوب لطول الأمد، فلا يثبت على القول به إلا من كتب الله عز وجل في قلبه الإيمان وأيده بروح منه"(4). ومن أهم الأفكار التي كان يؤكد عليها الإمام ويحث الشيعة عليها هي معرفة الإمام عليه السلام، كما جاء في الحديث عن أبي علي بن همام قال: سمعت محمد بن عثمان العمري يقول : سمعت أبي يقول: سئل أبو محمد الحسن بن علي عليه السلام وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه عليهم السلام: إن الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه إلى يوم القيامة، وإن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، فقال عليه السلام: إن هذا حق كما أن النهار حق. فقيل له: يا بن رسول الله، فمن الحجة والإمام بعدك؟ فقال: ابني محمد هو الإمام والحجة بعدي، من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية"(5).
ثالثاً: الإعداد الروحي:
اعتاد الشيعة على التواصل مع الأئمة برؤيتهم ومجالستهم ومحادثتهم من دون واسطة على الإطلاق حتى زمن الإمامين العسكريين(عليهما السلام)، إذ نجد أن وسيلة الاتصال والتواصل أخذت منحى جديداً لدى الشيعة، إذ لم يعد بمقدور أي شخص أن يلقى الإمام متى شاء. ومن هنا، كانت الخطوة الأولى لبداية نشوء ثقافة جديدة لدى الشيعة ولإعدادهم نفسياً للمرحلة القادمة. وكان من خلال احتجابه عنهم بل وحجب ولده الإمام العسكري عنهم يهيئهم لما يستشرفون من الغد الآتي الذي يغيب فيه عنهم إمامهم، ولذا نجد أن الكثير من الشيعة لم يعرفوا الإمام العسكري إلا بعد وفاة أخيه محمد، حيث اخذ الإمام الهادي عليه السلام بالاهتمام به لإتمام الحجة على الناس. ولقد استمر الإمام الحسن العسكري عليه السلام في نفس الأسلوب من سياسة الاحتجاب وتقليل الارتباط المباشر به، ليألفوا الطريقة الجديدة من دون أن يشكل لهم ذلك صدمة نفسية تدفع بالبعض إلى التخلف أو الارتداد. ويمكن أن نكتشف ثلاثة طرق للتواصل مع الشيعة:
أ- الاتصال المباشر، وكان قليلاً جداً ومع أفراد مخصوصين من أوليائه.
ب- المكاتبات والتوقيعات: لقد جمع الإمام العسكري بين أمرين في التوقيعات: تعويد الشيعة على ثقافة الغيبة، والعمل على عدم حصول خلل في حاجاتهم الفكرية والروحية والمادية. ومن هنا ندرك أن التوقيعات كلها أو جلها كانت تصدر عن الإمام العسكري، ولم نجدها في طريقة آبائه السابقين. ومن جهة أخرى، ندرك أيضاً أن أكثر ما وصل إلى الشيعة كان عبارة عن توقيعات منه، ويدل عليه التوقيع الشريف لإسحاق بن يعقوب المتضمن لأكثر من ثلاثين سؤالاً، من جملتها جوابه على سؤال حول من الذي يُرجع إليه في الحوادث الواقعة.
ج- الارتباط عبر الوكلاء: بما أن عصر الإمام العسكري يشكل الحلقة الجوهرية للانتقال من عصر الحضور والشهود إلى عصر الغيبة، كان ذلك يستدعي الاعتماد على الوكلاء، ويقتضي وضع نظام يحكم كامل تصرفاتهم، خاصة وأن العدد ليس بقليل، إذ عيّن الإمام العسكري وكيلاً في كل منطقة يوجد فيها شيعة من شيعته، وكانوا يمثلون حلقة الوصل بينه وبينهم، واستمر هذا النظام إلى ما بعد شهادة الإمام العسكري، ثم اعتُمد كأسلوب وحيد تقريباً في عصر الغيبة الصغرى. ويعتبر هذا الأسلوب من العوامل النفسية المهمة والرئيسية لاستمرار الارتباط بالإمام عليه السلام ويدل عليه ما جاء في العمري وابنه محمد: "العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك فعني يؤديان، وما قالا فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان"(6).
رابعاً: التنظيم العملي للارتباط بالإمام:
ومما يزيد في عظمة دور الإمام العسكري عليه السلام أنه لم يتوقف دوره عند تهيئة الشيعة لعصر الغيبة، بل المهمة الصعبة هي تهيئة الظروف لعصر الغيبة الكبرى، إما من جهة تربية الشيعة على هذه الثقافة أو من جهة تحديد المرجعية الحقيقية الصالحة التي تقوم مقام الإمام والوكلاء والتوقيعات، ومن هنا، نجد أن مواقف الإمام العسكري عليه السلام الإيجابية من العلماء والرواة المأمونين على حلال الله وحرامه وإرجاع الشيعة إليهم منسجمة مع المرجعية الحقيقية في ظل الغيبة الكبرى، كما جاء في قوله: "فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه"(7).
نحن الآن الذين نعيش في ظل الغيبة الكبرى نجد أن ما خطط له الإمام العسكري وأن الإجراءات التي اتخذها هي عين الحقيقة لضمانة استمرار الارتباط بين الإمام والشيعة، مهما طالت الغيبة ومهما كثر الشيعة، ولم يبق منها اليوم إلا وسيلة واحدة لعموم الشيعة ألا وهي الحوزة العلمية، والذي ترجم حقيقة الارتباط هو روح الله الموسوي الخميني قدس سره، ومن بعده سماحة ولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي دام ظله.
(1)إثبات الهداة، ج3، ص570.
(2)كمال الدين وتمام النعمة، ج2، ص418.
(3)إثبات الهداة، ج3، ص 569.
(4)كمال الدين وتمام النعمة، ج2، ص524.
(5)كمال الدين وتمام النعمة، ج2، ص 409.
(6)الغيبة الصغرى 219.
(7)تفسير الإمام العسكري عليه السلام، ص 141، والاحتجاج للطبرسي، ج2، ص 263.