مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الإمام العسكري عليه السلام في مواجهة السلطة والأدعياء

الشيخ إبراهيم البدوي



على الرغم من التَّشدُّد الذي مارسته السُّلطة العباسيَّة الحاكمة في منتصف القرن الثّالث الهجريّ على مناوئيها عموماً، وعلى الإمام الحسن بن علي العسكري عليه السلام خصوصاً، حيث عملت على حجبه عن أتباعه وشيعته، ومنعه من التواصل مع الناس على نطاق واسع وعلني، إلا أنه لم يألُ جهداً في النهوض بمسؤولياته التي يرتبها عليه مقامُ الإمامة من نشر علمه بين الناس ضمن الحدود المتاحة له، ومن التواصل الاجتماعي مع مختلف طبقات المجتمع بهدف الهداية والتبليغ ونشر الإسلام الحنيف، والتعامل مع الوضع السياسي القائم بما يحفظ الدين، ويحمي المؤمنين من كيد الظلمة وبما يحفظ غرسة الإسلام المحمدي الأصيل التي غرسها جده الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وعمل آباؤه الطاهرون على رعايتها وسقايتها وحمايتها بكل ما أُوتوا من قوة.

فعلى الصعيد العلمي لم تتمكن السلطة من منع المريدين والمتعلمين الذين يرغبون برواية الحديث عنه عليه السلام من التواصل معه للنهل من معين علمه، فكان عليه السلام لا يبخل عليهم بما علَّمه الله. وسرعان ما كان يؤثر فيهم بشخصيته الفذة وهيبته الجاذبة، ليحولهم إلى مصابيح تضيء في ليل الجهل في مناطقهم ونواحيهم، يدعون إلى الحق، ويهدون الأمة إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام. ولا يخفى على المتتبع لسيرته عليه السلام أنه كان يركز على تفسير الآيات القرآنية بما يوجّه الناس إلى سلوك سبيل الفضائل والاستقامة، حتى جمعت دروسه في التفسير، فكانت كتاباً خاصاً عرف باسم: التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام.

لمحة عن الوضع الاجتماعي والسياسي في عهد الإمام العسكري عليه السلام
من المعلوم لدى الجميع أن الخلفاء العباسيين أوغلوا في ممارسة الإرهاب والقمع، وسرقة أموال الأمة والإسراف في صرفها على لهوهم وملذَّاتهم. فكانوا ينفقون أموال المسلمين على أنفسهم وحواشيهم، كما كان كل خليفة يفرق على رؤساء جنده، وأقاربه وأرحامه، فضلاً عن الشعراء المتزلفين إليه الأموال الطائلة التي تعد بآلاف الألوف فيما كانت الرَّعيَّة تعاني الأمرَّين من الفقر والحرمان بما لا يخفى على أحد. ولم يكن الحال على الصعيد السياسي بأفضل منه على الصعيد الاجتماعي، فقد كان القمع بحدِّ السيف هو السبيل الوحيد لمعالجة الأزمات، فما أن يحاول أحد أن ينطق بكلمة ضد الحكم حتى يلقى السَّيف له جواباً. فمثلاً عندما انتفضت بلاد الشام ضد الحكم العباسي في عهد المتوكل بعث إليهم بجيش قوامه ثلاثة آلاف راجل وسبعة آلاف فارس. فدخلوا الشام، وأباحوا دمشق ثلاثة أيام (1). كما أباح المستعين بالله مدينة حمص ثلاثة أيام أيضاً للسَّبب عينه (2).

وفي ظل هذا الوضع السياسي القاتم فرخت المعارضة الكارهة لحكمهم، واندلعت في عصر الإمام العسكري عليه السلام ثورات عدة قادها رجال طالبيون وغير طالبيين. وكان أبرز هذه الثورات ثورة يحيى بن عمر الطالبي الذي خرج في الكوفة فاستولى عليها وأخرج من كان في سجونها، ولكنها ما لبثت أن قمعت من قبل العسكر العباسي (3). وكان بعض هذه الثورات يلقى لوناً من التَّأييد من قبل الإمام عليه السلام، بينما تلقى الأخُرى اعتراضاً واضحاً منه عليه السلام لما كانت تقوم به من انتهاكات خطيرة، من قبيل حرق البيوت ودُور العبادة، فضلاً عن القتل الذريع وسبي النساء، وذلك كما حصل إبان ثورة علي بن عبد الرحيم من بني عبد القيس المعروف بصاحب الزنج، وهو من الأدعياء الذين زعموا الانتساب إلى الذرية الطاهرة بهدف جذب المؤيدين لثورته، حتى كتب الإمام الحسن العسكري عليه السلام إلى محمد بن صالح الخثعمي في خصوص فرية صاحب الزنج، مبيِّناً كذبه قائلاً: "صاحب الزنج ليس من أهل البيت"(5).

* الإمام العسكري وخلفاء عصره
وُلد الإمام الحسن العسكري عليه السلام في الثَّامن من ربيع الآخر سنة 232هـ (6)، في آخر ملك الواثق بالله ابن المعتصم (227ـ132هـ) ثم عاصر أخاه جعفر ابن المعتصم المعروف بالمتوكل، ثم ابنه المنتصر بالله، ثم المستعين بالله أحمد ابن محمد المعتصم، ثم المعتز بالله ابن المتوكل، وفي خلافته تولى الإمام العسكري عليه السلام دفة الإمامة بعد أبيه الهادي عليه السلام، وذلك في الثالث من رجب سنة 254هـ. ثم جاء المهتدي بالله محمد ابن الواثق، ثم احمد بن جعفر المتوكل المعروف بالمعتمد الذي حكم نحو ثلاث وعشرين سنة.  من هنا، لم يكن الوضع السياسي آنذاك يسمح للإمام عليه السلام بالقيام بأي عمل مناوئ للسلطة على نحو علني ومباشر، لأنه كان موضوعاً تحت رقابة مشددة، ومع ذلك فقد عمد الخليفة المعتز إلى اعتقاله وإيداعه السجن، فبقي مسجوناً إلى أن ضاق ذرعاً، فدعا على المعتز فانتقم الله منه حيث قتل بعد ثلاثة أيام شرَّ قتلة على يد الأتراك (7). وعندما بويع المهتدي بالخلافة أوعز إلى جلاوزته باعتقال الإمام عليه السلام وإيداعه السجن، فلبث في السجن بضعة أيام إلى أن ثار عليه الأتراك، وقتلوه (8).

ثم جاء دور المعتمد العباسي، فلم يترك وسيلة للتضييق على الإمام إلا وفعلها، لأنه كان يخاف أن يتحرّك ضدّه، فلم يكتفِ بزرع العيون حوله حتى أمر باعتقاله وزجِّه في السجن مع أخيه جعفر، وأمر السَّجَّان أن ينقل إليه أخباره، فلم ير منه إلا صيام النهار وقيام الليل، فأمر المعتمد بإخراجه من السجن. وبما أنَّ دور الأئمة عليهم السلام هو امتداد لدور الأنبياء عليهم السلام، فقد كانوا يقومون بدور الإصلاح الاجتماعي والسياسي بكل ما أوتوا من قدرة، فكانوا يجهدون في خلق قُوَّة سياسيَّة فاعلة في المجتمع عبر قيادتهم المباشرة للمؤمنين والأصفياء من شيعتهم، وهكذا حتى انتهى الأمر إلى الإمام العسكري عليه السلام الذي كانت طريقته في التواصل معهم تقتصر على المراسلات؛ تجنباً لأعين الرُّقباء من أتباع السلطة كما يشهد بذلك عمل وكيله عثمان بن سعيد العمري السَّمَّان الذي كان يبيع السَّمن، فيدور في القرى والأرياف ليجمعه من أهلها، ثم يأتي ليبيعه في سر من رأى، ومن خلال جمعه للسَّمن كان يقوم بإيصال الرسائل والأمانات والحقوق الشرعية من وإلى الإمام عليه السلام دون أن يترك السلطة العباسية تشعر بشيء من نشاطه (9).

نعم، كان أسلوب الكتمان والتَّقيَّة هو الأسلوب السَّائد في نشاط الإمام العسكري عليه السلام، وكان يوصي به أصحابه، ويشدِّد عليهم في ذلك، فيقول: "إنما هو الكتمان أو القتل" (10). ومن وصاياه لهم محدداً المنهج الذي ينبغي لهم أن يتبعوه في تلك الظروف الصعبة: "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من بَرٍّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد صلى الله عليه وآله. صلّوا في عشائرهم واشهدوا جنائزهم وعُودوا مرضاهم، وأدُّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا وَرِع في دينه وصدق في حديثه وأدّى الأمانة وحسَّن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي، فيسرّني ذلك. اتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل من حسن فنحن أهله، وما قيل من سوء فما نحن كذلك" (11).  وهكذا قضى الإمام عليه السلام حياته يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وينشر علوم أهل البيت، ليحفظ الدين الحنيف من كيد المتربصين به شراً إلى أن قضى مسموماً في زمن المعتمد (12)، فسلام الله عليه حين ولد وحين استشهد وحين يبعث حياً.


(1) تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 20، ص 39.
(2) تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي، ج 2، ص 496.
(3) انظر الكامل في التأريخ، ابن الأثير، ج 7، ص 126 130.
(4) كشف الغمة، ابن أبي الفتح الإربلي، ج 3، ص 220.
(5) بحار الأنوار، المجلسي، ج50، ص 293.
(6) تاج المواليد، الشيخ الطبرسي، ص 57.
(7) انظر: الكامل في التأريخ، م. س، ج 7، ص 195 198.
(8) انظر: تاريخ الطبري، الطبري، ج 7، ص 582 593.
(9) انظر: الغيبة، الشيخ الطوسي، ص 354.
(10) الخرائج والجرائح، قطب الدين الراوندي، ج 1، ص 447.
(11) تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 488.
(12) حياة الإمام المهدي عجل الله فرجه، الشيخ باقر شريف القريش، ص 108.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع