تحقيق: نقاء شيت
في صوَر التقطت في مبرّة السيّدة زينب عليها السلام، منذ ثلاثين عاماً أو أكثر، يظهر رجل ثلاثينيّ وقور، يتحلّق حوله الأطفال، فيما يرتدي أحدهم عمامة وجُبّة. لم تكن عمامة الطفل هي الشيء اللافت في الصور، بل كميّة الفرح الظاهر في ابتسامات الأطفال المبهجة وعيونهم المتلألئة، كأنّما ما قالوه عنه يظهر عياناً في تلك الصور: "كان الشيخ أباً لنا". عن شيخٍ تكفّل أيتاماً، لم يشعروا باليتم الحقيقيّ إلّا عند شهادته، عن الشيخ راغب حرب وأبنائه ومبرّة السيّدة زينب عليها السلام، كان هذا التحقيق.
* رجل الإنجازات
دأب الشيخ راغب على مساعدة الناس إنسانيّاً، واجتماعيّاً، وثقافيّاً، وخدماتيّاً، حتّى كان له العديد من الإنجازات، حسبما يطلعنا السيّد موسى فحص (عديل الشيخ)، منها: إنشاء مكتبة إسلاميّة عامّة في جبشيت عام 1968م، ثمّ النادي الرياضيّ، وكشّاف الجرّاح، فضلاً عن مساعدة الفقراء والشباب المقبلين على الزواج وتيسير أمورهم. ولكنّ أعظم ما قام به الشيخ راغب كان تأسيس مبرّة السيّدة زينب عليها السلام في جبشيت.
* دوافع تأسيس المبرّة
يخبرنا الحاج أنيس حرب (ابن عمّ الشهيد)، والذي تسلّم إدارة المبرّة إلى ما بعد شهادة الشيخ بفترة زمنيّة محدّدة، أنّ تأسيس المبرّة كان له سببان، أحدهما مباشر والآخر غير مباشر. فالسبب المباشر يكمن في الحاجة لوجود مكان يتربّى فيه الأيتام تربية إسلاميّة صحيحة، وعدم توفّر ذلك في المشاريع الموجودة في المنطقة، بل لقد كان بعض تلك المشاريع يحمل مشروعاً يشكّل خطراً على تربية الأيتام ودينهم، فأراد الشيخ الشهيد التصدّي له، ولا سيّما أنّه كان يحمل همّ نشر الدين، وتوعية الناس على تعاليم الإسلام ومواجهة الاحتلال. أمّا السبب غير المباشر، فيعود لما خلّفته الحرب الأهلية من حالات يتمٍ في جبشيت وضواحيها، فاعتبر الشيخ حينها أنّ الاهتمام بهذه الحالات وإيواءها هما جزءٌ أساس من رسالته الإسلاميّة. من هنا، قرّر إنشاء مبرّة لهؤلاء الأيتام، فتشاور لهذه الغاية مع فعاليّات البلدة، ومع العلّامة الراحل الشيخ محمّد مهدي شمس الدين في بيروت، وتمّت الموافقة على تنفيذ المشروع. وموّل الشيخ شمس الدين المشروع عبر جمعيّته الخيريّة الثقافيّة، وكذلك فعلت فعاليّات وأهالي جبشيت، مقدّمين الأموال، واليد العاملة، وتصميم الخرائط الهندسية للمشروع، مضافاً إلى استغلال قطعة أرض للوقف، وكان ذلك في أواخر سنة 1979م.
* سبب التسمية
يكمل الحاج أنيس حديثه عن اسم المبرّة، ويقول إنّ الاسم جاء تيمّناً بالسيّدة زينب عليها السلام، ودورها في كربلاء، وما بعد كربلاء، من رعايةٍ لأيتام الإمام الحسين عليه السلام والشهداء، وما حملته من رسالةٍ كبيرة للعالم ساهمت في نشر الحقّ والديانة الإسلاميّة.
* بدء العمل واحتضان الأيتام
بدأ العمل في تأسيس المبرّة منذ العام 1980م، ومن حينها استشعر الشيخ أهميّة بدء استقبال الأيتام، غير أنّ المبنى لم يكن جاهزاً بعد، فاستؤجرت غرف تحت حسينيّة جبشيت ليسكنوا فيها. ومع بدء العام الدراسيّ في السنة الأولى، بلغ عدد الأطفال أربعة، وبدأ يزداد ليصبح 18 طفلاً يتيماً. كانوا جميعهم من الفتيان، وأعمارهم تتراوح بين 4 و10 سنوات. في السنة الثانية، ازداد العدد إلى 46، وفي السنة الثالثة بلغ عددهم 118 يتيماً.
* عائلة واحدة
في السنة الثانية، انضمت فتيات إلى أسرة المبرّة، لكنّ المبنى لم يكن مجهّزاً حينها لاستقبالهنّ، فآثر الشيخ على نفسه، واستضاف في منزله خمسين فتاةً يتيمةً أسكنهنّ مع عائلته وأطفاله. أمّا منزله، فكان مؤلفاً من 4 غرف، فقسّمها إلى غرفتين للفتيات وغرفتين لعائلته وأطفاله. هنا، تخبرنا زوجة الشيخ الشهيد "أمّ أحمد" أنّهم كانوا يعيشون جميعاً كعائلةٍ واحدة. فكان الشيخ يعامل الفتيات كأنهن بناته، ويهتم بالجميع على حدّ سواء، دون تمييز بين بناته واليتيمات، حتّى إنّه لم يكن يقبل أن يأكل الأيتام إلّا أفضل الطعام وأجوده. وقبل أن يفتتح المدرسة في مبرّة السيّدة زينب عليها السلام عام 1983م، كان يسجّلهنّ في أفضل المدارس في المنطقة. وتؤكّد حوراء، ابنة الشيخ الشهيد، أنّه لم يكن هناك أيّة غيرة بينهم وبين الفتيات اليتيمات، بل كنّ يتعايشن معاً كأخوات في منزل واحد، يلعبن، ويأكلن، ويدرسن، وينمن معاً.
* شهادة حيّة: غصّةٌ ودموع
وتؤكد ذلك الأخت فاتن السيّد، التي تبلغ اليوم من العمر ٤٠ عاماً، حيث توفّي والدها وهي في سنّ السادسة، وقد أرشد أحدهم والدتها إلى الشيخ راغب، وأعلمها بأنّه يحتضن الأيتام، فما كان منها إلّا أن تذهب بأولادها الستّة إليه (ثلاثة فتية وثلاث فتيات). تقصّ لنا فاتن الأحداث بغصّة واضحة، فتقول: "كان الشيخ بمثابة الأب الحنون لنا، لذلك لم نشعر باليتم معه". وتضيف: إنّها عاشت وأخواتها داخل منزل الشيخ مع أسرته كعائلة واحدة، فلم يفرّق يوماً بينهم، فيما كان إخوتها الفتية يقيمون في الغرف المستأجرة تحت الحسينيّة. وعندما اكتمل مبنى المبرّة، انتقلوا جميعاً إلى هناك. تقول فاتن إنّه لم يتغيّر عليهم شيء منذ انتقالهم؛ لأنّ الشيخ كان يزورهم بشكل يوميّ، ويلاعبهم، ويهتمّ لأمرهم، كما أنّه كان يتفقّدهم ليلاً بعد أن يناموا. وتتابع ببسمة لا تحجب الدموع: "كانوا عندما يبحثون عن الشيخ يجدونه معنا في المبرّة، فقد كان يقضي نصف وقته بعد العمل معنا، قبل ذهابه إلى بيته".
* صمود رغم التهديدات
بما أنّ مبرّة السيّدة زينب عليها السلام كانت تُنسب إلى الشيخ راغب حرب، فإنّها كانت مستهدفةً كما كان هو تماماً، فقد هوجمت بشكلٍ دائم من قِبل الصهاينة، وتعرّضت للمداهمات في أوقاتٍ مختلفة، بهدف الضغط على الشيخ والعاملين معه، وترهيب الأطفال، إلّا أن ذلك لم يثنِ من عزيمتهم. لدرجة أنّه في إحدى المرّات، اقتحم الصهاينة المبرّة، بينما كان الأطفال ينشدون الأناشيد الثوريّة، فلم يخافوا، بل واصلوا الإنشاد بشكلٍ طبيعيّ.
* الطريق إلى الجنّة
يقول الحاج عماد عواضة (أحد أصدقاء الشيخ المقرّبين): "إنّ الشيخ كان الأب الحنون، والحضن الدافئ للأطفال"، ويضيف، وهو يحبس الدموع في عينيه، وينظر بعينين ثاقبتين كأنّه انتقل إلى ذلك الزمن من جديد: "تخايلي معي"، عبارة ردّدها كثيراً وهو يحدّثنا عن قصص الشيخ الشهيد، "هلأ الشيخ فايت ع المبرة وفي 118 طفل بدهم يركضوا عليه، يتسابقوا على حضنه، مين بده يعبطه، ومين بده يلبس عمامته، ومين بده يلبس العباية!". ويتابع الحاج عماد قائلاً: "كان الشيخ يلاعب الجميع، ويسمح للأطفال بارتداء عمامته وعباءته، ويلتقط لهم الصور. كان يأتي ليلاً ليتفقّدهم، يتأكّد من أنّهم مرتاحون في نومهم، ومنعمون بالسلام والدفء. وكان يردّد دائماً عبارة: (شو بدكم الجنة بربع ليرة؟! هول فيهم الجنة، ممنوع تزعلوهم!) (قاصداً الأطفال)". كما كان الشيخ، وبحسب الحاج عماد، يقيم مأدبة غداء في المبرّة، يستضيف فيها وجهاء البلدة كلّهم، ويُجلس كلّ شخصيّة على طاولة مع عددٍ من الأطفال. كان همّه أن يحرّك مشاعر هؤلاء نحو الأيتام. مضافاً إلى ذلك، أُطلق على الشيخ لقب "عتّال الأيتام"؛ لأنّه كان يلاعبهم، ويحملهم على ظهره.
* بابٌ إلى الجهاد
أمّا عن هدف المبرّة، فيخبرنا الحاج عماد، أنّ الشيخ كان يسعى لإنشاء جيل مقاوم مناهض للاحتلال، ممهّد لإقامة دولة العدل الإلهيّة على الأرض، ألا وهي دولة الإمام صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وبذلك خرّجت المبرّة كوكبة من الشهداء الذين إمّا كانوا من طلّابها أو عاملين فيها، من أمثال الشهداء: السيّد محمد مرتضى، الحاج حسين جواد، يوسف ضياء، عدنان وحسين بدران، محمد عرابي، وغيرهم الكثير.
* "استشهد أبوكم!"
كانت لحظة الشهادة صدمة كبيرة على الأطفال، فهم خرجوا من المبرّة دون أيّ إذن، وراحوا يركضون خلف جثمان الشهيد حفاةً، يهتفون له، ويبكونه بحرقة. كان المشهد يرتسم أمامنا من جديد، من خلال نظرات الحاج عماد، وصدى صوته يُسمعنا هتافات هؤلاء الأطفال وصراخ لوعتهم، فلم يردعهم في ذلك اليوم الرصاص الذي أطلقه جنود العدوّ الصهيونيّ على المشيّعين. تقول فاتن، وهي تتذكّر مشهد الوداع بنظراتٍ جامدة وكأنّه تمثّل أمامها من جديد: "إجت أمّ الشيخ لابسة عمامته، كلّها دم، صارت تبكي وتقول: (استشهد أبوكم)".
* رحيل الأمل
وهكذا، ارتحل كافل الأيتام، صاحب الأيادي البيضاء والعطاءات العظيمة، ليلتحق برَكب الأولياء الشهداء، مخلّفاً وراءه مجموعة أيتامٍ خسارتهم كبيرة.. كيف لا، وهم فقدوا ذلك الأب الحنون، الأمن والأمان، وكلّ أملهم ومستقبلهم الواعد!