اعتُبِرَ تعليق قائد الثورة الإسلامية والولي الفقيه سماحة القائد السيد علي
الخامنئي"دام ظله" على الأحداث الأخيرة في إيران بعد الانتخابات الرئاسية حول الحرب
الناعمة لإسقاط النظام في إيران تعليقاً استراتيجياً دقيقاً، أصاب كبد الحقيقة،
وإيذاناً بمرحلة جديدة من المواجهة مع الغرب والعدو الإسرائيلي. فالعدو استخدم هذه
المرة تكتيكات الحرب الناعمة، وهي عبارة لم تكن مألوفة في الأذهان على الأقل على
المستوى الجماهيري والشعبي، فما هي هذه الحرب؟ وما هي أسسها وركائزها وتكتيكاتها؟
وكيف نواجهها؟
في الاستراتيجيات والخطط الأميركية معادلةٌ لاستعمال القوة، تقوم على
أنه "عندما تفشل الطرق الدبلوماسية ومن ثم الطرق العسكرية التقنية والمادية في
تطويع إرادة العدو، يجب استعمال القوة والحرب الناعمة التي تقوم على برامج تزييف
الوعي وزعزعة العقائد وتسميم إيمان وثقة الجماهير بالنظم المعادية لأميركا؛
لإرباكها بصراعاتٍ ونزاعاتٍ وأزماتٍ داخلية، تنهك قواها، وتحدث بها حالةً من التآكل
والاهتراء تُمهِّد لإسقاطها". فقد توصل جوزيف ناي مؤلف كتاب "القوة الناعمة SOFT POWER" إلى أن "سبب إخفاق الولايات المتحدة الأميركية
في حروبها الأخيرة أفغانستان والعراق ناجم عن فرط استعمالها لقوتها الصَّلبة على
حساب قوتها الناعمة.
ويأتي على رأس القوة الناعمة قوة التأثير في ساحة الأعداء وبرمجة
الوعي عبر الوسائل الإعلامية وغيرها". هذا الاستنتاج توصَّل إليه الباحثون في
الكيان الإسرائيلي المعادي بعد عدواني 2006 على لبنان و2009 على غزة. وهم أي
الإسرائيليون أكثر من استعمل مصطلح "كي الوعي"، وهو شبيه بمصطلح الحرب الناعمة. وقد
جاء في نص لميخائيل ميلشتاين الباحث في مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي: "إن
تفوق إسرائيل يحتاج إلى معركة صبورة، استنزافية، مديدة السنين، لا ترتكز فقط على
كسر القوّة العسكرية لقوى المقاومة، وإنما تسعى أيضاً لتقويض المراكز التي تتبلور
فيها الأفكار ومنها تنغرس في وعي الجمهور الواسع.
وفي هذا الإطار يبرز على وجه
الخصوص دور أجهزة الإعلام والتعليم والمراكز الدينية في المنطقة الحاضنة للمقاومة.
ويبدو أنه فقط بعد أن نحدث التغيير الجوهري والطويل الأجل في أنماط عمل هذه المدارس
والجامعات ووسائل الإعلام والمساجد والمؤسسات الدينية في العالم الإسلامي يمكن أن
نلغي فكرة المقاومة من الوعي، ونهزمها".هذه النصوص والاعترافات تعبّر بوضوح عن خيبة
الأمل الأميركية والإسرائيلية والشعور بالعجز عن كسر نظام الجمهورية الإسلامية في
إيران وقوى المقاومة في لبنان وفلسطين، والفشل في اختراق وعي جماهيرنا الإسلامية،
التي تمسكت بقادتها وبأهدافها، وأفشلت المخططات المعادية للسيطرة على قلب العالم
الإسلامي. وقد ساعد تطور وسائل الإعلام أجهزة المخابرات من تطوير الوسائل التي
تستعملها في عمليات التأثير الناعم وبرمجة الوعي وتضليل الرأي العام على وسائل
فردية إلى وسائل تأثيرٍ جماهيريةٍ عامةٍ، تستهدف الدول والأحزاب والتنظيمات المسلحة
(المقاومة).
* التأثير الناعم وبرمجة الوعي
وسنبدأ بعملية تشريح علمي للتأثير الناعم ولبرمجة الوعي، ونوضح كيف تحصل هذه
البرمجة. الوعي في المفهوم المصطلح عليه هو الهُوية الذاتيّة للشخص، وجوهر عقله،
واتجاهات مزاجه النفسي، وميوله القلبية والاعتقادية... والوعي مفتوح ومرتبط أشد
الارتباط بالدماغ والجهاز العصبي من الناحية الفيزيولوجية والبيولوجية، ويتأثر
بالبصريات والمسموعات والمقروءات أشد التأثير عن طريق سلسلةٍ من التفاعلات الفكرية
والنفسية والدماغية والعصبية. والتأثير الناعم وبرمجة الوعي تعني في مدلولاتها
التأثير على وعي جماهير وأفراد العدو؛ بهدف بلبلة أفكارهم وزعزعة عقائدهم والتلاعب
بعقولهم ونفوسهم وإعادة تشييد وصياغة وبناء وعيٍ جديدٍ يتناسب مع متطلبات وأهداف
ومشروعات العدو... وفي حالة الحرب العسكرية، تأتي الحرب الناعمة كمقدمة وتمهيد،
وخاصةً إذا كان العدو دولة أو نظاماً أو تنظيماً مسلحاً. وترتكز فكرة القوة الناعمة
على معادلة تناغم وتكامل وتوازن القوة الصلبة العسكرية والمادية مع القوة الناعمة،
والخطة عندها تختلف بشكلٍ كمّي ونوعيّ وزمني..
ولنقتطف نصاً هاماً وخطيراً، يعبر
بصورة واضحة عن التكتيكات والتطبيقات السرية التي استعملتها الولايات المتحدة
الأميركية في الحرب الناعمة، فقد جاء في أحد النصوص أنه "يجب وضع مخططات لحرب نفسية
وناعمة توجّه إلى إرادة العدو لإضعاف قدرته على المقاومة، واستعمال تكتيكات الحرمان
الحسي والتشويش على الأدمغة؛ لأجل السيطرة السريعة على المحيط وشلّ القدرة على فهم
الأحداث، والتّلاعب بالأحاسيس والمعطيات، وحرمان العدو من القدرة على التواصل
والملاحظة". وإذا أخذنا بصدقية الدراسات والأبحاث العلمية التي تؤكد أن 80% من
منافذ التلقي المعرفي والثقافي مصدرها الحس (البصري والسمعي)، فإن الجهاز المعرفي
والإداركي للإنسان حسي. وربطاً بذلك فإن الجهاز العصبي الذي ينفذ أوامر الجهاز
الإدراكي ينفعل ويتفاعل مع المعطيات والمواد الحسية أشد الانفعال. وعلى هذا الأساس
فإن اعتماد الجمهور في تلقيه المعرفي والثقافي والترفيهي على وسائل الإعلام لا
يحتاج إلى كثرة استدلال. ويكفي أن نشير إلى إحصائية أجرتها كبرى مراكز الدراسات
أظهرت أن الجمهور يتعرض لوسائل الإعلام بمعدل 3 ساعات يومياً، أي ما يوازي 1000
ساعة سنوياً، وهذا التعرض يحدث أثراً هائلاً في صوغ أذهان وميول الناس، وخاصة
الشرائح الرّخوة الأكثر عرضةً للتأثير (الأطفال والمراهقون والشباب). وإذا ما
أضفنا الإحصائية الثانية التي تشير إلى أن 80% من التدفق الإعلامي والمعلوماتي
الصادر عن وسائل الإعلام في السوق العالمي تحت السيطرة والتوجيه الأميركي والصهيوني،
يتضح لدينا حجم التخريب الذي يحدث في عقول وقلوب شبابنا وجماهيرنا.
* مخاطر القوة الناعمة
وعلى جانب آخر، فإن من أبرز مخاطر القوة الناعمة وبرمجة الوعي أنها تحدث بصورة
بطيئة وخفية وسلسة، وبأساليب ناعمة وماكرة وخفية، تؤثر على مداخل اللاشعور واللاوعي
التي تحفر عميقاً في النفس والقلب والعقل، وعبر وسائل إعلام تركز على تقديم الترفيه
والتسلية وأفلام الحركة ACTION والمسلسلات، وبعد أن تدخل هذه المعطيات والمواد عن
طريق تكرار التعرض لهذه المواد إلى مجاري العقل وقنواته لتلتصق في تلافيفه الدماغية
والعصبية، وتنتقل من الأحلام والمنامات وفي إعادة تفريغ اللاشعور وبناء لا شعور
جديد، وفي مرحلة ثانية تفريغ الشعور والوعي وبناء وعي وشعور جديد. وتكون المواد
الإعلامية الموجهة من العدو أكثر تأثيراً بأضعاف إذا أتت من شخصيات وجهات ومؤسسات
إعلامية تلبس اللباس الوطني والقومي والديني المحلي، وتبتعد بالظاهر عن الصبغة
الأميركية، وهذا ما أشار إليه مؤلف القوة الناعمة، حيث إن الجرعة الإعلامية السامّة
لا تؤتي أكلها إلا عن طريق الخداع والسرية.
* سبل المواجهة
* التحصين التربوي والثقافي المبكر
التحصين المبكر أفضل بأضعاف من التحصين بعد التعرض للإصابة، وخاصة لطلبة المدارس
والمعاهد والجامعات، حيث نحتاج إلى تحصين أجيالنا من مخاطر ومضارّ الإعلام تماماً
كما نحتاج إلى اللقاحات الطبية للتحصين ضد الشلل والحصبة وما شاكل. وقد تبنَّت
سبعون دولة في العالم موادّ دراسية لتعليم الناشئة مخاطر ومضارّ الإعلام، وسبل نقد
المواد الإعلامية، وكيفية الاستفادة الإيجابية من وسائل الإعلام.
* تنويع مصادر البثّ الإعلامي الإسلامي
ما يعني زيادة وسائل الإعلام وخاصة البصرية منها لأن الصورة تؤثر في الذهن تسعة
أضعاف ما تؤثّره الكلمة المسموعة أو المقروءة بحسب بعض الدراسات العلمية والعمل على
تنمية جاذبية وسائلنا الإعلامية وتحسين كفاءتها وإتقانها لعملها؛ لتصبح جذابة أمام
هذا المارد الإعلامي الأجنبي المعادي.
* خطابات القادة والتركيز والتوجيه الإعلامي والحضور
الجماهيري على الأرض
إن وسائل الإعلام تعاني هذه الأيام من نقطة ضعف خطرة، هي تنوعها وكثرتها لدرجة أنها
أفقدت القائمين على هذه الوسائل السيطرة والتحكم بأذواق واهتمامات وميول الجمهور.
وتسمى في الاصطلاح "مفارقة الكثرة الغزيرة". وهذه النقطة تساعد قادتنا في التركيز
على جملة نقاط وقضايا وطرحها بشكل مركز ومتكرر على الجمهور في الخطب والمناسبات
بأسلوب جذاب ما يعيد إيقاظ وعي هذا الجمهور وبرمجته بصورة مضادة. ولنا في ما قام به
سماحة القائد السيد حسن نصر الله الأنموذج والمثال، حيث استطاع سماحته بفضل قدراته
الخطابية الهائلة تشتيت جهود العقول المعادية التي تقف وراء هندسة المؤامرات
الإعلامية، وأعاد زرع الأمل وترسيخ الوعي والإيمان في نفوس وعقول جمهورنا وشبابنا.
* الأناشيد الثورية والدينية
إن الأناشيد الثورية تفعل ما لا تستطيع أن تقوم به كبرى وسائل الإعلام. فهي تشدُّ
الشباب نحو فكرةٍ أو قضيةٍ أو مبدأ، بحيث تجعلهم يعيشون الفكرة التي تريد إيصالها
ويتفاعلون معها.
* المساجد
فهي مراكز الإيمان والتفكير والتخطيط والاجتماع والتنظيم في عقيدتنا الإسلامية.
* الثقافة القرآنية وكلام أهل البيت عليهم السلام
تعد الثقافة القرآنية وأحاديث أهل البيت عليهم السلام من أهم الحواجز أمام تمدُّد
أصابع التأثير المعادية إلى عقول وقلوب شبابنا وجماهيرنا، لأن قلوباً وعقولاً
امتلأت بالقرآن وبكلام الله ورسوله صلى الله عليه وآله وبخطب الإمام علي عليه
السلام وسائر أئمة أهل البيت عليهم السلام لا يستطيع العدو أن ينفذ إليها بسهولة.
ومن هنا ينبغي العمل على ترسيخ وتعزيز هذه الثقافة.