في إطار اتِّجاه المجتمعات في العصر الحاضر نحو التخصّص،
أخذت المدرسة الحديثة على عاتقها جزءاً كبيراً من المسؤوليّة التعليميّة والتربويّة
التي كانت ملقاة على عاتق الأبوين بالكامل تقريباً. ولا شكّ أنَّ المدرسة الحديثة
استطاعت أن تبني ثقافة علميّة متنوّعة وواسعة، وعملت على إكساب الطالب كمّاً هائلاً
من المعارف العلميّة، إلا أنَّها لم تعمل بموازاة ذلك بالقدر الكافي على بناء
شخصيّة الطالب، وتنمية قدراته، ومهاراته العمليّة إلا في حدود ضيقة، تقتضيها أحياناً
طبيعة الاختصاص. أمَّا في مجال بناء القِيَم الإنسانيَّة فلم تُبذَل الكثير من
الجهود لإدخالها في سياق أهداف المدرسة، رغم أنَّ العلاقة بين المعارف والمهارات
والقِيَم تجعل التفكيك بينها يمثل تحطيماً للإنسان.
* دور المعلِّم في بناء الإنسان
المعلم يحتلّ الموقع الأهمّ في عمليّة التربية والتعليم في المدرسة المعاصرة.
وإيصال المناهج والوسائل والأنظمة إلى أهدافها رهن بدور المعلم وقدرته على
الاستفادة منها بشكل صحيح، واستخدامها بمهارةٍ وإتقان، وتسخيرها لخدمة الهدف.
المعلم إذاً هو صاحب الدور الأهم والأخطر في العمليّة، وهو الذي يُمسك بأطرافها
كافَّة، وهو الذي يَتعامل مع التلميذ بشكلٍ مباشر، ويرسم بيده معالم شخصيّته،
ويغذّيه بالعلم والمعرفة يوماً بعد يوم، وهو الذي يأخذ بيده نحو المستقبل.وهنا تكمن
خطورة الدور وأهميّته وحساسيّته. فهو يختلف تماماً عن العامل في المصنع أو المزارع
في الحقل أو الموظَّف في متجر... فالمعلِّم إنَّما يقوم بصنع الإنسان، فإذا أساء
الطريقة، أو قصّر فضاعت الفرصة، أو أخطأ الهدف لا سمح الله، فالنتيجة تزويد المجتمع
بإنسان منحرفٍ أو فاشلٍ، أو مفسد، أو عاجز، حيث لا فرصة حقيقية للتعويض والجبران
والإصلاح. فالمعلم إمَّا أن يُحيي الأنفس التي اؤتمن على تربيتها وتعليمها وإمَّا
أن يُميتها؛ لأنَّ الحياة الواقعيّة ليست بالحركة والتنفس وخفقان القلب، وإنما هي
بالوصول إلى سموّ الذات وطهارة النفس وصفائها، هذه الحياة هي التي تترتّب عليها
فاعليّة الإنسان وصلاح منهجه، وصوابيّة أهدافه. يقول الإمام القائد السيد علي
الخامنئي لجمعٍ من المعلمين: "... في أيِّ حلقةِ درسٍ كنتم، وفي أيِّ ظرف أو محيط
حللتم، في الجامعات وأمام الطلاب، في المراحل العليا أو في الثانويات أو في
المدارس الابتدائية أو التمهيدية، في الحوزات العلمية، وفي أيِّ محيط تعليميٍّ...
فأنتم محور حركة المجتمع، وأنتم أيُّها المعلمون ميزان العمل الصحيح في المجتمع،
المهم أن تؤدّوا دوركم في تعليم الآخرين...". ثمّ يقول: "إنَّه لمهمٌّ جداً أن
يؤدّي الإنسان دوراً حسّاساً وأساسيّاً في بلده ومجتمعه، مهمٌّ جداً أن يعمل على
رفع مستوى المجتمع المحيط به، من هنا كانت حرمة المعلِّم ومكانته في المجتمع،
وتكريم الناس لمقامه". ويُخاطب الإمام الخميني المعلِّمين: "يجب أن تنتبهوا
كثيراً إلى أنّكم لستم أناساً عاديّين، فأنتم معلِّمون لجيل ستوضع مقدّرات البلاد
في المستقبل بين يديه".
* التعليم بين الوظيفة والرسالة:
السؤال الذي يَطرح نفسه هنا بعد ما تقدّم: هل يُدرك المعلم في عصرنا الحاضر كلَّ
ذلك عندما يختار التعليم كعملٍ ووظيفة، أو عندما يدخل إلى قاعة الصف، أو عندما
يتصرّف مع التلامذة ويتعامل معهم يومياً؟! لن أجيب على السؤال وأترك لكلِّ معلم
حرّية الإجابة، ولو بينه وبين نفسه، وأنتقل إلى وصف الواقع، ثمّ أبيّن ما نرجوه وما
نتطلّع إليه. لعلّ القلّة من المعلِّمين اختار التعليم لإدراكه أنه رسالةٌ
ومسؤوليّة. النادر من المعلمين يذهب إلى المدرسة مدركاً أنَّه يذهب إلى ساحة جهاد (بالمعنى
الديني للجهاد)، أي أنَّه تكليف شرعيّ يتعلق بتغيير الواقع الثقافي والاجتماعي
والتربوي للأمّة، وإصلاح المجتمع والارتقاء به، وبناء الإنسان وفق الصورة التي
أرادها الله تعالى، والتي بها كرّمه على بقيَّة مخلوقاته، مؤمناً تقياً، عاقلاً
مدبّراً، قوياً عزيزاً، فاعلاً مؤثّراً... إلخ. على مستوى الأداء، وعلى مستوى
الأسلوب والطريقة، وعلى مستوى الأهداف التربوية والتعليمية، فرق كبير بين ممارسة
التربية والتعليم كوظيفة وممارستها كرسالة، الوظيفة تؤدّى للحصول على الأجرة،
المادية أو المعنوية (الراتب والرتبة)، والرسالة تؤدّى للوصول إلى هدف يتبنّاه
المربِّي والمعلم ويؤمن به، ويشعر بالمسؤولية تجاهه، بقطع النظر عن المردود المادي
والمعنوي.
* المعلّم أو المربّي
قد يُستعمل مصطلح التربية بمعناه اللغوي الذي هو التنمية، فيشمل تنمية معارف
الإنسان وقدراته ومواقفه، بل يشمل أيضاً تنمية جسده وقواه الجسديَّة، كما يُقال
تربية الدَّواجن وتربية المواشي التي لا يبتغى منها إلا الجانب الجسدي. هذا
الاصطلاح يشمل التعليم باعتباره تنمية معارف ومهارات. لكن التربية قد تُستعمل بمعنى
أخصّ يقتصر على الجانب السلوكي وزرع القِيَم والمواقف السلوكيَّة فحسب، ونحن
سنستعمل التربية بالمعنى الثاني هنا للتمييز بين دورين يقوم بهما المعلم. ليس
بإمكان المعلِّم إلا أن يكون مربّياً، حتَّى عندما يُهمل تحديد أهدافه التربويَّة
ويحذفها من دائرة اهتماماته ويُسقِطها من حسابه عند التخطيط للدرس، فهو بالحقيقة
يُمارس تربية غير ممنهجَة، ربَّما تكون تربية سلبيّة ولو عن غير قصد، أو من غير
التفات، لأنَّ أيّ معلم يحمل بلا شكّ جملة من القناعات والقَيَم والعادات والسجايا
الأخلاقية (صحيحة أو فاسدة)، وهي تظهر في تصرّفاته وسلوكه وفي فلتات لسانه وطريقة
تعامله مع التلميذ والنِّظام والزملاء وكلِّ ما يحيط به، وبالتالي فهو يجسّدها في
كلِّ واقعه، الأمر الذي يترك تأثيره المباشر أو غير المباشر على تلامذته، فهو
يُمارس التربية عن غير قصد ومن دون وعي، فهي تربية غير هادفة وغير منهجيّة.
* ما هو المطلوب والمرتجى؟
ما يجب على المعلِّم (المربّي) أن يقوم به، وعلى المدرسة (كمؤسسة تربويّة مسؤولة عن
وضع المناهج)، بل على الدولة الأمينة والعارفة لمسؤوليّاتها، هو إدخال التربية
بالمعنى الأخصّ في جملة الاهتمامات، ووضعها على رأس الأهداف التي يتمّ تحديدها
وتصنيفها والتخطيط لها، ووضع البرامج والمناهج والأنشطة التي توصل إليها. ويجب
اختيار الطرق والأساليب المناسبة والوسائل المساعدة والمؤثّرة، لتصبح المدرسة
والمناهج للتربية كما هي للتعليم. وعندما يتمُّ إعداد المعلِّم أو تأهيله، لا يكفي
إكسابه المهارات والمعارف التي تتطلَّبها الكفايات التعليميّة، وإنما ينبغي إكسابه
المهارات والمعارف التي تتطلَّبها الكفايات التربوية. فنحن لا نريد عالماً يعجز عن
تسخير علمه لخدمة الإنسانيّة لأنَّه يفتقد القِيَم الإنسانيّة، لا نريد عالماً
يَستخدم علمه لاستغلال الناس وزرع الفساد في الأرض، وإنَّما نريد عالماً يضع علمه
في خدمة البشر وفي إعمار الأرض وإقامة العدل، عالماً يكون علمه رحمة للناس وليس
نقمة عليهم.