الإمام الصادق عليه السلام والمفضل
* فاقد البصر والسمع والعقل وما في ذلك من الموعظة
فكّر يا مفضّل فيمن يفقد البصر من الناس، وما يناله من الخلل في أموره، فإنه لا يعرف موضع قدميه، ولا يبصر ما بين يديه، فلا يفرّق بين الألوان، وبين المنظر الحسن والقبيح، ولا يرى حفرة إن هجم عليها ولا عدوّاً إن أهوى إليه بسيف، ولا يكون له سبيل إلى أن يعمل شيئاً من هذه الصناعات مثل الكتابة والتجارة والصياغة، حتى إنه لولا نفاذ ذهنه لكان بمنزلة الحجر الملقى.
وكذلك عديم السمع، يختل في أمور كثيرة، فإنه يفقد روح المخاطبة والمجاورة، وبعدم لذة الأصوات واللحون المشجية والمطربة، وتعظم المؤنة على الناس في محاورته، حتى يتبرّموا منه، ولا يسمع شيئاً من أخبار الناس وأحاديثهم، حتى يكون كالغائب وهو شاهد، أو كالميت وهو حي.
فأمَّا عديم العقل، فإنه يلحق بمنزلة البهائم، بل يجهل كثيراً مما تهتدي إليه البهائم، أفلا ترى كيف صارت الجوارح والعقل، وسائر الخلال التي بها صلاح الإنسان، والتي لو فقد منها شيئاً لعظم ما يناله في ذلك من الخلل، يوافي خلقه على التمام حتى لا يفقد شيئاً منها، فلِمَ كان كذلك؟ إلاَّ أنه خلق بعلم وتقدير.
قال المفضّل: فقلت فلِمَ صار بعض الناس يفقد شيئاً من هذه الجوارح فيناله من ذلك مثل ما وصفته يا مولاي؟ قال عليه السلام: ذلك للتأديب والموعظة لمن يحل ذلك به ولغيره بسببه، كما يؤدّب الملوك الناس لتتنكيل والموعظة، فلا ينكر ذلك عليهم، بل يحمد من رأيهم، ويتصوّب من تدبيرهم. ثم إن للّذين تنزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت - إن شكروا وأنابوا - ما يستصغرون معه ما ينالهم منها، حتى إنهم لو خيّروا بعد الموت لاختاروا أن يردوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب.
أظل الفكر يا مفضل في الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان. فالحنجرة كالأنبوبة لخروج الصوت، واللسان والشفّتان والأسنان لصياغة الحروف والنغم. ألا ترى أن من سقطت أسنانهم يقم السين، ومن سقطت شفّته لم يصحح الفاء، ومن ثقل لسانه لم يفصح الراء، وأشبه شيء بذلك المزمار الأعظم، فالحنجرة تشبه قصبة المزمار، والرئة تشبه الزق الذي ينفخ فيه لتدخل الريح، والعضلات التي تقبض على الرئة ليخرج الصوت كالأصابع التي تقبض على الزق حتى تجري الريح في المزامير، والشفّتان والأسنان التي تصوغ الصوت حروفاً ونغماً كالأصابع التي تختلف في فم المزمار فتصوغ صفيره ألحاناً. غير أنه وإن كان مخرج الصوت يشبه المزمار بالآلة والتعريف فإن المزمار - في الحقيقة - هو المشبه بمخرج الصوت.
فكّر يا مفضّل في الأعضاء التي خلقت أفراداً وأزواجاً، وما في ذلك من الحكمة والتقدير، والصواب في التدبير.
فالرأس مما خلق فرداً، ولم يكن للإنسان صلاح في أن يكون له أكثر من واحد، ألا ترى أنه لو أضيف إلى رأس الإنسان رأس آخر لكان ثقلاً عليه، من غير حاجة إليه، لأن الحواس التي يحتاج إليها مجتمعة في رأس واحد، ثمّ كان الإنسان ينقسم قسمين لو كان له رأسان، فإن تكلّم من أحدهما كان الآخر معطّلاً لا أرب فيه ولا حاجة إليه، وإن تكلّم منهما جميعاً بكلام واحد كان أحدهما فضلاً لا يحتاج إليه، وإن تكلّم بأحدهما بغير الذي تكلّم به من الآخر، لم يدر السامع بأي ذلك يأخذ وأشباه هذا من الأخلاط.
واليدان مما خلق أزواجاً، ولم يكن للإنسان خير في أن يكون له يد واحدة لأن ذلك كان يخل به فيما يحتاج إلى معالجته من الأشياء ألا ترى أن النجار والبنَّاء لو شلّت إحدى يديه لايستطيع أن يعالج صناعته، وإن تكلف ذلك لم يحكمه، ولم يبلغ منه ما يبلغه إذا كانت يداه تتعاونان على العمل.
"اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحُطام، ولكن لنرى المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك.
فإن لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيّكم. وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير".