تحقيق: السيّد محمد السيّد موسى
"في أيّام الثورة، كان محور المفاهيم السياسية النضال والقيام الثوريّ، وكانت تصل
إلى الناس عبر اللطم وأشعار العزاء. لاحظوا كيف يقف ملايين الناس، وأغلبهم من
الشباب، ويستمعون لمن يلقي اللطميّات والمراثي في أيّام عاشوراء، وكيف تخلق عندهم
حالة من التأثير والانفعال العاطفيّ؛ فيلطمون صدورهم ويذرفون دموعهم، ما يقوّي
عقائدهم وأحاسيسهم وعواطفهم نحو المفاهيم الدينية. لقد كانت الأشعار واللطميات تهدي
الناس وتعلّمهم. وقد شهدنا شبيه هذا الأمر زمن الدفاع المقدّس. هذه فرصة مهمة جدّاً.
ونحن علينا أن نستفيد منّها"(1). هكذا أكّد سماحة السيد القائد دام ظله أثر اللّطم
في النفوس وفي همّة الشباب، التي تقود إلى التغيير والإصلاح. كيف ولماذا وبمَ يشعر
اللّاطمون صدورهم ندباً على الحسين عليه السلام؟ وأيّ قوّة داخلهم يستنهضون؟ أسئلة
سيبحث عنها هذا التحقيق.
* أشعر بقوّة الكون
يغصّ مجمع سيد الشهداء عليه السلام، في أيام عاشوراء، بالشباب الذي يرتدون السواد
ويطرحون على رؤوسهم عصبات مختلفة، كأنّما شدّوا رؤوسهم وربطوها بهدف واحد: "حسين".
يقول عباس واصفاً شعوره في بحر اللطم الهادر: "بعد مجلس العزاء تشعر أن قلبك قد
امتلأ حزناً لا تكفيه مساحة القلب. لا أدري لمَ يستحيل هذا الحزن قوةً رافضة لكل
أشكال الظلم والبطش، حينها لا ترى إلا الحسين، وتشعر بحاجة إلى أن تخاطبه وتعاهده
وأن تفجر الثورة داخلك. لا يوجد شيء كاللطم يستطيع أن يعبّر عن كل هذه الثورة".
فيما يغصّ كمال بدمعه وهو يقول: "قد تتوقف عن اللطم لتبكي، ومن ثم تعود للّطم؛ لأن
قضية الحسين تستنهضك. أنت لا تبكي على شخص مظلوم فقط، أنت تبكي على قضية حقّ قادها
إمام معصوم فقتله أهل ذلك الباطل ليزيلوا الحقّالذي ينادي به. عند هذه الفكرة
بالتحديد تشعر بقوّة الكون ونداء قلبك للحسين: نحن معك جندك الذين لن يخذلوك. إنّ
لطمنا على الصدور ليس تعبيراً فنياً، بل صرخة حقّ في وجه كل ظالم".
* رسالة اللطم
يقال: إنّ اللطمَ أوّلُ شعيرةٍ حوّلت الدمعة إلى رسالة قوّةٍ وثورة في الصدور. عن
ذلك تحدث السيد علي فحص، مبيناً البعـــــد الثقافيّ لشعيرة اللطم، ورسالته
الحسينيّة: "إنّ لشعيرة اللطمِ الحسينيِّ امتداداً في تاريخ التشيُّع. ونستطيع أن
نقول إنّ بدايتَها مِن بَعد كربلاءَ مباشرةً، حتى قد يقال إنّها بدأتْ في واقعة
كربلاءَ نفسِها -وإن لم يكن بالطريقة نفسِها الموجودة حاليّاً-، فإنّ لَطْمَ الصدور
-بشكلٍ عامٍّ- هو تعبيرٌ إنسانيٌّ عن مشاعرَ مختزَنةٍ في قلبِ الإنسان، يعبِّر عنها
بهذه الطريقة. وبقيتْ هذه الشعيرةُ عَبْرَ التاريخ تمثِّلُ هذا التعبير، مع تغييرٍ
في المضمون من فترة إلى أخرى، ففي كلِّ حقبة زمانيّة يدخلُ في شِعر اللطم الحسينيّ
بعضُ العبارات الجديدة التي تتحدّث عن قِيَم وأحداث تلك الفترة، فكان شيعةُ أهل
البيت عليهم السلام يتفاعلون مع هذه المعاني والقِيَم، فتارةً كان الشاعر يتحدّث عن
إيثار أبي الفضل العبّاس عليه السلام، وأخرى يتحدّث عن صبر زينب، وثالثةً يتناوَل
أَلَمَ اليُتم... ومن سِمات شِعر اللطم الحسينيّ أنّه يحاكي الواقع المُعاش،
ويتحدَّث عن القيم والتحدّيات الموجودة في كلِّ زمان".
* اللطم يُفرغ عشق المجاهدين
بين المجاهدين ولطم الصدور حديثٌ طويلٌ ذو شجون، فكثيرةٌ هي العملياتُ الجهاديّةُ
التي افتُتحت برثاءٍ حسينيٍّ على شكل ندبيّة أو لطميّة لصوت يتيم، وإيقاعُها كان
وَقْعَ ضَرْبِ صدورِهم ليس أكثر. ومَن عايشَ فترةَ الاحتلال الإسرائيليّ، وفترةَ
نشوء المقاومة الإسلاميّة في لبنان، يعرف أنّ أحد روافد التأثير الروحيّ والمعنويّ
كان النَّدبُ واللطمُ الحسينيّ. يوضّح السيد علي فحص هذه الخصوصية بقوله: "أذكرُ في
كثير من مَحاور المقاومة، ومراسيم تشييع الشهداء، وأحياناً في ليالي الجمعة؛ أنّه
كان يدخل اللطم الحسينيّ إلى هذه العناوين، وكان يوجِد جوّاً مفعَماً بالرُّوح
الثوريّة بين الإخوة، ولاحقاً بدأ الناس يتفاعلون مع هذا الجوّ، خاصّةً بعد استقدام
مجموعةٍ من الرواديد من الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، وهم من أصحاب الأصوات
الجميلة جدّاً، والإيقاعات المميَّزة، وكانت نصوصُ أشعارِهم معبِّرةً جدّاً، بحيث
كانت تربط بين واقعة كربلاء وبين الواقع الذي نعيشه (الاحتلال والمقاوَمة والثورة...).
وقد كانت لطميّاتهم مؤثِّرةً جدّاً في إخواننا، وإلى الآن يوجد بعض المقاطع
المرئيّة والمسموعة التي تنقل لنا أجواء التفاعل والتأثّر الذي كان يحصل آنذاك،
وكيف كان الإخوة يرتبطون أكثر وأكثر بسيّد الشهداء من خلال استماعهم ومشاركتهم في
تلك الندبيّات. وبعض هذه اللطميّات كان يحصل بمشاركة سيّد شهداء المقاومة
الإسلاميّة، ممّا كان يعطي زخماً ودفعاً معنويّاً كبيراً للإخوة المجاهدين؛
للانطلاق إلى الجهاد بروحيّة كبيرة مُفعَمة بالإيمان. كما أنّ بعض اللطميّات ما زال
مفعولُها سارياً إلى الآن، وعندما يستمع إليها الإنسان الآن، مباشرةً يتسحضر ذلك
الزمانَ وتلك الفترةَ بكلِّ أحداثها. مثلاً لطميّة "أينَ راغبْ حربِ أينَ"، عندما
يسمعها بعضُ الإخوة الآن، مباشرةً يتذكّر ذلك التراث الجميل". لقد تفاعل المجاهدون
بشكلٍ كبير مع تلك اللطميّات، التي كانت -فِعلاً- تُفْرِغ كلَّ هذا العشق والحبّ
المكنون في صدور مجاهدينا الأوائل، وأعتقد أنّ هذا التفاعلَ ما زال مستمرّاً إلى
الآن.
* لغة اللّطم والتفاعل مع المضمون
تختلف الأذواق بين لطم عراقيّ أو بحرانيّ أو إيرانيّ في البيئة اللبنانيّة، هل يمكن
أن نرى شعيرةَ اللطم في المستقبَل منتَجةً من بيئتنا، غيرَ متأثّرة بهذه الألوان؟
وهل يمكن اعتبارُها مجتمِعةً في نسق لطمٍ واحدٍ نقطةَ قوّةٍ كلغةٍ حسينيٍّة واحدةٍ
يفهمها كلُّ الموالين؟ يجيب السيد علي فحص: "لا شكَّ في أنّه توجد الآن أنماطٌ
وألوانٌ مختلفة من اللطم الحسينيّ، بين ما هو منشؤه العراق، والبحرين أو الخليج
بشكلٍ عامّ، والجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، ودول أخرى. نعم، كان يوجد في السابق
نوعٌ من اللطم الحسينيّ باللهجة اللبنانية". ويتابع: "ما زلتُ أذكر أنّه منذ أيّام
طفولتي إلى أيّام المراهَقة، كان يوجد بعض اللطميّات بالنمط اللبنانيّ، ومن فترة
وجيزة سمعتُ أنّ بعضَ الإخوان قد حصلوا على مجموعة من ذلك التراث اللبناني، وبدأوا
يتداولونه الآن. وما سمعتُه مؤخَّراً يمثِّل بدايةً جميلة ورائعة، مضافاً إلى أنّ
مضمونه جيِّد ومعبِّر، فهو يحكي عن بعضِ الأحداث في كربلاء".
وعن اللهجة اللبنانية يقول: "من الضروريّ أن يُنظم شعرٌ حسينيٌّ باللهجة اللبنانيّة؛
لكي يُفهَمَ من كلِّ الشرائح اللبنانية، حتّى من غير المثقَّفين. كلَّما عدَّدنا
ألوانَ النَّدب الحسينيّ وكثّرناها، كلّما أوجدْنا تفاعُلاً أكبرَ مع هذه الشعيرة
الحسينيّة. ليس لجعل اللون اللبنانيِّ مقابل الألوان الأخرى، بل لنوفّر تفاعُلاً
عند اللبنانيّ؛ عندما يفهم تلك المضامين والأحداث التي حصلت في كربلاء، وإن كانت
على نحو المعاني المتجزِّئة. ومع الأسف، بعضُ اللبنانيّين عندما يسمع أشعاراً بغير
لهجته، ربما تراه يتفاعل مع النغم أو مع طريقة أداء الرادود أكثرَ مِن تأثُّرِه
بمضامين الشعر؛ بسبب عدم فهمه لهذه اللهجة، فما أجملَ أن يكونَ التفاعُل ناتجاً عن
فهم المضمون! تفاعُلاً ينطلق لقراءة أحداث الواقع، ومواجهة الظلم والعدوان، والدفاع
عن المظلومين".
* "مركز ثار الله"
"الهدفُ من إنشاء هذا المركز هو إحياءُ شعيرة اللطمِ الحسينيّ بما يتناسب مع صاحب
الذكرى، من خلال إيجاد قصائد وألحان مناسبة، ومن خلال تفاعل الجمهور بشكلٍ جيّد مع
شعيرة اللطم المستحبّة". هكذا بادرنا الشيخ موسى خشاب المسؤول عن إدارة مركز "ثار
الله"(2)، الذي أطلق هذا الاسم عليه بحسب الشيخ خشّاب: "باعتبار أنّ الإمامَ الحسين
عليه السلام هو ثارُ الله، كما ورد في الزيارة: السلامُ عليكَ يا ثارَ الله وابنَ
ثارِه".
وأوضح: إنّ اللطمَ قائمٌ على أربعة أركان: القصيدة- اللحن- أداء الرادود- تفاعل
الجمهور. لذلك اهتمّ المركز بإنماء هذه النواحي عبر:
1 - مجال القصيدة: تم إطلاق مسابقةً، من أجل حثِّ الشعراء على كتابة قصائدَ
مناسبةٍ للّطم، وقد شارك فيها أكثر من 100 شاعر. وبعد تقييم اللجان، تمّ اختيار
القصائد المناسِبة للّطم.
2 - على مستوى الألحان: فقد تمّ التعاون مع مجموعة من الملحِّنين لتلحين تلك
القصائد المختارة، من أجل تقديمها للإخوة الرواديد.
3 - على مستوى الرواديد: قمنا بإعداد ورش تدريبيّة عدّة في الجنوب وبيروت
والبقاع (ما يقارب 40 ورشة). وهذه الورش كانت متنوِّعة المضامين (كيفيّة تحسين
الصوت، الكاريزما، كيفيّة الوقوف على المنبر، الإيقاعات والموازين والألحان
والمقامات...)، كلُّ ذلك من أجل تعزيز قدرات الرادود.
4 - الجمهور: فإذا كانت القصيدة مناسِبةً، وكان لحنُها جميلاً، وكان الرادودُ
متمكّناً من الإلقاء، فإنّ الجمهور سيتفاعل حتماً باللطم.
* أهمية اللطم
يضيف الشيخ خشّاب: "عندما نُحيي شعيرة اللّطم، فإنّنا أوّلاً نقوم بعملٍ مستَحَبّ،
وثانياً نكون قد عظّمنا شعيرةً من شعائر الله ﴿ذلك ومَن
يعظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب﴾ (الحج: 32).
إنّ موضوع اللّطم، مضافاً إلى أنّه لا يقتصر على تعزيز الرابط بين الناس وبين
الإمام الحسين عليه السلام كشخص، بل يتعدّى ذلك إلى ربط الناس بقِيَم كربلاء وأهداف
كربلاء، وإحياء هذه القيم والأهداف في الوقت الحالي، وتقديم قيم عدة، منها:
1- إعلانُ الرفض والعداء للظالمين، ولمن تسبّب بظلم الإمام الحسين عليه السلام.
2- إعلانُ موقفٍ من الظالمين الحاليّين، فهو مناسَبة لربط ظلم حكّام ذلك الزمان
بظلم حكّام السُّوء الحاليّين.
3- إعلان قِيَم عدّة من القيم الإسلاميّة والإنسانيّة، كقيمة الحجاب مثلاً، أو قيمة
الجهاد والشهادة، أو قيمة الإيثار".
* توصيات للرواديد
بالنسبة إلى من يريد أن يرتقي منبرَ الإمام الحسين عليه السلام، ينبغي له أن يكون
في مستوى هذا الفعل. ولكي يكون في المستوى المطلوب، لا بدّ من أن تتوفّر فيه نقاطٌ
عدّة، منها:
1- الإتقان: بأن يكون متقِناً لكلّ ما يتعلّق بإلقاء القصيدة، "رحم اللهُ
امرءاً عمل عملاً صالحاً فأتقنه"(3).
2- الإخلاص: "ما كان لله ينمو"(4)، فإنّ الصعود على المنبر يجلب الشهرة
الإعلامية، وبالتالي قد يسوِّلُ الشيطان له استغلال هذه الشهرة بطريقة خاطئة. فلا
بدّ من النظر إلى هذا الأمر على أنّه أمرٌ عباديٌّ، والأمورُ العباديّة يُشترَط في
قَبولها الإخلاص.
3- تحصيل القصائد الجيّدة: وعدم إلقاء أيّ قصيدة يعثر عليها. ومن خصائص
القصيدة الجيّدة: سبك العبارات، وسلامة الوزن، عدم اختيار القصائد ذات الكلمات
الصعبة، اختيار الألحان المناسبة التي تبتعد عن نمط الغناء والأناشيد، وغيرها من
الأمور التي لا تناسب القصيدة الحسينيّة.
4 - بناء علاقة مع الجمهور: من خلال مخاطبتهم وحثّهم على التفاعل معه.
نسألُ اللهَ تعالى أن يوفّقنا لإحياء الشعائر الحسينيّة، وأن يحشرَنا مع الإمام
الحسين عليه السلام.
1- من كلمة له دام ظله في لقائه مع الشعراء، في تاريخ 20/6/2016م.
2- هو مركز لإحياء الشعائر الحسينية (اللطم) تابع لجمعية المعارف الإسلاميّة
الثقافيّة.
3- مسائل علي بن جعفر، علي ابن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، ص93.