(تقرير عن هيئة الرّوضتين) إعداد: الشيخ علي حسين حمادي
بين "مروةَ" و"الصّفا" صراطُ الوالهين.
وبين القبّتين في "كربلا" دمعتان وخفقتان، وصرخة "لبّيكَ". أمّا بين "الرّوضتين"
ففيضُ قداسةٍ يكشفُ غشاوة الزمن عن العيون. وكأنّ صوتاً يهمس في أصول أذنيك..
"اخلعْ نعليكَ".
شبابٌ مفعمٌ بالمعنويّات والقيم الأخلاقيّة والنفسيّة، وحرارة العشق تنبعثُ من
عيونهم والقلوب. فمن أين نبعت؟ وأين مصبّها؟
عن سرّ هيئة الرّوضتين بحثنا، فعدنا ببضع كلمات على الأوراق والكثير من المشاعر
أنّى للحبر أن يحتويها؟
* فما هي "هيئة الرّوضتين"؟
لم تكن فكرة عفويّة لكنها تشبه الإلهام إلى حدّ ما، هكذا قال "نور آملي"، وهو أحد
المنظّمين لنشاط هيئة الروضتين، وأوضح أنّ الهيئة نتيجة تشخيص لحاجة بيئتنا إلى هذه
الشعيرة الأصيلة، وكان الله وليّ توفيقنا لإقامتها، وليس إلهاماً مجرّداً عن الظروف
المحيطة. ويشرح "نور" دور الهيئة كما يراه المنظّمون: هذه الهيئة هي أداة صغيرة
جدّاً من أدوات الصراع بين الحقّ والباطل كما نراها، لكنّ العهدة على الإمام الحسين
عليه السلام، فذكره مفتاح نور القلوب، وإذا استنارت القلوب خشعت، ورُزق أهلها
الحكمة، فلا يهزمهم شياطين الزمان، ولا تأخذهم فتنة.
إذاً، بدأت بفكرةٍ ودمعةٍ وزيارة ولطمية وسلام، حين اجتمع شبابٌ في روضة الشهداء
وانصهروا يعظّمون شعائر الله، من مئةٍ إلى ثلاث مئة إلى ألفٍ أو يزيدون.
اجتمع الشهيد تلو الشهيد، حتّى غدت الروضة كتاباً موقوتاً كصلاة الفجر. وكلّما
استبشر شهيدٌ لحق به شهيد. الحاضرون كانوا يستقبلونهم ويودّعونهم، وأحاطتهم شذرات
معنويّة وروحيّة من نورهم
﴿وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ
أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ (الحديد: 19) وأرادوا الحفاظ عليها متأجّجةً حيّة، فإنّها
من تقوى القلوب.
* لنفهم كيف التحقوا بركب الحسين عليه السلام
لأنّنا نحتاج إلى استمداد العزم من سيّد الشهداء عليه السلام، فهو الدرب وهو
الغاية، فإنّ كلّ ما لدينا من عاشوراء، هكذا قال لنا الإمام الخمينيّ قدس سره
العظيم، فعاشوراء التأصيل والتجذير لفكرنا، لمجمتعنا، وثورتنا... وكان الشهداء
رياحين ودحانين زُرعت في ذاك الدرب الحسينيّ، فكانوا ركيزة الانطلاق وروضتهم محلّ
اللقاء. هكذا فسّر الحاج "نور" اختيارهم روضة الشهداء المباركة.
ولأنّنا نحتاج إلى فهم أكثر لتوحيدهم، وأفعالهم، وإخلاصهم، وسيرهم ووصولهم وكيف
عرفوا الحسين وعشقوا الحسين والتحقوا بركب الحسين، صدح من عندهم أول نداء لـ"هيئة
الرّوضتين".
هنا كلّ واحد منّا يعرف شهيداً أو أكثر فيحكي قصّته وذكرياته ثمّ ينظر إلى شاهد أحد
القبور ويبتسم للصورة التي وُضعت حديثاً.
هنا يجد الشاعر صورَه البديعــة فيستخرجها كالمرجان من أعمــــاق البحور. وهنا يصدح
الصوت صادقاً عابقاً فيصل لأَعنان السمــــــاء، فتخفق القلوب الهاربة من زحمة
الدنيا ومتاعها وزينتها، والمتعطّشة لفسحة الروح في دوحة المجد وواحة الكبرياء.
* أعادت الزمن الجميل
من اللّباس إلى البكاء في مجلس اللّطم الثوريّ إلى الحميميّة والعفوية وعدم
التكلّف، وصولاً إلى كلماتٍ تُسجّل على صفحات القلوب قبل أن تحفظها العقول لتضجّ
بها صفحات العالم المجازيّ، في اليوم التالي، كشتلة وردٍ لا تتعب أكمامها من حمل
الزهور. كلّ ذلك في مشهدٍ مكتمل يضجّ بمفاهيم روح الله والمعزّى دائماً أبداً بقيّة
الله عجل الله تعالى فرجه الشريف.
هنا في الخيمة حيث يُصلّى على الشهداء، والتي اتّخذتها الهيئة انطلاقة لها في
عاشوراء، عندما ضاقت بهم الروضة الأولى والثانية وقفنا. ما الذي يميّز "هيئة
الرّوضتين" عن باقي الإحياءات العديدة والمختلفة؟ سؤال جاءنا جوابُه قبل أن نطرحه،
"الزمن الجميل"، قال أحد الناشطين في الهيئة.
أجل، أجاب الآخر مؤكّداً: "(هيئة الرّوضتين) أعادت إلى أذهاننا روح الثمانينيات"،
بروحانيّتها وشهدائها والذكريات. أعادت إلينا صوت "عساكري" و"آهنكران".. ذاك البحر
الهادر بحنينه وثورته وشهداء الجيل الأول، الذين قاوموا المفاهيم الخاطئة حول
المقاومة أيضاً.
* الصرخات الحسينية
مَن مِنا يستطيع أن ينسى "الشهيد قاسم شمخة" عندما وقف بين الجموع الحسينيّة، بين
القبضات والنبضات، ومن دون تنسيق مسبق، ودون مكبّر للصوت، هتف من أعماق أعماقه:
"بصرخةٍ محمّديةٍ حيدريةٍ حسينيةٍ... هيهات منّا الذّلة"، فماجت الخيمة بهديرٍ كاد
يُمطر السّماء؟!
قاسم هو واحدٌ من واحدٍ وعشرين شهيداً حضروا إلى الخيمة وسكبوا دفءَ عاطفتهم من
مآقي العيون، ثمّ نثروا دماءهم دحنوناً بين حلبَ والقلمون.
يضيف الحاج "نور": "أحصينا ستّة عشر شهيداً العام الماضي، لكنهم باتوا واحداً
وعشرين شهيداً اليوم عند تنقيح هذا التقرير، فلا نعلم عند نشره وقراءته، من بقي من
أهل هذا المجلس، ومن منهم عرج".
*شعر مرتجل بجرعة وعي
قد يظنّ من يمرّ بالمكان مرور الكرام أنّ هؤلاء شبّان يلطمون. ولكنه ليس مجرّد لطم
وليست مجرّد كلمات وليس مجرّد صوت.
إنّنا في حرب ثقافيّة ضروس، "ونحن إنّما نحافظ على هويّتنا، على إسلامنا المحمديّ
الأصيل"، هذا لسان حالهم. في تلك الخيمة الصغيرة تُذرف أشعار وكتابات وصرخات، منها
ما يخرج ابن لحظته تسحبه العبرة، ويتحدّث به الشوق إلى الإمام الحسين عليه السلام،
ومنها ما يخرج عن رؤية وعقيدة، يصف "آملي" ذلك: "فنعيد به تصدير مفاهيمنا وهويّتنا
وتراثنا الإسلاميّ الأصيل، فمرارة القلب على الحسين هدّارة موقظة".
كم كان معنا شباب يلطمون وبعد أيامٍ يصلنا خبر استشهادهم! وهذا دليلٌ على أنّنا
نحيا بهم ويحيون بنا. والشعائر الحقّة هي التي توصل إلى الله تعالى. وشعائرنا
الحسينيّة هي انعكاسٌ أكيد لثقافتنا وتاريخنا وجذورنا الممتدّة في أعماق التاريخ
إلى إنسان عظيم لا حدود لعطائه، بل فلسفة عطائه تكمُن في: "خذ حتى ترضى". وشهداؤنا
ورثوا هذا الفكر وهذه الروح.
وهذه علاقة "هيئة الرّوضتين" بأبي عبد الله الحسين عليه السلام وبشهداء الروضتين
وكلّ الشهداء. هنا نؤكّد الرّابط الوثيق بين كربلاء والثورة المستمرّة حتّى اليوم
الموعود.
* إذا أردنا الإسلام
فإذا أردنا بقاء الإسلام فالحسين هو الكفيل
وإذا أردنا عزّة الإسلام فثار الله هو الدليل
وإذا أردنا نصرة الإسلام فدم الحسين هو السبيل.
لقد أحيوا باختصار ليس الشعائر فقط، بل جعلوا أضرحة الشهداء تنبض بالحياة كحال من
بداخلها، حتّى كأنّك تشعر أنّ الشهداء قاموا حيناً يشاركونهم لطمهم والنداء.
تعالَ إلى روضة الحوراء في ليالي عاشوراء، قِف عند باب الخيمة، أرهفْ سمعَك
قليلاً وأغمضْ عينيك، سترى وميضَ سيف الحسين عليه السلام يلمعُ قبلةً للفاتحين،
وستسمع تردّد صدى الشهداء يسري في المدى أنْ: "يا سيوف خذيني".