مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مواكب اللطم الحسيني: لمحة تاريخية

محمد كوثراني*

روي أنَّ الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام كان قد أخبر أخته زينب عليها السلام ليلة الواقعة (العاشر من المحرم)،بما ستؤول إليه الأمور في اليوم التالي، نقلاً عن جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبكت عليها السلام "وبكت النسوة معها ولطمن الخدود وصاحت أم كلثوم: وامحمداه واعلياه واإماماه واحسيناه واضيعتنا بعدك"1. تعتبر هذه الحادثة، من الناحية التاريخية، أول ما ورد من صور اللّطم فيما يتعلق بواقعة عاشوراء.وسنحاول في سطور تقديم لمحة عن تاريخ اللّطم وهو ما لا يمكن اعتباره تحليلاً لهذه الظاهرة إلى أبعادها الثقافية.


*في محضر أهل البيت عليهم السلام
يُعتبر "اللّطم" لغةً "ضرب الخد وصفحة الجسد ببسط اليد"2، ويرادفه في المصادر اللغوية مصطلح آخر يفيد المعنى ذاته وهو "اللّدم".
بدأ ورود اللّطم في قصائد الرثاء الحسيني للشعراء في محضر أئمة أهل البيت عليهم السلام، كالقصيدة التائيّة الشهيرةلدعبل الخزاعي التي تلاها في "مرو" عاصمة الدولة العباسية فترة حكم المأمون، وكان في حضرة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، والتي جاء فيها:

 أفاطمُ لَوْ خِلْتِ الحُسينَ مجَدّلاً

 وقد ماتَ عطشاناً بِشَطِّ فُراتِ

 إذَن للطمتِ الخدَّ فاطمُ عنده

 وأجريتِ دمعَ العينِ بالوجنات 3

وقد ذكرت المصادر التاريخية كيف تحوّل ذلك المجلس بفعل هذه الأبيات إلى مجلس "لطم على الرؤوس والوجوه"4، وكل ذلك في حضرة الإمام الرضا عليه السلام.


*أسلوب لإظهار الحزن
أما تحوّل اللّطم إلى أسلوب من أساليب إظهار الحزن على مصاب أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فيرجعه المؤرخون إلى عاشوراء العام 352هـ (931م)، في بغداد فترة حكم الدولة البويهية، حيث "نزلت مظاهر العزاء الحسيني إلى الشوارع العامة ببغداد، بعد عشرات السنين من التغييب والكبت"5. واستمرت لعشرات السنين، طوال فترة الحكم البويهي الذي انتهى بقدوم السلاجقة عام 474هـ (1044م) فأمروا بمنع هذه المظاهر والشعائر.

ويعتبر المؤرخ الدكتور إبراهيم الحيدري أن أول شكل منظّم من قبل السلطات للموكب اللطمي العاشورائي "كان في زمن معزّ الدولة البويهي عام 384هـ (963 م)، في شوارع مدينة بغداد"6.
وقد كتب الذهبي في مؤلّفه "سِيَر أعلام النبلاء" أنّ الوزير أبا غالب فخر الملك، وهو من وزراء الدولة البويهية، قد "ناب للسلطان بهاء الدولة بفارس، وافتتح قلاعاً، ثم ولّيَ العراق، فأعاد اللّطم يوم عاشوراء، وثارت الفتن لذلك، ومدحته الشعراء، ودام ست سنين، وقتل في ربيع الأول سبع وأربع مئة"7 (986م).

*في المراقد المقدّسة
الإشارة الأولى التي وردت عن اللّطم كظاهرة في المراقد المقدسة لأئمة العصمة عليهم السلام، كانت في بغداد في العتبات الكاظميّة المقدّسة في أواسط القرن الهجري الخامس، أو ما ورد في كتاب "رحلات عبد الوهاب عزام" وهو يصوّر دخوله إلى الصحن الحسيني المبارك بكربلاء قائلاً: "ولجنا الباب إلى ساحة واسعة فإذا إلى اليسار جماعة قد وقفوا صفوفاًيدقّون صدورهم دقّات موحّدة موزونة، وأمامهم منبر عليه خطيب يتكلم عليهم"8.

*في العهد الصّفوي
بعد ذلك انتقلت مراسم اللّطم العاشورائي إلى مرحلة جديدة تمثلت بدخول بعض العناصر الحضارية من ثقافات أخرى إبان العصر الصّفوي في إيران.
ولقد كان للدولة الصفوية التأثير الأكبر في انتقال مراسم الرثاء واللّطم بأشكاله الجديدة إلى مناطق التشيّع في الهندوأذربيجان وصولاًإلى تركيا.


*في العهد الفاطمي
إبان العهد الفاطمي في مصر، تحولت الطقوس والمراسم العاشورائية إلى طقوس رسميّة للدولة في فترة حكم الإخشيديين. وينقل المؤرخ المقريزي في خططه "خروج الرجال نهاراً والنساء ليلاً في مواكب لاطمة باتجاه مشاهد السيدة زينب والسيدة أم كلثوم"9، ويذكر أيضاً خروج "مواكب المنشدين إلى جامع الأزهر وأصواتهم تتعالى بالنشيد واللّطم والنحيب"10 وذلك في أيام المعزّ الفاطمي.

وفي "إعلام الأعلام" للسان الدّين بن الخطيب، يذكر المؤلّف عادات أهل الأندلس في الأيام الأولى من المحرّم، حيث يسير الناس فيما يسمى "الحسينية" وهي عبارة عن مسير من الناس في يوم العاشر من المحرم يتوسّطهم المنشدون الذين يلطمون ويتلون المراثي في الإمام الحسين عليه السلام "وكان لهذه الحسينية يُجلَب المحسنون من القرّاء ويُوقَد البخُّور ويُتغنّى بالمراثي واللّطميات"11.

أمّا في شمالي أفريقيا فقد أخذت المراسم والطقوس العاشورائية عامّة واللّطم منها، أشكالاً تجمع بين العناصر الحضاريّة المحليّة وبين العناصر المتأثّرة بالحُكم الفاطمي آنذاك، فكانت مجالس اللّطم تُعقد حول نار يتمّ إضرامها ليلة العاشر من المحرّم، ويطغى عليها ترداد كلمة "عاشورا" بالإضافة إلى بعضِ الأشعار المغنَّاة باللهجات المحليّة.


*في العهد العثماني
الأيام الصّعبة على إحياء المراسم العاشورائية بدأت فصولها إبان حكم المماليك (1250م-1517م)، وزادت صعوبتها في عهد العثمانيين، الذين أفرطوا في إسقاط السياسة على الدين، وصولاً لمنع أبسط أشكال المراسم العاشورائيّة. ويعود السبب في ذلك إلى الصراع السياسي التاريخي الذي نشب بعد سقوط القسطنطينية بين الدولة العثمانية السنية المذهب، والدولة الصّفوية الشيعية المذهب، والتي وصل نفوذها وقتها إلى الحدود الشرقية للدولة العثمانية في أذربيجان، وكان ذلك طوال الفترة الممتدّة بين القرون السادس عشر والتاسع عشر، حيث "منع العثمانيون دخول المراسم والطقوس التي كانوا يعتبرونها صفويّة المنشأ إلى العراق وبلاد الشام"12 والتي كانت تقام في السراديب والقبوات، "حتى جاء الوالي علي رضا باشا في العام 1831م وأمر بالتساهل مع إقامة مجالس التعزية وخروج مواكب اللّطم"13. ويذكر التاريخ أنّ أوّل مجلس لطمي على الإمام الحسين حصل "في النجف الأشرف في منزل الشيخ نصار بن سعد العبسي عام 1821م"14.

إلا أن بلاد الشام ظلّت تعاني من سطوة حاكم المنطقة العثماني المقيم في نابلس، والذي "منع من إحياء عاشوراء وتنظيم مجالس اللّطم، وسيّر دوريات تجوب الشوارع والأزقّة طوال أيام عاشوراء، ووضع حراسة دائمة على مداخل الحسينيات"15.


*في القرن العشرين
ومع بدايات القرن العشرين، بدأت علامات الضعف تظهر على سلطة الدولة العثمانيّة في بلاد العراق والشام، وبدأت الأمور تعود إلى طبيعتها في موضوع ممارسة الحريات الدينية عامة ومنها إحياء عاشوراء وإقامة المراسم والطقوس المتعلّقة بها.
ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1944م، بدأت مرحلة الإحياء العاشورائي القائم على المراسم والطقوس التي تقيمها المجتمعات الشيعية في أكثر من بلد في العالم العربي والإسلامي، وصارت تتشكّل في كل مجتمع من هذه المجتمعات هويّة ثقافيّة خاصّة تقوم على أساسها الشعائر العاشورائية بشكل عام والمجلس اللّطمي بشكل خاص.

ففي البحرين، يطلق على المجالس التي يقام فيها اللّطم اسم "التحاريم"، حيث "تبدأ مواكب العزاء بمسيرتها في العاصمة، تتصدرها مجموعات العزاء واللّطميّة المسمّاة بـ"الشيّالة"16.
وفي عُمان، يجتمع المشاركون في المراسم في حسينيّات حيث يبدؤون "بترديد مقطع من مقاطع المرثية ويقومون بحركة دائرية وهم يلطمون بأيديهم على صدورهم بضربات رمزية خفيفة، وفي إيقاع متواصل مع صوت المنشد الجهوري الحزين"17.
وفي الهند، التي تعود إقامة مراسم العزاء فيها لزمن تأسيس دولة المغول في بدايات القرن السابع عشر، تعرف مجالس اللّطم بـ"زيارت"، وهي طقوس "تجمع بين اللّطم وبين عمل مسرحي تقليدي يجسّد الواقعة"18.

أما في باكستان، وفي منطقة "بلتستان" على وجه التحديد، فقد جرت العادة بأن تبدأمراسم اللّطمية المسماة بـ "مأتم سرائى" بقراءة قصائد الشاعر الإيراني المعروف "وصال"، يعقب ذلك موكب "الزناجيل" "الذي يتكوّن من مجموعات عديدة يحمل كل فرد منهم مجموعة من السلاسل الصغيرة، وعلى صوت "النوحخان" (نوع من الطبول)، ويضرب حاملو السلاسل الحديدية على ظهورهم"19.

واليوم، ثمة طقوس ومراسم لطميّة لإحياء عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام تحمل هويّات ثقافيّة مختلفة في عدد كبير من البلدان كأندونيسيا، وبورما، وتايلاند وغيرها من الدول التي تشكّل الجاليات الشيعية فيها، مجتمعات قائمة بذاتها.


*خاتمة
تبقى الإشارة إلى أنّ ما تمّ تقديمه في هذه العجالة، لا يتعدى كونه لمحة تاريخية عن موضوع اللطم، ولا يمكن اعتباره سياقاً بحثياً يحاول تفكيك ظاهرة اللطم إلى أبعادها الثقافية،التي يمكن على أساسه، بناء معلم حضاري يشارك في إعلاء راية أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
وما كان البقاء إلا بالحسين.


* مدير عام "رسالات"، الجمعية اللبنانية للفنون.
1.مقتل الحسين عليه السلام، المقرم، ص280.
2.لسان العرب، ابن منظور، ج12، ص542.
3.شرح الأخبار، القاضي النعمان المغربي، ج3، ص172.
4.عيون أخبار الرضا، القمي، ج2، ص212.
5.تراجيديا كربلاء،إبراهيم الحيدري، ص80.
6.م. ن، ص105.
7.سير أعلام النبلاء، الحافظ الذهبي، ج17، ص286.
8.رحلات عبد الوهاب عزام، عبد الوهاب عزّام، ص326.
9.المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، تقي الدين المقريزي، ج 5، ص140.
10.م. ن، ص 168.
11.إعلام الأعلام فيمن بويع بالخلافة قبل الاحتلام، لسان الدين بن الخطيب، ص 135.
12.لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث،علي الوردي، ج1، ص46.
13.م. ن.، ج 2، ص109.
14.م. ن.، ص110.
15.مدخل إلى سوسيولوجيا التراث، فريدريك معتوق، ص83.
16.طقوس عاشوراء والشعائر الحسينية، راغب السرجاني، ص64.
17.م. ن.، ص78.
18.م. ن.، ص84.
19.م. ن.، ص106.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع