الشيخ أحمد خشاب
إن من أهم الخدمات التي يقدمها الإنسان لأخيه الإنسان هو سد حاجته بإعطائه ما يسد به رمقه من الطعام أو المال الذي يشتري به، لذلك ورد الكثير عن عطاء أهل بيت النبوة صلوات اللَّه عليهم في القرآن والحديث الشريف. وليس من المهم في الإحسان والكرم أن يكون العطاء كبيراً وجليلاً، بل ما يصحب العطاء من تقى، وإيمان، وإخلاص، وخلق كريم يحفظ للسائل كرامته، إذ الملحوظ في العطية الكيفية قبل الكمية.
وبهذا الأمر سار نبينا محمد صلى الله عليه وآله وآله عليهم السلام في عطاياهم متقربين إلى اللَّه تعالى، فخلد ذكراها في القرآن المجيد في سورة البقرة، والمائدة، والدهر، وغيرها، وفي التاريخ عبر قرون متطاولة وأجيال متعاقبة. وسنذكر بعض كرمهم، وعطاياهم، وسخائهم بما تتسع له هذه الصفحات.
* الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله
في جوده وسخائه صلوات اللَّه عليه وعلى آله:
يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: "كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أجود الناس كفاً وأكرمهم عشرة من خالطه فعرفه أحبه". عن جابر بن عبد اللَّه: لم يكن يسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله شيئاً قط فيقول لا. عن أنس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله، فسأله؛ فأعطاه غنماً بين جبلين، فأتى الرجل قومه، فقال: أسلموا! فإن محمداً صلى الله عليه وآله يعطي عطاء رجل ما يخاف فاقه. قدم على النبي صلى الله عليه وآله سبعون ألف درهم فوضعها على حصير، ثم قام إليها فقسمها فما رد سائلاً حتى فرغ منها.
وقد ورد عن عمر أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله يسأله، فقال: ما عندي شيء، لكن اتبع عَلَيَّ. فإذا جاءنا شيء قضيناه. قال عمر: يا رسول اللَّه ما كلَّفك اللَّه ما لا تقدر عليه. قال: فكره النبي صلى الله عليه وآله، فقال الرجل: أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً. فتبسم النبي صلى الله عليه وآله، وعُرف السرور في وجهه. وفي ناسخ التواريخ أنه صلى الله عليه وآله حين مرض مرض الموت دعا علياً، وأعطاه كيساً فيه بضعة دراهم، وقال له: يا علي وزع هذا على الفقراء.
* السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام
إنفاق وإيثار سيدتنا فاطمة الزهراء الصديقة سيدة نساء العالمين عليها السلام ابتغاء وجه اللَّه: رُوي في نزهة المجالس عن ابن الجوزي أن النبي صلى الله عليه وآله صنع لها قميصاً جديداً ليلة عرسها، وزفافها، وكان لها قميص مرقوع، وإذا بسائل على الباب يقول: أطلب من بيت النبوة قميصاً خلقاً، فأرادت أن تدفع إليه القميص المرقوع، فتذكرت قوله تعالى:﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ فدفعت له الجديد. وكان لها سبعة بساتين وقفتها على بني هاشم وبني عبد المطلب.
عن جابر قال: صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله صلاة العصر، فلما تنفل جلس في قبلته، والناس حوله، فبينما هم كذلك، إذ أقبل شيخ من مهاجرة العرب إليه، وعليه سمل قد تهلل، وأخلق، وهو لا يكاد يتمالك ضعفاً، وكُبراً. فأقبل عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يستحثه الخبر، فقال الشيخ: يا رسول اللَّه أنا جائع الكبد، فأطعمني، وعاري الجسد فاكسني، وفقير فأرثني، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: ما أجد لك شيئاً، ولكن الدال على الخير كفاعله. انطلق إلى ابنتي فاطمة، ثم قال: يا بلال! قم فقف به على منزل فاطمة!
فانطلق الأعرابي مع بلال، فلما وقف على باب فاطمة، نادى بأعلى صوته، السلام عليكم يا أهل بيت النبوة، ومختلف الملائكة، ومهبط جبرئيل الروح الأمين بالتنزيل من عند رب العالمين! قالت: وعليك السلام، ممن أنت يا هذا! قال: من العرب أقبلت إلى أبيك سيد البشر مهاجراً من شقّة، وأنا يا بنت محمد! عاري الجسد، جائع الكبد، فارحميني، يرحمك اللَّه، وكان لعلي وفاطمة ثلاث ما طعموا منها طعاماً، فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرض، كان ينام عليه الحسن والحسين، فقالت: خذ هذا أيها الطارق! عسى أن يتيح لك ما هو خير منه. فقال: يا بنت محمد أنا شكوت الجوع، فناولتني جلد كبش، فما أنا صانع به مع ما أجده من الغب. فعمدت فاطمة عليها السلام إلى عقد في عنقها أهدتها إياه فاطمة بنت عمها الحمزة، فقطعته من عنقها، ونبذته إلى الأعرابي، وقالت: خذه وبعه، فعسى اللَّه أن يعوضك بما هو خير لك منه. وقد باعه بعشرين ديناراً، ومائتي درهم، وبردةٍ يمانية، وراحلةٍ بلغت أهله، وشبعه من الخبز واللحم.
* الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
ما ذكر من جود وكرم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
قد روى الواقدي في تفسيره يرفعه إلى ابن عباس أن عليَّ بن أبي طالب عليه السلام كان يملك أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية، فأنزل اللَّه سبحانه فيه: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون﴾. وفي تفسير قوله تعالى: ﴿إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً﴾ كان لعلي دينار، فباعه بعشرة دراهم، فكان كلما ناجاه، قدم درهماً حتى ناجاه عشر مرات. ثم نسخت؛ فلم يعمل بها أحد غيره. وفي تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾، أنها نزلت بحق علي عليه السلام حين تصدَّق بخاتمه وهو في الصلاة على ذلك المسكين في مسجد النبي صلى الله عليه وآله.
لقد استدرج سخاء علي عليه السلام حتى معاوية، فقال فيه: وهو الذي لو ملك بيتاً من تبر، وبيتاً من تبن، لأنفذ تبره قبل تبنه. وفي المناقب أن قنبراً قدّم إلى أمير المؤمنين جامات من ذهب، ونصّه في الرحبة وقال: إنك لا تترك شيئاً إلا قسمته، فخبأت لك هذا، فسل سيفه، وقال: ويحك لقد أحببت أن تدخل بيتي ناراً. ثم استعرضها بسيفه فضربها حتى انتثرت من بين إناء مقطوع بضعة وثلاثين، وقال: عليّ بالعرفاء! فجاؤوا، فقال هذا بالحصص. في أسد الغابة قال أبو النوار (بياع الكرابيس) أتاني علي بن أبي طالب عليه السلام، ومعه غلام، فاشترى مني قميصي كرابيس، فقال لغلامه: اختر أيهما شئت، فأخذ أحدهما، وأخذ علي الآخر، فلبسه.
عن أبي أسامة عن أبي عبد اللَّه أن أمير المؤمنين عليه السلام أعتق ألف مملوك من كدِّ يده. وقد ورد أنه جمع خمسمائة نواة تمر، وحملها على كتفيه، وشرع في غرسها قربة للَّه تعالى، فلما أن تحولت تلك النواة إلى أشجار نخيل، وقفها للناس وفي أسد الغابة قال علي عليه السلام: "لقد رأيتني وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع، وإن صدقتي لتبلغ اليوم أربعين ألف دينار".
* الإمام الحسن بن علي عليه السلام
رُوي أنه مر على مساكين قد وضعوا على وجه الأرض كسيرات من الخبز، كانوا قد التقطوها، وهم يأكلون منها، فدعوه إلى مشاركتهم؛ فأجابهم إلى ذلك، وهو يقول إن اللَّه لا يحب المتكبرين. ولما فرغوا من الطعام دعاهم إلى ضيافته، فأطعمهم، وكساهم. وفي المحاسن والمساوئ أنه أتاه رجل في حاجة، فقال اذهب! فاكتب حاجتك في رقعة، وارفعها إلينا نقضها لك، قال: فرفع إليه حاجته، فأضعفها له، فقال بعض جلسائه: ما كان أعظم بركة الرقعة عليه يا ابن رسول اللَّه! فقال بركتها علينا أعظم حين جعلنا للمعروف أهلاً. أما علمت أن المعروف ما كان ابتداء من غير مسألة، فأما من أعطيته بعد مسألة، فإنما أعطيته بما بذل لك من وجهه. وفي صفة الصفوة أن الحسن بن علي عليه السلام سمع رجلاً يسأل ربه عزّ وجلّ أن يرزقه عشرة آلاف فانصرف الحسن عليه السلام فبعث بها إليه. وجاءه بعض الأعراب، فقال أعطوه ما في الخزانة، فوجد فيها عشرون ألف درهم، فدفعها إليه فقال الأعرابي: يا مولاي! ألا تركتني أبوح بحاجتي، وانشر مدحتي.
فأنشأ الحسن عليه السلام:
يرتع فيه الرجاء والأمل |
نحن أناس نوالنا خضل |
خوفاً على ماء وجه من يسل |
تجود قبل السؤال أنفسنا |
وفي ربيع الأبرار قال أنس: رأيت الحسن بن علي عليه السلام يأكل، وبين يديه كلب، كلما أكل لقمة طرح للكلب مثلها، فقلت له: يا ابن رسول اللَّه! ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك، فقال: دعه إني لأستحي من اللَّه عزّ وجلّ أن يكون ذو روح ينظر إلى وجهي، وأنا آكل، ثم لا أطعمه.
* الإمام الحسين عليه السلام
روي أن الحسين عليه السلام دخل على أسامة بن زيد، وهو مريض، وهو يقول: واغماه! فقال: ما غمك، قال: ديني وهو ستون ألف درهم، فقال: هو عليّ، قال: إني أخشى أن أموت قبل أن يقضى، قال: لن تموت حتى أقضيها عنك. فقضاها قبل موته. وفي أعيان الشيعة أنه علّم أبو عبد الرحمن ولداً للحسين عليه السلام الحمد، فلما قرأها على أبيه، أعطاه ألف دينار، وألف حلة، وحشافاه درَّا؛ فقيل له في ذلك، فقال: وأين يقع هذا من عطائه، وفي تحف العقول جاءه رجل من الأنصار يريد أن يسأله حاجة، فقال عليه السلام: يا أخا الأنصار صن وجهك عن بذلة المسألة، وارفع حاجتك في رقعة، فإني آتٍ فيها ما سارّك إن شاء اللَّه. فكتب يا أبا عبد اللَّه: إن لفلان عليّ خمسمائة دينار، وقد ألح بي، فكلِّمه، ينظرني إلى ميسرة، فلما قرأ الحسين الرقعة، دخل منزله، فأخرج صرَّة فيها ألف دينار وقال له: أما خمسمائة، فاقضِ بها دينك، وأما خمسمائة، فاستعن بها على دهرك.
وفي تحف العقول أتاه رجل، فسأله، فقال: إن المسألة لا تصلح إلا في عزم فادح، أو فقر مدقع، أو همالة مفظعة. فقال الرجل: ما جئت إلا في إحداهن. فأمر له بمائة دينار. وفي البحار وفد أعرابي إلى المدينة، فسأل عن أكرم الناس، بها فَدُلّ على الإمام الحسين عليه السلام فدخل، فوجده مصلياً، فوقف بإزائه، وأنشأ:
جرَّ من دون بابك الحلقة |
لم يخبِ اليوم من رجاك ومن |
أبوك كان قاتل الفسقة |
أنت جواد وأنت معتمد |
كانت علينا الجحيم منطبقة |
لولا الذي كان من أوائلكم |
فسلّم الإمام، وقال: يا قنبر! هل بقي من مال الحجاز شيء؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار، قال: هاتها، فقد جاء من هو أحق بها منا. ثم نزع عليه السلام بُردَيه، ولف الدنانير فيها، وأخرج يده من شق الباب حياء من الأعرابي. الإمام السجّاد عليه السلام كان إذا أتاه سائل، قال: "مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة"، وفي أعيان الشيعة أنه عليه السلام كان يتصدق بالسكر، واللوز فسئل عن ذلك، فقرأ ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾.
وفي البحار قال الإمام الباقر عليه السلام: "وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى، والاضراء، والزمنى، والمساكين الذين لا حيلة لهم. وكان يناولهم بيده، ومن كان منهم له عيال، حمل له إلى عياله من طعامه. وكان لا يأكل طعاماً حتى يبدأ فيتصدق بمثله". وفي مطالب المسؤول قال أبو حمزة الثمالي: كان زين العابدين عليه السلام يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل، فيتصدق به، ويقول: أن صدقة السر تطفىء غضب الرب. وفي البحار أنه كان له ابن عم يأتيه بالليل فيناوله، شيئاً من الدنانير، فيقول له العلوي: إن علي بن الحسين عليه السلام لا يوصلني، ويدعو عليه. فيسمع الإمام ذلك، ويغضي عنه، ولا يعرِّفه بنفسه ولما توفي عليه السلام، فقد الصلة، فعلم أن الذي كان يوصله هو الإمام. فكان يأتي قبره باكياً، ومعتذراً.
وفي ناسخ التواريخ كان عليه السلام يلبس أفخر الثياب، فكان يلبس في الشتاء الخز، فإذا جاء الصيف تصدق به، أو باعه، وتصدق بثمنه، وكان يلبس في الصيف ثوبين من متاع مصر، ويتصدق بهما إذا جاء الشتاء، وكان يقول إني لأستحي من ربي أن آكل ثمن ثوب عبدت اللَّه فيه. ومن المعلوم أنه حين حاصر مسلم بن عقبة المدينة كفل عليه السلام أربعمائة امرأة مع أولادهن، وحشمهن، وضمهن إلى عياله، وقام بنفقتهن إلى أن خرج ابن عقبة من المدينة.
* الإمام محمد الباقر عليه السلام
في الإرشاد عن سليمان بن قرم قال: كان أبو جعفر يجيزنا الخمسمائة درهم، إلى الستمائة درهم، إلى الألف، وكان لا يمل من صلة الإخوان، وقاصديه، وراجيه.
وفي أعيان الشيعة عن عمرو بن دينار وعبد اللَّه بن عبيد بن عمير أنهما قالا: ما لقينا أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام إلا وحمل إلينا النفقة، والكسوة، والصدقة يقول: هذه معدة لكم قبل أن تلقوني.
وفي صفة الصفوة قال الحسن بن كثير: شكوت إلى أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام الحاجة، وجفاة الإخوان؛ فتأثر عليه السلام، وقال: بئس الأخ يرعاك غنياً، ويقطعك فقيراً. ثم أمر غلامه، فأخرج كيساً فيه سبعمائة درهم، وقال: استنفق هذه، فإذا نفذت، فاعلمني.
وفي بحار الأنوار قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: دخلت على أبي يوماً، وهو يتصدق على فقراء أهل المدينة بثمانية آلاف دينار، وأعتق أهل بيت بلغوا أحد عشر مملوكاً.
وفي أعيان الشيعة أنه عليه السلام كان يتصدق على الفقراء في كل يوم جمعة بدينار ويقول الصدقة يوم الجمعة تضاعف الفضل على غيره من الأيام.
وفي البيان والتبيان كان محمد بن علي الباقر عليه السلام إذا رأى مبتلى، أخفى الاستعاذة. وكان لا يسمع من داره للسائل بورك فيك، ولا يا سائل خذ هذا. وكان يقول سموهم بأحسن أسمائهم.
وفي نور الأبصار قالت سلمى مولاة أبي جعفر كان يدخل عليه أصحابه، فلا يخرجون من عنده حتى يطعمهم الطعام الطيب، ويكسوهم الثياب الحسنة، ويهب لهم الدنانير، فأقول له في ذلك ليقلَّ منه، فيقول: يا سلمى ما حسنة الدنيا إلا صلة الإخوان والمعارف.
* الإمام جعفر الصادق عليه السلام
هشام بن سالم قال: كان أبو عبد اللَّه عليه السلام إذا أَعْتَم وذهب من الليل شطره أخذ جراباً فيه خبز ولحم، فحمله على عنقه، ثم ذهب إلى أهل الحاجة من أهل المدينة، فقسمه بينهم، وهم لا يعرفونه، فلما مضى أبو عبد اللَّه فقدوا ذلك، فعلموا أنه كان أبا عبد اللَّه عليه السلام. قال سعد بن بيان مر بنا المفضل بن عمر وأنا وفتى لي نتشاجر في ميراث، فوقف علينا ساعة، ثم قال لنا: تعالوا إلى المنزل، فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده، حتى إذا استوثق كل واحد منا صاحبه، قال المفضل: إما أنها ليست من مالي، ولكن أبا عبد اللَّه أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا أن أصلح بينهما، وافتديهما من ماله فهذا مال أبي عبد اللَّه.
وفي مشارق الأنوار أن فقيراً سأل الصادق عليه السلام فقال: لعبده ما عندك فقال أربعمائة درهم قال أعطه إياها، فأخذها شاكراً، فقال لعبده: ارجعه، فقال يا سيدي! سألت؛ فأعطيت، فماذا بعد العطاء، فقال له قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: خير الصدقة ما أبقت غنى، وإن لم نغنك فخذ هذا الخاتم فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم فإذا احتجت فبعه بهذه القيمة. وفي المناقب أغمي عليه عند موته، فلما آفاق، قال أعطوا الحسن الأفطس سبعين ديناراً، وأعطوا فلاناً كذا، فقيل له: أتعطي من حمل عليك بالشفرة يريد قتلك؟! قال عليه السلام: أتريد أن لا أكون من الذين قال اللَّه عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ﴾. قال له الرجل من أصحابه: جعلت فداك بلغني إنك تفعل في عين زياد اسم ضيعة له شيئاً أحب أن أسمعه منك، قال عليه السلام: نعم كنت آمر إذا أدركت الثمرة أن يثلم في حيطانها الثلم، ليدخل الناس ويأكلوا، وكنت آمر أن يوضع عشر بنيات يقعد على كل بنية عشرة كلما أكل عشرة جاء عشرة أخرى يلقى لكل منهم مدّاً من رطب. وكنت آمر لجيران الضيعة كلهم الشيخ والعجوز والمريض والصبي والمرأة ومن لا يقدر أن يجيء فيأكل، لكل إنسان مد.
* الإمام موسى الكاظم عليه السلام (المعروف بباب الحوائج)
كان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه، فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار. وفي عمدة الطالب كان أهله يقولون: عجباً لمن جاءته صرة موسى، فشكا القلة. وفي الإرشاد قال محمد بن عبيد اللَّه البكري: قدمت المدينة أطلب بها ديناً، فأعياني، فقلت: لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى بن جعفر، فشكوت ذلك إليه، فأتيته في ضيعته، فخرج إلي، ومعه غلام معه منسف فيه قديد مجزَّع ليس معه غيره، فأكل وأكلت معه، ثم سألني عن حاجتي، فذكرت له قصتي، فدخل، فلم يقم إلا يسيراً حتى خرج إليّ، فقال لغلامه اذهب ثم مدّ يده إليّ فدفع إليّ صرة فيها ثلاثمائة دينار. وفي مناقب ابن شهر آشوب كان عليه السلام يتفقد فقراء أهل المدينة، فيحمل إليهم في الليل العين والورق، وغير ذلك فيوصله إليهم وهم لا يعلمون من أي جهة هو. وروى الخطيب عن عيسى بن محمد بن مغيث القرظي قال: زرعت بطيخاً، وقثاء، وقرعاً في موضع بالجوانية على بئر يقال لها أم عظام، فلما قرب الخير، واستوى الزرع، بغتني الجراد، فأتى على الزرع كله. وكنت غرمت على الزرع، وفي ثمن جملين مائة وعشرين ديناراً. فبينما أنا جالس إذ طلع موسى بن جعفر، فسلَّم ثم قال: ايش مالك! فقلت: أصبحت كالطريم، بغتني الجراد، فأكل زرعي. قال: وكم غرمت فيه قلت: مائة وعشرين ديناراً مع ثمن الجملين، فقال: يا عرفة زن لأبي المغيث مائة وخمسين ديناراً فنريحك ثلاثين ديناراً، والجملين، فقلت: يا مبارك! ادخل وادع لي فيها، فدخل ودعا.
* الإمام علي الرضا عليه السلام
في المناقب عن يعقوب بن إسحاق النوبختي قام رجل بأبي الحسن الرضا عليه السلام فقال له: أعطني على قدر مروءتك، قال: لا يسعني ذلك، فقال: على قدر مروءتي قال: أما هذا فنعم، ثم قال: يا غلام! أعطه مائتي دينار. وفرق عليه السلام بخراسان ماله كله في يوم عرفة، فقال له الفضل بن سهل: إن هذا لمغرم فقال: بل هو المغنم لا تعدّن مغرماً ما ابتعت به أجراً وكرماً.
في الكافي عن اليسع بن حمزة كنت في مجلس أبي الحسن الرضا، وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام، إذ دخل عليه رجل فقال: السلام عليك يا ابن رسول اللَّه! رجل من محبيك، ومحبي آباءك، وأجدادك مصدري الحج، وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلة. فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي وللَّه عليّ نعمة، فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك، فلست موضع صدقة. قال له: اجلس رحمك اللَّه، وأقبل على الناس يحدثهم حتى تفرقوا، وبقي هو، وسليمان الجعفري، وخثيمة، وأنا فقال: أتأذنون لي في الدخول؟ فقال سليمان: قدَّم اللَّه أمرك، فقام فدخل الحجرة، وبقي ساعة، ثم خرج، ورد الباب، وأخرج يده من أعلى الباب، وقال: أين الخراساني؟ فقال: ها أنذا، فقال: هذه المائتي دينار، واستعن بها في مؤونتك، ونفقتك، وتبرك بها، ولا تتصدق بها عني، فاخرج فلا أراك ولا تراني. ثم خرج فقال سليمان: جعلت فداك! لقد أجزلت رحمك اللَّه، فلماذا استرت وجهك عنه؟ فقال: مخافة أن أرى ذلَّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته. وقد وفد عليه من الشعراء إبراهيم بن العباس الصولي، فوهب له عشرة آلاف من الدراهم التي ضربت باسمه، وأجاز أبا نواس بثلثمائة دينار لم يكن عنده غيرها، وساق إليه البغلة وأجاز دعبلاً الخزاعي بستمائة دينار، واعتذر إليه. وعن إبراهيم بن العباس أنه كان إذا خلا ونصبت الموائد أجلس على مائدته مماليكه، ومواليه حتى البواب، والسائس.
* الإمام محمد الجواد عليه السلام، والعسكريين عليه السلام
لقد قل ما روي عن هؤلاء الأئمة الثلاثة عليه السلام بسبب شدة الضغوط والظلم الذي تعرض له أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم في زمانهم، ومما روي: ففي المناقب قال إسحاق الجلاَّب اشتريت لأبي الحسن الإمام علي الهادي عليه السلام غنماً كثيرة يوم التروية، فقسمها في أقاربه. وقال ابن شهرآشوب دخل أبو عمرو عثمان ابن سعيد وأحمد بن إسحاق وعلي بن جعفر الهمداني على أبي الحسن العسكري الإمام علي الهادي عليه السلام، فشكا إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه، فقال: يا عمرو وكان وكيله ادفع إليه ثلاثين ألف دينار، وإلى علي ابن جعفر ثلاثين ألف دينار وخذ أنت ثلاثين ألف دينار. وروى الشيخ في الغيبة عن أبي جعفر العمري أن أبا طاهر بن بلبل حج، فنظر إلى علي بن جعفر الحماني وهو ينفق النفقات العظيمة، فلما انصرف، كتب بذلك إلى أبي محمد الإمام الحسن العسكري عليه السلام، فوقَّع في رقعته: قد أمرنا له بمائة ألف دينار ثم أمرنا له بمثلها فأبى قبولها إبقاءً علينا، ما للناس والدخول في أمرنا.
روى الحميري في الدلائل عن أبي يوسف الشاعر القصير شاعر المتوكل قال: ولد لي غلام، وكنت مضيقاً، فكتبت رقاعاً إلى جماعة استرفدهم، فرجعت بالخيبة، فقلت: أجيء، فأطوف حول الدار طوفة، وصرت إلى الباب، فخرج أبو حمزة، ومعه صرَّة سوداء فيها أربعمائة درهم، فقال: يقول لك سيدي: أنفق هذه على المولود بارك اللَّه لك به. وقد روى الشيخ في الغيبة عن أبي هاشم الجعفري في حديث قال: كنت مضيقاً فأردت أن أطلب من أبي محمد الإمام الحسن العسكري عليه السلام دنانير، فاستحييت فلما صرت إلى منزلي، وجه إليّ بمائة دينار وكتب إذا كانت لك حاجة فلا تستحِ، ولا تحتشم واطلبها فإنك ترى ما تحب إن شئت. هذه شذرات من كرمهم في حياتهم عليهم السلام ونسبتها إليهم كقطرة ماء في المحيط لكنها دعوة إلى الاستقامة على نهج عطائهم قل هذه سبيلي أدعو إلى اللَّه على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان اللَّه وما أنا من المشركين.