رسالة من والدٍ هرمٍ بالٍ، أفنى عمره بحفنة ألفاظٍ
ومفاهيم وضيّع حياته في إناء الأنا، وهو الآن يُصعِّد أنفاسه الأخيرة متأسفاً على
ماضيه إلى ولده الشاب الذي يمتلك فرصةً ليفكر كعباد اللَّه الصّالحين بتحرير نفسه
من التعلق بالدنيا التي هي فخ إبليس الخبيث.
بني، كَرُّ الدنيا وفرُّها وصعودها
وهبوطها (كل ذلك) ينقضي بسرعة، وكلنا نُسحق تحت عجلات الزمن. ومن خلال ملاحظاتي
ومطالعاتي في حال الشرائح المختلفة وصلْتُ إلى هذه النتيجة وهي أن الشريحة المقتدرة
والثرية، آلامها الداخلية والنفسية والروحية أكثر من سائر الشرائح. إنّ لهؤلاء
آمالاً وتمنياتٍ كثيرة لم يحققوها وهي أشد إيلاماً، وتحرق الأكباد. في هذا الزمان
الذي نعيش فيه والدنيا تعاني من القطبين القويين، فإنّ ألم العذاب الذي يبتلى به
رؤساء تلك الدول وألوان القلق المهلكة التي يعيشها كل قطب تجاه القطب الآخر لا يمكن
أن يقاس بآلام ومشاكل الشرائح المتوسطة بل وحتى الفقيرة. تنافس أولئك ليس تنافساً
عملياً بنّاءً بل هو تنافس قاتل يقصم ظهر كل منهم... وكأنّ كلاً منهم في مقابل
الآخر ذئبٌ مفترسٌ، يقف فاغراً فاه، حادّ الأسنان يريد افتراس الآخر. وعذاب هذا
التنافس موجود في جميع الشرائح من الثرية والقوية إلى الطبقات الأخرى. لكن كلما
ذهبنا صعوداً (في سلّم الثراء والقوة) يزداد عذاب التنافس بنفس النسبة... أما ما هو
أساس نجاة البشرية واطمئنان القلوب، فهو التحرر والإفلات من الدنيا وتعلقاتها ولا
يحصل ذلك إلا بالذكر الدائم للَّه تعالى.
أولئك الذين هم بصدد العلو كيفما كان...
سواء العلو في العلوم، حتى الإلهية منها، أو في القوة والشهرة والثروة إنما يسعون
في زيادة آلامهم. المتحررون من القيود المادية الذين خلَّصوا أنفسهم إلى حدٍ ما من
شَرَك إبليس، هم في هذه الدنيا في سعادةٍ وجنةٍ ورحمةٍ... في تلك الأيام أيام رضا
خان البهلوي التي كانت تُمارس فيها ضغوطاتٌ مهلكةٌ بهدف تغيير زي الروحانيين وكانت
الحوزات العلمية تعيش حمّى ذلك وآلامه (لا قدر اللَّه الرحمن أن تمر مثل تلك الأيام
على الحوزات العلمية) رأيت شيخاً فاضلاً نوعاً ما جالساً قرب مخبز يأكل قطعة خبز
(دون أدام) يقول: "قالوا لي إنزع عمامتك... فنزعتها وأعطيتها لشخصٍ يخيط منها
قميصين له... اللَّه كبير...".
ولدي: إذا قلت إني أشتري هذه الحالة بجميع مقامات
الدنيا فصدّق... ولكن هيهات خصوصاً من هو مثلي، المبتلى بشراك إبليس والنفس
الخبيثة.
بني:
أما أنا فقد فاتتني القافلة "يشيب ابن آدم وتشبّ فيه خصلتان: الحرص وطول
الأمل"... لكن أنت لديك نعمة الشباب وقدرة الإرادة... فالمؤمل أن تستطيع سلوك
طريق الصالحين... ولا يعني ما ذكرت أن تترك خدمة المجتمع وتعتزل وتكون كَلاًّ على
خلق اللَّه فإنّ هذه صفات الجاهلين المتنسِّكين أو الدراويش أرباب الدكاكين. سيرة
الأنبياء العظام صلى اللَّه على نبيِّنا وعليهم أجمعين والأئمة الأطهار عليهم
السلام الذين هم صفوة العارفين باللَّه والمتحررين من كل قيد وغِلٍّ والمتعلقين
بالساحة الإلهية هي القيام بكل قوّةٍ ضد الحكومات الطاغوتية وفراعنة الزمان... وقد
تجرعوا كؤوس الآلام من أجل إجراء العدالة في العالم وبذلوا الجهود... التي تلقننا
الدروس... وإذا كانت لنا عينٌ بصيرةٌ وأذنٌ سميعةٌ فسنجد فيها ما يفتح أمامنا
الطريق... "من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم".
بني:
لا الاعتزال الصوفيّ دليل الإرتباط بالحق، ولا الدخول في المجتمع وتشكيل الحكومة
شاهد الانفصال عن الحق، الميزان في الأعمال هو دوافعها... فكثيراً ما يكون العابد
والزاهد مبتلىً بشَرَك إبليس وهو يوسِّع ذلك الشَّرَك بما يناسبه من الأنانية
والغرور والعُجب والتكبر وتحقير خلق اللَّه والشِّرك الخفي وأمثال ذلك مما يبعده عن
الحق ويؤدي به إلى الشِّرك... وكثيراً ما يكون المتصدي لشؤون الحكومة ذا دافعٍ إلهي
فيحظى بمعدن قرب الحق كداود النبي وسليمان النبي عليهما السلام. وأعلى منهما وأسمى
كالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وخليفته بالحق علي بن أبي طالب عليه السلام،
وكحضرة المهدي أرواحنا لمقدمه الفداء في عصر حكومته العالمية. إذاً، ميزان العرفان
والحرمان هو الدافع، كلما كانت الدوافع أقرب إلى نور الفطرة. وأكثر تحرراً من الحجب
حتى حجب النور، تكون أكثر ارتباطاً بمبدأ النور إلى حيث يصبح الكلام عن الإرتباط
كفراً.
بني:
لا تُخل كاهلك من حمل المسؤولية الإنسانية التي هي خدمة الحق في صورة خدمة الخلق...
فإن جولات الشيطان وصولاته في هذا الميدان ليست بأقل من جولاته وصولاته بين
المسؤولين والمتصدين للأمور (العامة). ولا تتعب نفسك للحصول على مقامٍ مهما كان
سواء المقام المعنوي أم المادي متذرعاً بأني أريد أن أقترب من المعارف الإلهية
أكثر... أو أني أريد أن أخدم عباد اللَّه. فإنّ التوجه إلى ذلك من الشيطان... فضلاً
عن بذل الجهد للحصول عليه. الموعظة الإلهية الفريدة، اسمعها بالقلب والروح، واقبلها
بكل قوتك وسر في خطها.
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى
وَفُرَادَى
﴾...
الميزان في أول السير هو القيام للَّه، إنْ في الأعمال
الشخصية والفردية أو في النشاطات الاجتماعية. اسعَ أن تكون موفقاً في هذه الخطوة
الأولى... فإن ذلك في أيام الشباب أسهل وإمكانية التوفيق فيه أكثر. لا تفعل مثل
أبيك... تهرم فتبقى تراوح مكانك أو تتراجع وهذا يحتاج إلى المراقبة والمحاسبة. إذا
تيسّر لإنسان ما بدافع إلهي مُلك الجن والإنس، بل إذا حصل عليه، فهو عارف باللَّه
وزاهد في الدنيا... وإذا كان الدافع نفسانياً وشيطانياً، فكل ما حصل عليه حتى إذا
كان سبحة فقد ابتعد بهذا المقدار عن اللَّه تعالى.
بني:
عليك بالمجاهدة لتودع القلب عند اللَّه، ولا ترى مؤثراً غيره... أوليس عامَّة
المسلمين المتعبدين يصلّون في اليوم والليلة عدة مرات والصلاة زاخرة بالتوحيد
والمعارف الإلهية ويقولون عدة مرات في اليوم والليلة (إياك نعبد وإياك نستعين)
ويتلفظون أن العبادة والإعانة مختصتان باللَّه... إلاّ أنهم يتذللون ويتزلفون لكل
عالم وقوي وثري، إلا المؤمنين بالحق وخواص الحق سبحانه. وأحياناً يأتون بأكثر مما
يأتون به للمعبود... ويستمدون العون من كل شخص ويتمسكون بكل قشة من أجل آمالهم
الشيطانية وهم غافلون عن قدرة الحق...
بناءً على هذا الاحتمال: أن يكون مورد الخطاب
متوجهاً إلى الأشخاص الذين وصل الإيمان إلى قلوبهم، فإن أمر هؤلاء بالتقوى له فروق
عن الاحتمال الأول... هذه التقوى ليست التقوى عن الأعمال غير اللائقة. إنها التقوى
عن التوجه إلى غيره... تقوى عن الاستمداد من غير الحق والعبودية لغيره... تقوى عن
فسح المجال لغيره جلّ وعلا إلى القلب، تقوى عن الاتكال والاعتماد على غيره... هذا
الذي ترى أننا نحن وأمثالنا مبتلون به، ويؤدي إلى خوفي وخوفك من الشائعات ونشر
الأكاذيب والخوف من الموت والتحرر من الطبيعة وإزالة الخرقة هو من هذا القبيل الذي
يجب الاتقاء منه...
وفي هذه الصورة فإن المراد من
﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾
الأفعال القلبية التي لها في الملكوت صورة، وفوق ذلك أيضاً صورة... واللَّه خبير
بخطرات قلوب الجميع... وهذا لا يعني أن يترك الإنسان الفعالية ويهمل تربية نفسه،
ويجتنب كل شخص وكل شيء ويختار العزلة... على خلاف السنَّة الإلهية والسيرة العملية
لحضرات الأنبياء العظام والأولياء الكرام... هم عليهم صلوات اللَّه وسلامه... بذلوا
في سبيل الأهداف الإلهية والإنسانية كل الجهود اللاَّزمة... ولكن لا على شاكلتنا
نحن عُميَ القلوب الذين ننظر إلى الأسباب على نحو الاستقلال... بل كانوا يعتبرون كل
شيء في هذا المجال وهو من مقاماتهم العادية منه جلّ وعلا... وكانوا يرون الاستعانة
بكل شيء استعانة بالمبدأ... وأحد الفوارق بينهم وبين الآخرين هو هذا... أنا وأنت
وأمثالنا ننظر إلى الخلق والاستعانة بهم غافلين عن الحق تعالى... وهم كانوا يرون
الاستعانة به في الواقع، حتى إذا كانت في صورة الاستعانة بالأدوات والأسباب وكانوا
يرون الحوادث منه رغم أن الأمر في الظاهر عند أمثالنا غير ذلك... ومن هنا فإنَّ
الحوادث مهما كانت منغِّصة فإنها كانت عندهم هنيئة...