الشيخ حسن أحمد الهادي(*)
لقد تميّزت الفترة الزمنيّة التي عاشها الإمام الجواد
عليه السلام بعد استشهاد والده الإمام الرضا عليه السلام بهدوء سياسيّ نسبيّ، بعد
أن تمّت تصفية الحساب في وقت سابق بين الأخوين العباسيين الأمين والمأمون بمقتل
الأول وتفرّد الثاني بالسلطة السياسيّة.
وبعد استتباب الأوضاع السياسيّة في بغداد، واستقرار شؤون الدولة في العاصمة الجديدة
(بغداد)، تناهى إلى سمع المأمون أخبار أبي جعفر ابن الرضا عليه السلام واحتفاء
الناس به، وظهور كراماته ومعجزاته. أرسل المأمون خلف الإمام الجواد عليه السلام
واستدعاه من المدينة إلى بغداد في تلك السنة. ولهذا فإن التحرّك السياسيّ للإمام
الجواد عليه السلام بدأ من السنة التالية التي وصل فيها إلى بغداد، بعد أن أدّى
مناسك الحجّ وعاد إلى المدينة، ليجمع أهل بيته وعمومته من الهاشميين وخدَمه،
لمرافقته إلى بغداد، وكان أول لقائه عليه السلام بالمأمون العباسيّ، ومنذ ذلك، بدأ
المسلسل التاريخيّ السياسيّ، والاجتماعيّ، والعلميّ لحياة جواد الأئمّة عليهم
السلام.
*الإمام في مواجهة المشكّكين
قبل الحديث عن الحياة السياسيّة العمليّة المباشرة للإمام الجواد عليه السلام،
ينبغي التوقّف عند ثلاثة أمور سياسيّة، ترتبط بالإمامة والإمام عليه السلام بدءاً
من زمن الإمام الرضا وصولاً إلى ولده الإمام الجواد عليهما السلام، وهي:
الأول: التشكيك في خليفة الإمام الرضا عليه السلام:
لقد عايش الإمام الرضا عليه السلام في أخريات سنيّ حياته الشريفة ظروفاً حادّة كان
يثيرها بعض الواقفة والانتهازيين للتشكيك في إمامته عليه السلام لعدم إنجابه الولد؛
ذلك أنّه كان مركوزاً في الذهنيّة العامّة للمسلمين أنّ من علامات الإمام المعصوم
أنْ يخلفه إمام من صلبه، إذ لا تكون الإمامة في أخٍ أو عمٍّ أو غيرهما. وقد سُئل
الإمام الرضا عليه السلام: "أتكون الإمامة في عمٍّ أو خالٍ؟ فقال: لا، فقلت:
ففي أخ؟ قال: لا، قلت: ففي مَن؟ قال: في ولدي، وهو يومئذٍ لا ولد له"(1).
وكان عليه السلام يقف بحزم أمام الشبهات المثارة، ويجيب جواب الواثق المطمئنّ من
نفسه بأنّ الليالي والأيام لا تمضي حتّى يرزقه الله ولداً يُفرّقُ به بين الحقّ
والباطل. وهذا ما نفهمه من رواية محمد بن يعقوب الكلينيّ، قال: كتب ابن قياما (وهو
واقفيّ مخالف معروف) إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام كتاباً يقول فيه: كيف تكون
إماماً وليس لك ولد؟ فأجابه أبو الحسن عليه السلام: "وما علمك أنّه لا يكون لي
ولد؟! والله لا تمضي الأيام والليالي حتّى يرزقني الله ذكراً يُفرّق بين الحقّ
والباطل"(2).
الثاني: عمر الإمام ومنصب الإمامة:
ليس غريباً إذا قلنا إنّه لا مدخليّة للعمر في تسلُّم منصب الإمامة.
ولو أنّ ظاهرة الإمام الجواد عليه السلام كانت الأولى من نوعها في الإسلام على ما
هو معهود ومعروف، إلاّ أنّها لم تكن الأولى على مستوى حركة الأنبياء والرسل، فذاك
عيسى بن مريم آتاه الله الحكمة والنبوّة وكان في المهد صبياً، وقبله كان يحيى، فقد
آتاه الله الحكم والكتاب وهو صبيّ، قال تعالى:
﴿وآتَينَاهُ الحُكمَ صَبِيّاً﴾ (مريم: 12).
كان الإمام الرضا عليه السلام قد صرّح في العديد من الروايات عن أنّ مولوده الصغير
سيكون الإمام من بعده بالرغم من صغر سنِّه(3)، وبذلك فقد حلَّ الإمام الرضا عليه
السلام إشكالية المسألة في حياته وأرجع أصحابه وشيعته وجميع المسلمين إلى ابنه
الجواد عليه السلام.
ثم إنّ الإمام الجواد عليه السلام نفسه قد لمس الشكَّ والحيرة من بعض أصحاب أبيه في
هذا الأمر؛ لأنّهم لم يألفوا ذلك من قبل، فأراد تبيان هذه الظاهرة، وإلفات نظر
المتردّدين إلى الحقيقة التي غابت عن أذهانهم، ولهذا عندما يُسأل عن هذا الموضوع
وهو ابن سبع سنين أو نحوها، يجيب سائله إجابة قاطعة، جواب واثقٍ مطمئنّ من إمامته
على الناس، وهو ما رواه الكلينيّ بالإسناد عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، قال: "سألته
-يعني أبا جعفر عليه السلام- عن شيء من أمر الإمام، فقلت: يكون الإمام ابن أقلّ من
سبع سنين؟ فقال: نعم، وأقلّ من خمس سنين"(4).
الثالث: محاولة إضعاف موقع الإمامة:
لقد سعى المأمون بما أوتي من قوة ودهاء وسلطة إلى أن يضعف موقع الإمامة، ويجعلها
جزءاً من السلطة التابعة له، التي تستظلّ بفيئه وسلطانه. وهذا ما نفهمه من سياسته
التي اتّبعها مع الإمام الرضا عليه السلام حين ولّاه ولاية العهد.
بعد مضيّ سنة، كسب المأمون خلالها ودّ ورضا الشّيعة المعارضين بجلب الإمام عليه
السلام إلى قربه، حيث تمكّن الإمام عليه السلام من القيام بدورٍ أساس في تقوية
إيمان وعزيمة وروحيّة أولئك الشّيعة الثّائرين(5).
*سياسة المأمون المريبة
من الواضح تاريخيّاً أنّ السنوات القلائل التي أعقبت استشهاد الإمام الرضا عليه
السلام كانت مشحونة بالحذر والترقّب من قبل الشيعة عموماً والبيت الهاشميّ خصوصاً،
تُجاه السياسة التي اتّخذها المأمون في تقريب الإمام الجواد عليه السلام وإنزاله
تلك المنزلة منه، وهذا الترقّب والحذر راجع إلى أمور عدّة، لعلّ من أهمّها:
1. إظهار المأمون شغفه بأبي جعفر الجواد عليه السلام بعد أن استدعاه من المدينة
المنوّرة إلى بغداد؛ لما رأى من غزارة علمه، وهو لم يبلغ الحلم بعد، ولم يحضر عند
أحد للتتلمذ والدراسة. ثمّ إنّ صغر السن وامتلاك علوم جمّة والجلوس للمناظرة
والاحتجاج مع كبار الفقهاء هي ظاهرة فريدة وغريبة في دنيا الإسلام.
2. أظهر المأمون اهتماماً زائداً، وتكريماً متميّزاً للإمام الجواد عليه السلام
لأجل رفع أصابع الاتّهام عنه باغتيال الإمام الرضا عليه السلام. كما أراد أن يثبت
ظاهرياً للعوامّ والخواصّ حبّه للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، من خلال بقائه على
ولاء وحبّ البيت العلويّ، بل وأقرّ له عليه السلام ما كان يعطي أباه الرضا عليه
السلام من عطاء وزيادة، فبلغ عطاؤه ألف ألف درهمٍ سنويّاً.
3. تزويجه إيّاه من ابنته (زينب) المكنّاة بأمّ الفضل.
4. أمره ولاة الأقاليم والخطباء بإظهار فضائل الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي
طالب عليه السلام على المنابر في جميع المناسبات.
بهذا الدهاء السياسيّ استطاع المأمون العبّاسيّ ضمان عدم قيام شيعة أهل البيت عليهم
السلام عموماً، والطالبيّين بشكلٍ أخصّ، بأيّ ثورة أو انتفاضة ضدّ حكومته. وبذلك
تمكّن من أن يأمن هذا الجانب -وإن كان على حذر ووجل- إلى فترة غير قليلة، استطاع
خلالها ترتيب البيت العباسي، واستحكام أمر الخلافة. ولم يكن المأمون مستعجلاً هذه
المرة مع الإمام الجواد عليه السلام الفتى الصغير ثم الشاب اليافع، بشأن تصفية
وجوده، لما يشكّله عليه السلام من خطر على مستقبل الخلافة والوجود العباسيّ ككلّ.
*الإمام الجواد عليه السلام مظهر المقاومة السياسيّة
"إنّ هذا العظيم (الإمام الجواد) هو مظهر المقاومة وعلامتها. إنسانٌ عظيمٌ أمضى كلّ
عمره القصير في مواجهة ومعارضة السّلطة المزوّرة والمرائية للخليفة العبّاسي
-المأمون- ولم يتراجع خطوةً واحدةً، وتحمّل جميع الظروف الصّعبة، وجاهد بكلّ
الأساليب الجهاديّة الممكنة. وكان أوّل من أشاد بنيان بحث الحرّية بصورةٍ علنيّة.
وكان يُباحث العلماء والدعاة والمدّعين ومختلقي الأعذار في محضر المأمون العبّاسي
بشأن أدقّ القضايا ويستدلّ ويثبت أفضليّته وحقّانيّة كلامه"(6).
... وإنّ الحياة القصيرة لهذا العبد الصالح، انقضت بالجهاد ضدّ الكفر والطّغيان.
وقد أضحى في موقع قيادة الأمّة الإسلاميّة في حداثة عمره. وقد جاهد مجاهدةً مركّزة
ضدّ العدوّ في هذه السّنوات القصيرة، حيث إنّه كان في عمر الـ25 سنة، عندما لم يعد
أعداء الله يتحمّلون وجوده، فقتلوه بالسمّ واستُشهد كسائر الأئمّة الأطهار عليهم
السلام الّذين أضاف كلّ واحدٍ منهم بجهاده صفحةً على تاريخ الإسلام المليء
بالمفاخر. فإنّ هذا الإمام العظيم قد أضاف بعمله إلى الإسلام دعامة مهمّة من الجهاد
الشّامل، وقدّم لنا درساً عظيماً. وذاك الدّرس العظيم هو أنّه عندما نكون في مواجهة
القوى المنافقة والمرائية، يجب أن نسعى جهدنا من أجل أن نستنهض وعي النّاس لمواجهة
هذه القوى. فلو أنّ العدوّ يظهر عداءه بنحوٍ صريحٍ وعلنيّ ولا يرائي، فإنّ التّعامل
معه أسهل، من أن يكون العدوّ كالمأمون العبّاسيّ الذي يتظاهر بالقداسة والدّفاع عن
الإسلام(7).
(*) أستاذ في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالمية، فرع لبنان.
1- الكليني، أصول الكافي، ج1، ص286.
2- (م.ن)، ص320.
3- يراجع: (م.ن)، ص321 ـ 322.
4- (م.ن)، ص384.
5- إنسان بعمر 250 سنة، الإمام الخامنئي دام ظله، من كلمة له بتاريخ: 10/10/1980.
6- (م.ن)، من كلمة له بتاريخ: 15/05/1981.
7- (م.ن).