مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الإمام الجواد عليه السلام والإمامة المبكرة


الشيخ بسام حسين


برزت لأول مرّة في تاريخ الأئمّة ظاهرة الإمامة المبكرة عندما تولّى الإمام محمد الجواد ابن عليّ الرضا عليهما السلام منصب الإمامة وتصدّى لها وهو في سنّ مبكرة، لم يتجاوز عمره الشريف العشر سنين. وهو عمر صغير بالنسبة إلى ما ألفه الناس في عمر حاكم أو وليّ لله، بيده فصل الأمور والحكم بها، ورعاية الشيعة والأمة، فكيف يكون إماماً وحجّةً لله على خلقه وهو ما زال صبيّاً صغيراً؟! خاصة أن هذه الظاهرة تكرّرت أيضاً في قضية الإمام الحجة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف أيضاً، ما يستدعي بيان الإمامة كمنصب إلهيّ وعلاقة هذا الدور بعمر الإمام، مضافاً إلى تبيان كيف أوصى الأئمّة السابقون بإمامة الجواد صغيراً، وما هي الفرضيات التي تفسّر موقف الشيعة في الاعتقاد بإمامته المبكرة.

*هل ترتبط الإمامة بعمر الإمام؟
تعتبر الإمامة في الفكر الشيعيّ منصباً من المناصب الإلهيّة التي يمنحها الله تعالى لأشخاص معيّنين ومحدّدين وضِمن مواصفات خاصة.

وقد كان هذا الأمر معقوداً في نواصي الشيعة بدءاً من زمان أمير المؤمنين عليه السلام وحتّى آخر الأئمّة عليهم السلام، فعن عمرو بن الأشعث قال: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أترون الموصي منّا يوصي إلى من يريد؟! لا والله، ولكن عهد من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل فرجل حتّى ينتهي الأمر إلى صاحبه"(1).

وعن معاوية بن عمار، عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ الإمامة عهد من الله عزَّ وجلَّ معهود لرجال مُسمَّين، ليس للإمام أن يزويها عن الذي يكون من بعده.."(2).

*الإمامة المبكرة في الروايات
إنّ عمدة الشبهة والتساؤل المطروح هو: كيف يكون الإمام والحجّة لله على خَلقه صبيّاً صغيراً؟!

لقد تصدّت الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام للإجابة عن هذا الأمر ضمن المفهوم القرآنيّ.

رُوي عن الإمام أبي جعفر الثاني عليه السلام عندما قيل له: "إنّهم يقولون في حداثة سنّك، فقال عليه السلام: إنّ الله تعالى أوحى إلى داود أن يستخلف سليمان وهو صبيّ يرعى الغنم، فأنكر ذلك عبّاد بني إسرائيل وعلماؤهم، فأوحى الله إلى داود عليه السلام أن خُذ عصي المتكلّمين وعصا سليمان واجعلها في بيت واختم عليها بخواتيم القوم فإذا كان من الغد، فمن كانت عصاه قد أَورقت وأَثمرت فهو الخليفة، فأخبرهم داود، فقالوا: قد رضينا وسلّمنا"(3).

وقد أجاب علماؤنا الأبرار بمثل ما ورد في هذه الروايات من أدلّة وحجج، فعن الشيخ المفيد رحمه الله أنّه قال: "على أنّ ما اشتبه عليهم من جهة سِنّ أبي جعفر عليه السلام فإنه بيِّن الفساد، وذلك أنّ كمال العقل لا يستنكر لحجج الله تعالى مع صغر السنّ، قال الله سبحانه: ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (مريم: 29-30) فخبَّر عن المسيح عليه السلام بالكلام في المهد، وقال في قصّة يحيى عليه السلام: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (مريم: 12). وقد أجمع جمهور الشيعة مع سائر من خالفهم على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا عليّاً عليه السلام وهو صغير السنّ ولم يدع الصبيان غيره، وباهَل بالحسن والحسين عليهما السلام وهما طفلان، ولم يُرَ مباهِلٌ قبله ولا بعده باهَل بالأطفال، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه من تخصيص الله تعالى حجَجه على ما شرحناه، بطَل ما تعلّق به هؤلاء القوم"(4).

*افتراضات لتفسير الإمامة المبكرة
يرى الإمام الشهيد السيّد محمد باقر الصدر قدس سره أنّ الله سبحانه وتعالى قدّر أن يكون نفس وجود هذا الإمام على خطّ حياة أهل البيت عليهم السلام دليلاً وبرهاناً على صحّة العقيدة التي نؤمن بها؛ لأنّ الظاهرة التي وجدت مع هذا الإمام هي ظاهرة تولّي الشخص للإمامة وهو في سنّ الطفولة، على أساس أنّ التاريخ يتّفق ويجمع على أنّ الجواد عليه السلام توفّي أبوه وعمره لا يزيد عن سبع سنين. ومعنى هذا أنّه تولّى زعامة الطائفة الشيعيّة روحيّاً ودينيّاً وعلميّاً وفكريّاً وهو لا يزيد عن سبع سنين.

وهذه الظاهرة التي ظهرت لأوّل مرة في حياة الأئمّة في الإمام الجواد عليه السلام، لو درسناها بحساب الاحتمالات لوجدنا أنّها وحدها كافية للاقتناع بحقّانية هذا الخطّ الذي كان يمثّله الإمام الجواد عليه السلام، إذ كيف يمكن أن نفترض فرضاً آخر غير فرض الإمامة الواقعيّة في شخصٍ لا يزيد عمره على عشر سنين(5)، ويتولى زعامة هذه الطائفة في كلّ المجالات الروحيّة والفكريّة والفقهيّة والدينيّة؟

وهنا نورد الاحتمالات ونثبت عدم صحّة أيٍّ منها إلّا ذاك المرتبط بالإيمان بأنّ الجواد عليه السلام إمام حقّاً:

1. الافتراض الأول: الإمامة الواقعيّة للإمام الجواد عليه السلام

أنّ الإمام الجواد عليه السلام لم يكن مكشوفاً للمسلمين ولشيعته بل كان إماماً مستوراً.

وهذا الافتراض لا مجال له، وهو خلاف طبيعة العلاقة التي نشأت، منذ البداية، بين أئمّة أهل البيت عليهم السلام وقواعدهم الشعبيّة في المسلمين، وذلك:
لأنّ زعامة الإمام في أهل البيت عليهم السلام لم تكن زعامة دعوة سريّة من قبيل الدعوات الصوفيّة أو الفاطميّة التي تحجب بين رأس الدعوة وبين قواعد هذه الدعوة لكي يفترض أنّ هذا الرأس كان محجوباً عن رعيّته مع إيمان الرعيّة به، بل إمام أهل البيت عليهم السلام كان مكشوفاً أمام الطائفة، وكانت الطائفة بكل طبقاتها تتفاعل معه مباشرة في مسائلها الدينيّة، وفي قضاياها الروحيّة والأخلاقيّة، والإمام الجواد عليه السلام نفسه أصرّ على المأمون حينما استقدمه إلى بغداد في أن يسمح له بالرجوع إلى المدينة، وسمح له بذلك. فقضى عليه السلام أكثر عمره أو كلّ عمره وهو مكشوف أمام المسلمين، أمام مختلف طبقاتهم، بما فيهم الشيعة المؤمنون بزعامته وإمامته.

أضف إلى ذلك أنّ الإمام الجواد عليه السلام قد سلّطت عليه أضواء خاصّة من قبل الخليفة المأمون.. وقد زوّجه ابنته أمّ الفضل، واستقدمه إلى مجلسه ممتحناً له كما في القصّة المعروفة مع قاضيه "يحيى بن أكثم"، إلى غير ذلك مما يدلّ على كونه مكشوفاً أمام الجميع.

2. الافتراض الثاني: سذاجة الطائفة بحيث تنطلي عليها الإمامة المبكرة

افتراض أنّ المستوى العلميّ والفكريّ والعقليّ والروحيّ للطائفة وقتئذٍ كان يَعْبُر عليه هذا الموضوع بحيث تصدّق الطائفة بإمامة طفل وهو ليس بإمام.

وهذا الافتراض مما يكذِّبه الواقع التاريخيّ لهذه الطائفة وما وصلت إليه من مستوى علميّ وفقهيّ. فإنّ هذه الطائفة قد خلّفها الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام، وفيها أكبر وأضخم مدرسة للفكر الإسلاميّ في العالم الإسلاميّ على الإطلاق، وهي المدرسة التي تتكوَّن من الجيلين المتعاقبين: جيل تلامذة الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام من جهة، ثمّ جيل تلامذة الإمام الكاظم والإمام الرضا عليهما السلام من جهة أخرى، هذان الجيلان كانا على رأس هذه الطائفة في ميادين الفقه والتفسير والكلام والحديث والأخلاق، وكلّ جوانب المعرفة الإسلاميّة، وكانت على صلة مباشرة بالإمام الجواد عليه السلام تستفتيه وتسأله، وتنقل إليه الأموال من مختلف الأطراف من شيعته.

إنّ مثل هذا المستوى الفكريّ والعلميّ لهذه الطائفة التي كانت قبلة الفكر الإسلاميّ في كلّ ميادين المعرفة، لا يمكن أن يعبُر عليه مثل هذا التصوّر، وتتصوّر أن شخصاً طفلاً هو إمام وهو ليس بإمام.

3. الافتراض الثالث: عدم وضوح مفهوم الإمامة لدى الطائفة

وهذا الافتراض يكذّبه أيضاً واقع التراث المتواتر والمستفيض من عهد أمير المؤمنين إلى عهد الإمام الرضا عليهما السلام عن ماهيّة الإمام وشروطه وعلاماته. فالتشيّع قام بصورة أساسيّة على المفهوم الإلهيّ المعمّق للإمامة، وكون الإمام إنساناً فذّاً فريداً في معارفه وأخلاقه وقوْله وعمَله، وهو أوضح وأجلى وأوّل مفهوم من مفاهيم التشيّع، الذي بشّرت به آلاف النصوص الواردة عنهم عليهم السلام. ونجد شواهد في الروايات على ذلك، من قبيل نفي إمامة العديد من إخوة الأئمّة ممن ادّعي له الإمامة، بما كان واضحاً ومحدّداً عند الكثير من أبناء الطائفة، من أنّ الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام(6).

4. الافتراض الرابع: أن تكون مباني هذا الأمر والاعتقاد مبتنيةً على الزور والباطل من قبل هذه الطائفة

وهذا الافتراض أيضاً لا يكذّبه إيماننا الشخصيّ فقط بورع هذه الطائفة وقدسيّتها، بل تكذّبه، مضافاً إلى ذلك، الظروف الموضوعيّة التي عاشتها هذه الطائفة، فلم يكن التشيّع في يومٍ من الأيام في حياة هذه الطائفة طريقاً إلى الأمجاد، أو المال، أو المقامات العالية.. حتّى يكون هذا التباني من قبلهم في سبيل مطمعٍ، بل كان طيلة التاريخ طريقاً إلى التعذيب والسجون والحرمان والويل والدمار، وأن يعيش الإنسان حياة الخوف والتقيّة في كلّ حركاته وسكناته.

فلماذا يتبانى عقلاء هذه الطائفة ووجهاؤها وعلماؤها على إمامةٍ باطلةٍ -حسب الفرض- مع أنّ تبانيهم على هذه الإمامة الباطلة يكلّفهم كثيراً من ألوان العذاب والحرمان؟ ولو أنّ هؤلاء الوجهاء والعلماء والأعلام تركوا هذه الطريقة واتّبعوا الطريق الرسميّ المتّبع من قبل سائر المسلمين لكانوا في طليعة سائر المسلمين! فهذا ممّا يشهد على أنّ هذا الاعتقاد لا يمكن أن يكون ناشئاً إلا عن اعتقادٍ حقٍّ بهذه الإمامة.

5. الافتراض الأخير: وهو الفرض الباقي الوحيد المطابق للواقع، وهو أن يكون الإمام الجواد إماماً حقاً

بعد أن كانت كل الافتراضات السابقة الأخرى غير مقبولة عند أيّ إنسانٍ يطّلع على تاريخ الطائفة، وتاريخ الإسلام وقتئذٍ، وعلى الظروف الموضوعية التي تكتنف إمامة الإمام الجواد عليه السلام(7).

وعليه، إنْ كانت الإمامة مرتبطة بشخص الوليّ الكامل، فإنّ عدد السنين يكون أمراً اعتباريّاً له [ليس جوهريّاً]، إذ تمّ اختياره من الله تعالى لذلك المنصب منذ ولادته. وحدوثه في عيسى عليه السلام دليلٌ على إمكانه، مضافاً إلى بطلان الافتراضات المحتملة كما تقدّم.


1- الكافي، الكليني، ج1، ص278.
2- (م.ن).
3- بحار الأنوار، المجلسي، ج14، ص 81 - 82.
4- الفصول المختارة، الشريف المرتضى، ص316.
5- في كلمات السيّد الشهيد ورد التعبير بسبع سنين ونظراً إلى الاختلاف الحاصل في عمره بدلنا ذلك إلى عشر سنوات، والأمر سهل.
6- بحار الأنوار، (م.س)، ج25، ص249.
7- أخذنا هذا البحث من محاضرة للإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره، انظر: أئمّة أهل البيت عليهم السلام ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية، ص401 - 406.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع