روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّما الأعمال بالنيّات"(1). ولأنّ ليس للإنسان إلّا ما سعى، فإنّ طريق السعي وجعله وسيلة للتكامل، والوصول إلى الله، يبدأ من إصلاح النيّة، إلّا أنّ الشيطان يسعى بكلّ ما أوتي من غواية للتدخّل في نيّة العبد، وبدل أن يهتمّ مثل هذا الإنسان بما هو مطلوب منه، فإنّه يصرف عمره الثمين فيما لا طائل وراءه.
فما هي النيّة؟ وكيف نعمل على إصلاحها دون أن نقع في الوسوسة الشيطانيّة؟
•النيّة وملازمتها للعمل الاختياريّ
اعلم، أنّ النيّة هي التصميم والعزم على إتيان شيء، وإجماع النفس على إتيانه بعد تصوّره، والتصديق بفائدته، والحكم بلزوم إتيانه. وهي حالة نفسانيّة ووجدانيّة تكون بعد هذه الأمور، ونعبّر عنها بالهمّة والعزم والإرادة والقصد. وهي موجودة في جميع الأمور الاختياريّة، ولا يمكن تخلّف فعل إراديّ عنها. وهذا الأمر موجود في تمام العمل من أوّله إلى آخره حقيقةً.
ولا يلزم أن تكون النيّة حاصلة في الذهن أثناء العمل أو في أوّله تفصيلاً، أو أن يتصوّر الفاعل هذا القصد والتصميم فعلاً، بل ربّما يأتي الإنسان بالعمل بذلك التصميم والعزم، ذاهلاً وغافلاً بالكليّة عن الصورة التفصيليّة للعمل. ولكنّ النيّة موجودة في الواقع بتحريكها أو إتيانها كما هو واضح وجداناً في الأفعال الاختياريّة.
وبالجملة، هذا التصميم والعزم الذي هو عبارة عن النيّة في لسان الفقهاء (رضوان الله عليهم) موجود في كلّ عمل بلا تخلّف، بحيث لو أراد أحد أن يوجد العمل الاختياريّ بدونه، فهو غير ممكن له.
•وسوسة الشيطان تخريب النيّة
ومع ذلك، فإنّ وسوسة الشيطان الخبيث ودعابة الواهمة (قوى الخيال)، العقل محكوم بهما، حيث تعميان هذا الأمر الضروريّ على الإنسان المسكين، وعوضاً عن صرف عمره في معارف التوحيد ومعرفة الحقّ والسعي وراءه، يوسوس له إبليس الخبيث، فيصرف نصف عمره في تحقيق النيّة فقط.
إنّ للشيطان حبائل ومكائد كثيرة؛ فيوسوس لشخصٍ لترك العمل، وإذا يئس فيوســـــوس له بأن يترك أصل العمل، فيلزمه بالرياء والعجب وسائر المفسدات. وإذا لم يوفّق لهذا الأمر فيبطل عمله من خلال التظاهــــر بالقداسة، حينما يوهن عبادات جميع الناس في نظــــــره، وينسب الناس إلى عدم المبالاة، ثمّ يلزمه أن يصرف جميع عمره في النيّة، مثلاً، التي هي أمر ملازم للعمل، للعبادة، أو في التكبيرة، أو في القراءة التي هي كلّها من الأمور العاديّة ولا تحتاج إلى جهد أو تكلّف، وفي النهاية لا يرضى أن ينصرف عن الإنسان إلّا بعد أن يبطل عمله بإحدى الطرق المذكورة.
•الشخصيّة الوسواسيّة
إنّ للوسواس شؤوناً كثيرة وطرقاً عديدة لا نستطيع أن نبحث الآن في جميعها، ونستقصي جميع شؤونها، لكنّ لعلّ الوسوسة في النيّة الأكثر سخريةً وأعجبها بين أنواع الوسوسات؛ لأنّه إذا أراد أحد أن يقوم بكلّ قواه وفي جميع عمره بأداء أمر واحد اختياريّ بدون نيّة، لن يتمكّن أبداً. ومع ذلك، ترى واحداً مسكيناً مريض النفس وضعيف العقل يعطّل نفسه في كلّ صلاة مدّة مديدة؛ لكي تتحقّق صلاته مع النيّة والعزم، فمثل هذا الشخص كمن يتفكّر مدّة مديدة؛ لكي يحصل على النيّة للذهاب إلى السوق أو لتناول الغداء.
فالصلاة التي ينبغي أن تكون لهذا المسكين معراج قربه، ومفتاح سعادته، وبالتأدّب بآدابها القلبية والاطّلاع على أسرارها يكمل ذاته ويؤمّن النشأة الحياتيّة، يغفل عن ذلك كلّه فيها، بل لا يراها ضروريّةً لنفسه، لا بل يعدّ جميعها باطلة، وينفق رأسماله العزيز في خدمة الشيطان وإطاعة الوسواس الخنّاس، ويجعل عقله الموهوب من الله سبحانه الذي هو نور الهداية، محكوماً لحكم إبليس.
فعن عبد الله بن سنان قال: "ذكرت لأبي عبد الله عليه السلام رجلاً مبتلى بالوضوء والصلاة، وقلت: هو رجل عاقل، فقال أبو عبد الله عليه السلام : وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له: وكيف يطيع الشيطان؟ فقال: سَلْه: هذا الذي يأتيه من أيّ شيء هو؟ فإنّه يقول لك: من عمل الشيطان"(2).
(*) من كتاب: الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، الباب الثالث، في سر النية وآدابها.
1.تهذيب الأحكام، الطوسي، ج1، ص83.
2.الكافي، الكليني، ج1، ص12.