مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الزهراء ريحانة الإيثار

و.إ.ح.



لم يكن(1) إغفال الكاتب المصري الفاضل جابر الشال حضور الزهراء المزهر في كتاب الله دافعاً وحيداً لكتابة هذه المقالة، فتزامن صدور هذا العدد من مجلة "بقية الله" مع تاريخ(2) زواجها النوراني - زواج النور بالنور - من سيد الوصيين كان دافعاً أساسياً لعرض حركتها المميزة التي رصدها لها كتاب الله لا في سورة الإنسان فحسب بل في سور أخرى. وآياتٍ أخرى فتناثرت في جنائن القرآن. فتاريخ هذا الزواج أسّس - كما تعلمون ونعلم - لاستمرار نسل الرسول الأعظم في الحياة والكون ولخلود نهجه أيضاً. والزهراء في كتاب الحياة وفي كتاب خالق الحياة أمٌ وحيدة لذرية الرسول، ووالدة فريدة لحفظة نهجه العظيم كيف ذلك؟ للإجابة عن هذا السؤال ما علينا - أخوتي القرّاء - سوى تقليب صفحات هذا الأعظم بين الكتب وعلى وضوء نفس وغُسْل قلبٍ ونقاء بصيرة وصفاء سريرة...

بسم الله الرحمن الرحيم  ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا *  عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا *  يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *  وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا*  إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا . صدق الله العلي العظيم.

إنها أم أبيها، وأبوها سيد المرسلين. كفاها بذلك نسباً وكفانا نحن فيىء بنوّتها لمحمد ودفء أمومتها له، هذه هي الزهراء حسباً ونسباً، لذلك فلنتفيّأ ظلال القرآن في سيرة سيِّدة بني الإنسان. ولنبدأ في الآيات التي باركت مطلع المقال بعد أن نعرض لبعض الآيات التي اشتهرت بين الناس بأسماءٍ تخالف السُّور التي احتوتها ارتباطاً بآل البيت وزهرائهم عليها الصلاة والسلام. عُرِفت الآية الثالثة والثلاثون من سورة الأحزاب بين المفسّرين بآية التطهير  ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

  وقد روى الزمخشري في "كشّافه" والغدادي في تاريخه بإسناده عن أبي سعيد الخدري كما روى الرازي وسبط ابن الجوزي وابن الأثير الجزري كيفية نزول الآية وأسبابها وقد أجمعوا على حديث كساءٍ ضمَّ الرسول والحسنين وعلياً وفاطمة وحينها نزلت الآية بإعلان تطهيرهم. ثمَّة اختلافاتٌ طفيفة في أمور صغيرة، كمكان نزول الآية أهو بيت أم سلمة أم بيت الزهراء. فليكن أحد هذين البيتين وليكن للتاريخ الإسلامي هيبة هذا الكساء الذي لا خلاف حوله وليكن لزهرائه غمار ضوءٍ يغمرها مع أبيها وبعلها وبنيها بشلالات الوحي المنسكبة على كل خيطٍ من خيوطه تحت غيث آيةٍ ارتبطت بهم دون سواهم.

أما الآية الثانية والعشرون من سورة الشورى والتي عُرفت بين علماء التنزيل باسم آية القربى(3) أو آية المودّة، فقد أجمعت المصادر نفسها على نزولها في فاطمة وأهل بيتها وعلى أن النبي كان يؤكد في كل مناسبة أنهم هم أهل بيته الذين وجبت محبتهم على العالمين وذلك على مبدأ ابن عربي في قوله:
 

على رغم أهل البعد يورثني القربى رأيت ولائي آل طه فريضة
بتبليغه إلا المودة في القربى فما طلب المبعوث أجراً على الهدى


وتتضوَّع آية المباهلة بأريج الزهراء حيث جاءت الآية الستون من سورة آل عمران لتروي حكاية مباهلةٍ بين النبي ونصارى نجران. تلك المباهلة التي لم تتم بناءً لطلب الإعفاء الذي قدّمه الأسقف حينها. ربما لم تكن العبرة وحدها هدفاً لذكْرِ هذه الحادثة في كتاب الله. إن تأكيد قيمة الزهراء وأهل بيتها عند الله ورسوله هدف آخر للنزول والذكر ليصدح هذا الذكر في الملأ: ﴿ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ..

 وقد دعا النبي أبناءه وكانا الحسنين ودعا نفسه وكانت علياً ودعا نساءه وما كانت غير فاطمة. وتأتي سورة الكوثر على صِغرها موجزاً حياً لحادثة تؤكد نزولها في حقِّ الزهراء وقد حملت اسم الكوثر كنايةً عنها لأن هذا الاسم يعني وبإجماع المفسِّرين واللغويين الكثرة البالغة وأن الزهراء هي هذا الكوثر الذي استمر منه نسلُ النبي تحدياً لذلك العاصي ابن العاص الذي خلَّف للأمة أدهى دهاتها وذلك بعد أن شنأ النبي ونعته بالأبتر أي المقطوع النسل. وسواء أكان هذا الكوثر نهراً يجري في الجنة على قول بعض المفسرين أو كان الزهراء وهو الأرجح والأوضح من سياق الآية وانسجامها مع الحادثة المرتبطة به تبقى الزهراء خير أنسية تتشبه بها رياض الجنة وخير كوثرٍ ملأ الأرض نسلاً نبوياً طاهراً قال فيه خالقه:  ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ*  إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.

وتحت عنوان "عَوْدٌ على بدءٍ نعود للحديث عن الزهراء في سورة الإنسان التي تبارك المقال بآياتها لنسجِّل هنا عجباً لا عتباً، عجباً من خلو الدراسة القيِّمة للكاتب جابر الشال من ذكر الزهراء في معرض حديثه عن الواردات ذكراً في كتاب الله. في حين تناولت هذه الدراسة التي اعتبرتها دار الجيل دراسةً رائدةً وأولى في هذا النوع من الدراسات. لقد تناول الأستاذ الشال سيرة مسليكة التائب ورَيْطة الحمقاء وكُبَيْشة بنت معن وأم كحيّة وذلك حجة الكتابة عن نساءٍ مغموراتٍ لم يذكرهن التاريخ رغم ورود ذكرهن في كتاب الله. ولكن الدراسة نفسها تعرضت لبلقيس ملكة سبأ وآسية زوجة فرعون ومريم أم عيسى وهنَّ على ما نعلم جميعاً نساءٌ مشهورات بالعفة والفضيلة والحكمة والزهراء بشخصها النوراني مجمع هذه الفضائل فكيف أغفلها الكاتب الفاضل؟

 نحن نسجل هذا العجب حرصاً على القيمة العلمية لكل دراسة تتناول الفصل القرآني النسائي تحديداً وهذه القيمة تكتمل فضيلة عندما تلوذ بفيىء صرح الإيثار الذي بنته سورة الإنسان للزهراء مع بعلها وذلك حينما وقف ببابهما وفي الأيام الثلاثة مسكين ويتيم وأسير. وقد أطعماهم ما أعدّا إفطارهما بعد نذرِهِما صوم هذه الأيام شكراً لشفاء الحسنين من مرضٍ ألمَّ بهما. وقد خلَّد الوحي الإلهي هذه القصة في كتاب محفوظٍ ونصٍّ خالدٍ مقروءٍ في امرألآٍ سمت وتسامت حتى أغارت الشهبُ منها. ومن الجدير بالذِّكر أن هذا النصَّ قد تحدث عن الأسرة الصائمة بجناحيها العظيمين لا عن الزهراء وحدها. وقد سار الثواب الإلهي مع موقف اللّذين آثرا على نفسيهما وقد كانت بهما خصاصة فوعدهما بكل مباهج الجنان إلا بالحور العين عندما سئل أحد أئمة أهل البيت عن سبب خلو هذه السورة من ذكرِ الحور العين إلى جانب الولدان المخلدين، كان جواب الإمام عليها الصلاة والسلام "لم تُذكر الحور العين في هذه السورة إجلالاً لجدتي فاطمة لأنها نزلت فيها وفي أهل بيتها".

 أخيراً تبقى الزهراء سيدة لنساء العالمين بتصريح أبيها وسيدة النساء الوارد ذكرُهن في التنزيل المبين، تبقى فاطمة اسماً يتردد على شفاه الملايين من أحفادها، كلما تلا عابدٌ منهم كتاب الله وكتاب أبيها وستخفق أفئدة محبيها كُلَّما ترنَّموا بسيرتها سواء تُليت قرآناً في سورٍ محكماتٍ أو قرئت كالقرآن في سفر الخلود. فسلامٌ عليها يوم ولدت ويوم اقترنت بعليٍّ فخَلُدا معاً اسماً ومعنًى ورمزاً وقيمة في قلوب استضاءت بولائهما وفي كتابٍ خالدٍ لم يقدمها كأطهر خلق الله وأقربهم إلى نبيهم فحسب، بل قدّمها لنا كأرقى نموج نسائي استحق مقاصير الجنان، وكامرأةٍ تباهى بذِكْرِها الدهرُ وسورة الإنسان التي بوَّأتها موقع السيادة فوق قمم الإيثار الأغلى والأصعب في كل زمانٍ ومكانٍ وحيثما يصلي لوجه الحق إنسان.
 


(1) في دراسته الصادرة عن دار الجيل تحت عنوان "قصص النساء في القرآن الكريم".
(2) في المصباح: أن زواج فاطمة وعلي عليها الصلاة والسلام قد تمَّ في أول يوم من ذي الحجة أو في السادس منه.
(3) {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى}.



 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع