حسن سلهب(*)
إن أول ما يثير المراجع للآيات والأحاديث في خصوص الوالدين، هذا التوازي المدهش بين توحيد اللَّه والإحسان للوالدين، في أكثر من مكان ذكر فيه موضوع الوالدين. ففي سورة الإسراء نعثر على هذه الملازمة أو المرافقة ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (الآية: 23). ما يبعث على الاستنتاج بأن قصداً إلهياً (في خصوص هذا التلازم بين التوحيد والإحسان للوالدين) أصيلاً في الرسالة الإلهية. وهناك تلازمٌ آخر في موضوع الشكر، حيث يذكر اللَّه في كتابه العزيز ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إليّ المصير﴾، ما يوحي بمضمونٍ راقٍ لدور الوالدين، حيث الشكر للوالدين واجبٌ إلى جنب وجوبه للَّه سبحانه وتعالى.
أيضاً هناك إشارة أخرى في القرآن الكريم توحي بخصوصية ما للأم حيث إننا نجد في معرض التفصيل والشرح عن جهود وتضحيات الوالدين يغيب ذكر الأب وتظهر الجهود والتضحيات الخاصة بالأم: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْن﴾ (لقمان: 14)، أو ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾ (الأحقاف: 15). ما يؤكد على هذا التمايز في وظيفة الأم ودورها مقارنة بدور الأب في إطار عنوان الوالدين. والأمر ذاته يظهر بصورة أوضح في الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام. "الجنة تحت أقدام الأمهات" "أمَّك... ثم أمك... ثم أمك ثم أباك".
إذاً، مع الوالدين عموماً والأم خصوصاً نحن أمام ثوابت ومقدسات فيها من الإيمان والتقوى ما يوجب التوقف والتأمل طويلاً وملياً وإذا كان موضوعنا اليوم هو الأم فإن أسئلة عديدة تُطرح في هذا المجال منها: ما هي الأسرار التي تختزنها الأمومة حتى صارت إلى هذه المكانة المقدسة؟ ما هي الوظائف والأدوار المناطة بالأم؟ كيف تتألق الأمومة؟ ما هي أبرز التحديات التي تواجهها الأمومة في الحياة؟
* في أسرار ووظيفة الأمومة
في الحقيقة من الصعب بحث هذا الموضوع بواسطة الرجال، لكن ما وصلنا من الأمهات في هذا المجال، وما شهدناه وقرأناه، يسمح لنا بمقاربة محدودة. الأمومة في بعض تجلياتها انبعاثٌ ثريٌ في مجموعة من قيم وسجايا إنسانية ذات طابع اجتماعي في الغالب، وفي رأسها الحب والعطاء. من هنا فإن أثرها بهذه القيم والسجايا الطيبة كأثر الروح في الأجسام الندية الطرية. وفعل الأمومة لا ينضبط في مجال من مجالات الإنسان دون غيره، فهو في الحواس كما هو في المشاعر، وهو في القلب كما هو في العقل، إنه روحٌ جديدة، روح بديلة، روحٌ وليدة. وإن غاية الإرادة الإلهية من ذلك كله إعدادٌ وتأهيلٌ يكتمل مع لحظات الولادة الأولى، في سياق التكريم الإلهي لكل مولودٍ جديد ونحو عناية فريدة بهذا الإنسان الذي جعله اللَّه خليفته في هذا العالم. الأمومة إذاً تمكين للمرأة في أن تنجز برنامجاً مكثفاً لكل مولودٍ جديد، وهي في قوتها تحاكي الغرائز النبيلة التي تلزم الكائنات بهديها. وبذلك لن يكون في مقدور المرأة أن تختار أو تتردَّد في تحقيق إرادة اللَّه في تكريم الإنسان وتكوينه.
* في نمو وتألق الأمومة
إن هذه الروح الجديدة التي تدخل كيان المرأة مهدَّدة ليس بالموت بل بالذبول، بالجمود، بالجفاف والغياب المؤقت. من هنا، فإن ما يمكن أن تخضع لتأثيراته المرأة قد يضرب في عمق وزخم قوة هذه الروح الجديدة التي تنبعث في جوهرها. ونحن نعلم بالخبرة أن أول المتألمين، وأول المحبطين، وأول المتأثرين من هذا الذبول أو الجفاف أو الضعف في هذه الروح هي الأم نفسها، من هنا فإن هذه الروح إذا ما وجدت ماءاً بعد ظمأ أو اهتماماً بعد اهمال، أو قدرة بعد عجز، فإنها تثور بذاتها وتعبِّر عن نفسها بشكل لا يخلو من مظاهر الجنون أحياناً. والأمومة على الرغم من هذه القوة التي لا تدع المرأة في حالة اختيار أو تردد قابلة للتألق ولائقة بالنمو. قابلة للتألق بمقدار الوعي الذي يسمح بترشيد هذه الطاقات الجميلة والنبيلة وبالتالي إنفاقها في المكان والزمان والموضوع المناسب. قابلة للتألق بمقدار المناعة والحصانة التي تمكنها من الوقوف منتصبة القامة أمام قضايا الحياة الصعبة والضاغطة. كذلك، فإن هذه المشاعر النبيلة مهدَّدة بالخيبات التي لا تحسن معها المرأة أن تنظر بوضوح أو تفهم بواقعية أحياناً. هذه السجايا الطيبة محاطة بأمواج من النقائض والاختلافات التي من شأنها صرف المرأة عن الالتزام بمضمون الأمومة إذا ما دخلت في مقارنة غير متكافئة بين الأنا والآخر حتى ولو كان هذا الآخر ابنها بالذات.
*التحديات
نعم إن أخطر التحديات التي تضغط في غير اتجاه التألق بالأمومة البنوَّة نفسها. إن الأمومة التي أخفقت في تحقيق بنوَّة سليمة سوف تعاني من ذلك بالتأكيد، وسوف تتحول هذه البنوة من تعبيرٍ عنها إلى مأزق لها. والأمومة في تفاعلٍ عميق مع البنوَّة، وهما معاً يتبادلان التأثير، إلا أن الأمومة أعمق جذوراً في الفطرة، ووجودها أصيل في التكوين، أما البنوة ومع ارتباطها في التكوين إلا أنها في التشريع أعمق وأكبر. من هنا يتعين الاحتراس من أن تكون البنوَّة، بسلوكياتها وتعبيراتها، عوامل إحباط في تألَّق الأمومة بل في ضمورها وانكفائها ولا ينبغي تجاهل مقولة أن الأبناء صنيعة أمهاتهم بالدرجة الأولى. من التحديات المؤثرة أيضاً: الأبوَّة. وكثيرٌ من الأمهات يقعن ضحية مقارنات غير متكافئة بين جهودهن وتضحياتهن من جهة، وجهود وتضحيات الآباء من جهة أخرى، وهذه مقارنات غير عادلة في الأصل. وقد يكون ذلك بسيطاً أمام تقصير الآباء بل قصورهم أحياناً كونهم لا يملكون قوّة في مستوى الأمومة. من الثابت أن الأسرة أمومة وأبوة معاً، وليست أمومة فقط، ومن الواضح أيضاً أن الأمومة تتفاعل وتتألق مع الأبوة ويتبادل الطرفان التأثير، لكن الأمومة كما رأينا في المقدِّمة في حالة امتياز عن الأبوة، وهي كالأبوة تكتفي بذاتها وتقوم بنفسها ولا يمكن أن تكون انعكاساً لسلوكها فحسب. الأمومة ليست مرآة الأبوة والبنوة فحسب، إنها مرآة الإرادة الإلهية فيها في الأساس ودوماً.
أخيراً ومن التحديات الخطيرة، وربما أخطر التحديات على الأمومة، هي المرأة ذاتها بمعنى أن إنفصالاً قد يقع في شخص الأم بين كونها أماً وكونها إنساناً له طموحه ودوره ومشروعه الخاص، وهذا التحدي على وجاهته ومعقوليته أحياناً، إلا أنه قد يرمي بالأمومة في أسوء الحالات وبالتالي يعدم تأثيرها الحيوي.
*المرأة الأم، أم المرأة الإنسان، أيهما أهم؟
بدايةً إن هذا التزاحم ليس أمراً واقعاً بصورة دائمة، وربما لا يقع عند الكثيرات، لكن عند وقوعه لا بد من العناية الشديدة به، وهذه العناية تبدأ ليس في لحظات الولادة كما يمكن أن يظن البعض، بل في اللحظة التي تفكر فيها المرأة في أن تكون أماً. ليس واجباً على المرأة أن تكون أماً، لكن إذا ما غدت أماً فالأمومة هي خيارها الأول. من الواضح أن هذا التزاحم إذا ما حدث لن يكون بسيطاً أبداً. إنه صراع شاق وأليم، بين فكر المرأة وفطرتها، بين قناعات وطموحات المرأة وطبيعتها، وقد تُهزم هذه الفطرة أو الطبيعة، لكن مع كثير من شخصية المرأة حتماً، وربما مستقبلها، وحتى حياتها، في بعض الأحيان. في يوم الأمومة نستعيد في ذاكرتنا نساءاً رائدات وأمهات شامخات في التاريخ، امتدت خيرات أمومتهن حتى كن أمهات أزواجهن والمؤمنين كالسيدة خديجة بنت خويلد زوجة الرسول صلى الله عليه وآله وأم المؤمنين. أو أمهات آبائهن كالسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام (فاطمة أم أبيها) أو أمهات إخوانهن أو أبناء إخوانهن كالسيدة زينب مع الإمامين الحسين عليه السلام وعلي بن الحسين عليه السلام. إن الأمومة ينبوع محبة وعطاء يسري في جداول الحياة يسقي التاريخ حناناً ورأفة ويضمن للمستقبل إمكانية بقاء الخير في الإنسان حتى نهاية هذا العالم.
(*) مدير المركز التربوي لجمعية الإمداد الخيرية