* المقدمة
قبل الدخول في الأبحاث المطلوبة، فلا بد من بيان مقدمة مختصرة من خلال طرح هذا السؤال وهو: لماذا نجد أشخاصاً عاصين منحرفين، مع أن كل القوانين والبرامج الأخلاقية والسلوكية والحقوقية للإسلام قد نُظمت على أساس فطرة الإنسان؟ ولماذا لم نتمكن إلى الآن من إعادتهم عن انحرافهم إلى جادة الصواب، ولم نستطع تطبيق النظام الأخلاقي الإسلامي مع محتواه العظيم في المجتمع؟
هنا نشير إلى عاملين أصليين:
1- العامل الأول: بالرغم من تأكيد الإسلام على مسألة معرفة الإنسان وبالرغم من كل المساعي الكبيرة لأساتذة المعارف الإسلامية في هذا المجال، لم يزل الإنسان ومع الأسف الكبير جاهلاً بمعرفة نفسه بالحد الكافي، مع أن أساس كل الكمالات هو العرفان، ومعرفة النفس، وفاجعة عصرنا الحالي تعود لعدم المعرفة هذه. لقد أصبح الإنسان في مراحل متقدمة من الناحية العلمية في مجال معرفة الطبيعة، وعناصر ورموز العالم، ولكن لا تزال نفسه مجهولة عنده. ومع أنه يسعى لاكتشاف كل شيء إلا أنه حين يُسأل: من أنت ومن تكون؟ يعجز عن الإجابة.
ومع الأسف فإنه لا يهتم بالبحث في المباحث العقائدية، والنظرة إلى العالم، والأيديولوجيات بشكل كافٍ، مع أنه أهلها ومحورها. لهذا وباستثناء عدد محدود لا يزال الإنسان مجهولاً لدى أكثر الناس، وعندما لا يعرف الإنسان نفسه، ولا تتوضح له مرتبته ومنزلته، فلا يعود عنده فرق بين الرذائل والفضائل، وفي النهاية يقوم بأعمال تتلاءم مع طبعه وأهوائه.
بناءً عليه فبقدر ما نتمكن من تعريف الإنسان على شخصيّته في عالم الخلقة ونتمكن من تفهيمه من يكون وكيف؟ وما هي الرساميل التي لديه، نكون قد تقدمنا في طريق تنظيم أخلاقه وسلوكه. ومن باب المثال: لو أردنا أن نقول لغير المحجبة أو لمن كان حجابها سيئاً، أن هذا يسيء إلى عظمة وكرامة وقيمة المرأة الإلهية الكبيرة، تبقى هذه المفاهيم غير واضحة لديها، ولا تستطيع إدراك شيء غير الغريزة، فكيف يمكننا أن نتوقع أن تتقبل هذه النصائح؟ تُنقل قصة حول هذا الموضوع يُقال: كان شخص يعبر من مكان، فرأى شخصاً نائماً على بطنه فوق عين ماء يشرب. فاقترب منه وقال: شرب الماء بهذه الطريقة يُذهب العقل؟ فقال العابر: لا شيء لا شيء إشرب الذي لا يعرف معنى العقل لا يمكن البحث معه.
مسألة معرفة الإنسان لذاته، هي الخطوة الأولى لمعرفة الروابط الاجتماعية "من عرف نفسه فقد عرف ربه".
2- العامل الثاني: عدم الاهتمام بالأسلوب والطريقة، يعني كيف يجب الدخول في الموضوع ومن أي باب حتى يمكن إجراء البرامج الأخلاقية؟ أليست المعرفة ضرورية للتوفيق في تربية الإنسان، خصوصاً مع السعي لمواجهة مظاهر الطبيعة (حيث لا يتمتعون بدائرة معارف واسعة) فمعرفة النفس من الأسس الأساسية للعلوم.
ولأن هذا الأمر لم يتحقق بالمقدار الكافي، فإن النتائج لم تكن مناسبة في الغالب، لهذا يجب بذل أقصى المساعي في هذا الباب، والقيام بتحقيق ودراسة أكبر.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه ما دامت هاتان المسألتان لم تحلا كما يجب في مجتمعنا، فلا يمكننا أن نأمل بإصلاحه، لأن الإنسان موجود معقد، وتتداخل عوامل متعددة في تربيته. فعليه أن يعرف مقامه ومنزلته حتى لا يعمل على إسقاط قيمته من خلال أتباعه لأهوائه وعليه أن يعرف طرق الإرشاد وأساليب الدعوة حتى يوفق في الهداية والدعوة.
* وحدة وتماسك قوانين عالم الخلقة
أول ما يخطر على البال عندما ننظر إلى العالم هو أن ظواهره منفصلة عن بعضها البعض، يعني أن البشر والحيوانات، والنبات والموجودات الأخرى يحيون بطريقة مستقلة ولا ترابط فيما بينهم، ولكن عندما ننظر إلى عالم الخلقة بعمق، نجد أن ذرات العالم متناسقة ومرتبطة ارتباطاً كاملاً. يعني أننا نرى وحدة وانسجاماً كاملاً في كل العالم. وهذا الانسجام هو أحد دلائل إثبات الصانع وإثبات التوحيد الذاتي والأفعالي له، وهو بحث يرتبط بأصول العقائد. ويمكننا الإلفات والإشارة إلى هذه الوحدة بين الإنسان والطبيعة بسهولة كما سيأتي، فليس الإنسان الذي يبدو منفصلاً بحسب الظاهر مرتبطاً بمجموع الطبيعة فقط، بل ويوجد تأثير وتأثر بينهما. والآن نلفت انتباهكم إلى بحث مختصر في هذا المجال.
أ- الشبه والارتباط بين النظام الطبيعي للعالم والنظام الطبيعي لبدن الإنسان
كل عناصر عالم الخلقة من قبيل (السديم، البوتاسيوم، الحديد، السائل وغيره) وبكلمة واحدة الـ108 عناصر (المندليف) يوجد عينها في بدن الإنسان ولهذا السبب فإطلاق مصطلح (العالم الكبير) على الإنسان هو صحيح. لا يمكننا أن نجد أي عنصر موجود في الطبيعة لا يوجد منه في بدن الإنسان. حتى أن منا اكتشف حديثاً من كون ثلثي الكرة الأرضية يتشكل من الماء ينطبق على بدن الإنسان إذ يحتوي الجسد نفس المقدار من الماء الذي تحتويه الكرة الأرضية.
وهكذا نلاحظ إن الإنسان وبالرغم من صغر حجمه يتكون من مجموعة عناصر ومواد أولية موجودة في الطبيعة، وكم من المواد التي لم تكتشف موجودة في بدن الإنسان.
ومن جهة ثانية نلاحظ أنه يوجد تبادل دائم بين الإنسان والحيوانات والنباتات، فالإنسان يخرج غاز الكربون ويحتفظ بالأوكسجين، خلال عملية التنفس بينما تقوم النباتات بعملية معاكسة فتحتفظ بالكربون وتخرج الأوكسجين، ولو لم تكن هذه المعاملة بين الإنسان والنبات لماتت النباتات ولما استطاع الإنسان العيش. ولهذا نجد أن لهما تأثير متقابل في حياة بعضهما البعض. فبين حركة بدن الإنسان وعالم الطبيعة تنظيم وتنسيق جميل يعمل بدقة. ولهذا لا يمكن تصور وجود الإنسان دون وجود الطبيعة.
ب- الشبه والارتباط بين الآفات الطبيعية للعالم والأمراض الجسدية للإنسان
التنسيق الآخر الموجود بين بدن الإنسان والطبيعة يشبه الآفات الطبيعية للعالم والأمراض الجسدية للإنسان. لو سُئل أحد الأطباء: عن ماذا ينتج مرض الكبد؟ لأجاب: أن السبب الرئيسي لهذا المرض هو انحراف الكبد عن حركته الطبيعية نتيجة ميكروب أو فيروس يدخل إليه وقد تصدق الدلائل في حق أمراض النبات، لأنه يمكن القول أن نفوذ الميكروب أو الآفة في النبات يخرجها عن سيرها الطبيعي. فعلى سبيل المثال قد يكون سبب مرض الكبد طعام غير سالم، وكذلك قد يكون سبب مرض النبات أننا أرقنا عليه ماء الصابون عوض أن نضع له سماداً. إذن كما يوجد أمراض في الطبيعة يمكن أن تظهر أمراض في جسد الإنسان. وفي تحليل هاتين الظاهرتين يتضح لنا أن كلاهما يتبعان قانوناً واحداً.
لو سُئل أحد علماء النبات، كيف يمكن تشخيص مرض النبات وعلاجه؟ لأجاب: يجب معرفة قانون سلامة النبات وحركته والآفات المتعلقة به، ثم يجب اكتشاف العلاقة فيما بين ذلك ومن ثم يُهيىء العلاج والدواء المناسب، لأن العلم ليس إلا اكتشاف القانون، ومعرفة المجهولات. وهذا أيضاً يصدق على الإنسان فلو سئل طبيب: كيف يمكن معالجة كبد الإنسان؟ لأجاب: يجب أن نعرف الكبد أولاً والميكروبات ثم نفهم الرابطة والعلاقة بينهما وبعد ذلك نصف دواءً. فعالم النبات والبيطري والطبيب كلهم يقولون بهذا القانون.
فهناك شبه كبير بين آفات عالم الطبيعة وبين الأمراض الجسدية للإنسان وكلاهما يتبعان قانوناً كلياً.
ج- العلاقة التكوينية والتشريعية في النظام الطبيعي للعالم والنظام الأخلاقي للإنسان.
كذلك يوجد تنسيق كامل بين التكوين والتشريع والمقصود من التكوين: النظام الكلي للعالم، ومن التشريع: النظام السلوكي والأخلاقي للإنسان- أي أنه كما يوجد قابلية للسلامة والمرض في النظام الجسدي لبدن الإنسان والنظام الطبيعي للعالم كذلك يمكن مشاهدة هذا الأمر في النظام الأخلاقي. لهذا يمكن للنفس الإنسانية أن تكون عرضة للاختلال أو أن ترقى وتتكامل، وكما أن نمو النبات أو الإنسان هو دليل صحة وسلامة، كذلك الرشد الأخلاقي والسلوكي للشخص دليل على رشده المعنوي.
ونلاحظ أنه يوجد نوعن من التنسيق التكويني بين أخلاق الإنسان ورشد الطبيعة، فكما أنه يوجد ميكروبات وفيتامينات في الطبيعة، يوجد مثلها في روح الإنسان، فالرذائل والمنكرات ميكروبات الروح، والفضائل فيتاميناتها، وبين هذا التكوين وذاك التشريع ارتباط قريب. حتى أنه يُقال في بحث الولاية والإمامة أنه يجب تحليل بعدين في ازمام والولي: الأول الولاية التكوينية، والثاني: الولاية التشريعية، حيث أن للإمام ولاية على العالم التكويني وله ولاية على عالم الأخلاق والنظم والقوانين والشرائع، وسوف نتطرق فيما بعد إلى آثار الذنوب على النعم الطبيعية.
د- الشبه والارتباط بين النظام الجسمي والروحي للإنسان.
يوجد نوعان من المرض ونوعان من السلامة يمكن إدراكهما أثناء بيان الشبه والارتباط بين النظام الجسمي والروحي للإنسان، وهما يستخلصان من المتون الإسلامية والأحاديث.
يقول الإمام المجتبى عليه السلام: "عجبت لمن يتفكر في مأكوله كيف لا يتفكر في معقوله فيجنب بطنه ما يؤذيه ويودع صدره ما يرديه"1.
إذن يوجد نوعان من السلامة ونوعان من المرض، فتارة تعمى عين الرأس وتارة تعمى عين القلب، وقد أشار القرآن إلى هذين الأمرين: ﴿ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل...﴾2.
فالعلاقة الموجودة بين جسد الإنسان وروحه هي على نحو تؤثر السلامة والمرض كل واحدة في الأخرى، مثلاً: لو عملت غدة التيروئيد بطريقة غير منظمة يمكنها أن تصبح سبباً لإنطواء الإنسان، وقد لوحظ أن المرض الجسدي يؤثر على اضطراب روح الشخص. ويوجد أمراض "بسيكوسوماتيكحية psycosomatic داخلية ونفسية تؤثر تأثيراً كبيراً على الجسم.
والشبه والتنسيق في عوامل تأمين السلامة لمحيط العالم، الطبيعة، الجسم وأخلاق الإنسان.
لقد تبين لنا أن الطبيعة وجسم وروح الإنسان يمكن أن تكون مريضة ويمكن أن تكون سليمة أيضاً، لذلك هناك عوامل ينبغي توفرها للاستفادة منها في المحافظة على سلامة الطبيعة وكذلك على روح وبدن الإنسان من الأمراض أو في معالجة الأمراض إذا كانت موجودة. وتشكل هذه العوامل ككل مجموعة العالم الواحد والمنسق وسنشير إليها باختصار.
* عوامل تأمين السلامة
1- معرفة الظاهرة
فلمواجهة أي نوع من الاضطراب والمرض سواء في الطبيعة أو في جسم وروح الإنسان يجب معرفة الظاهرة. فعلى سبيل المثال إذا لم نعرف نبتة معينة لا يمكننا أبداً علاجها. وفي الأمراض الجسمية أيضاً إذا لم يكن الطبيب مطلعاً على العضو الذي يريد معالجته لا يمكنه بأي حال أن يعمل على إزالة المرض الموجود فيه، فالذي يريد أن يصبح طبيباً لا بد له أولاً أن يعرف فيزيولوجية الجسم ثم يتعرف على علم تشريح الأعضاء ومن ثم يدخل في المراحل الطبية التالية حتى يصبح طبيباً. وبدون الاطلاع على الموارد المذكورة وبدون طي المراحل الطبية المختلفة لا يمكنه أن يصبح طبيباً، أي لا بد له أن يكون عارفاً بالجسم أولاً وبعد ذلك يصبح عارفاً بالمرض. وهذه الطريقة نفسها تصدق في البعد الروحي للإنسان، فإننا لو أردنا أن نحلل الإنسان من الناحية الأخلاقية والروحية لا بد لنا من التعرف على جوانبه الروحية والنفسية المختلفة.
2- معرفة نوع المرض
في المرحلة الثانية لا بد لنا من معرفة نوع المرض: فلو كان الأمر يرتبط بوجع الرأس العادي لا بد للطبيب أن يشخص نوع المرض أولاً، حيث أنه قد تكون له أسباب مختلفة، ولهذا فإنه إذا لم يشخص نوع المرض لايمكنه معالجته. فعليه أن يكون عارفاً بالمريض في نفس الوقت الذي يكون فيه عارفاً بالمرض. وهذا الأمر ينطبق على النفس. فلا بد من معرفة السبب الذي يجعل الروح عاصية؟ لماذا أصبح هذا طاغية؟ ولماذا ذاك لا يهتم بدروسه؟ فمعرفة المرض في هذه الموارد ضرورية أيضاً.
معرفة العصيان، الركود، الانحراف الأخلاقي ووو... ومعرفة المرض، ومسألة البحث عن الجواب مسألة مهمة في تشخيص المرض.
3- الاعتقاد بكون المرض مضراً
فلا بد من الإيمان والاعتقاد بكون المرض مضراً بالإنسان إذ بدون هذا الاعتقاد لن تكون للإنسان همة وإرادة لمواجهته. وعلى سبيل المثال فالذي يبقي أسنانه ملوثة ولا يقوم بتنظيفها بالمسواك، لم يتكون لديه اعتقاد بأن ميكروب الأسنان يؤثر سلباً على معدته وسلامته، ولأنه لا يؤمن بهذا الأمر فإنه لا يدرك أهمية المسألة ولهذا فهو لا يحمل نفسه عبء تنظيف أسنانه بالمسواك، ومهما نُصح فلن تؤثر فيه النصيحة. ولكن نفس المريض لو صدَّق بنحو ما أن المرض مضر بحاله فسوف يقدم على ما يحصنه منه. وهذا أمر يتكرر كثيراً حيث يسعى الطبيب لإقناع مريضه بأن هذا الطعام مضر بحاله ولكنه ولا يصغي له. أما لو فرض عليه الطبيب الذي يثق به ريجيماً أقسى فسيعمل به لأنه يؤمن بكلامه. ومثل هذا الاعتقاد لازم في المسائل الأخلاقية أيضاً.
4- معرفة أسلوب المواجهة
فيجب معرفة طرق وأساليب المواجهة والتصرف، وإلاَّ مساعينا لن تثمر. فلو علم الشخص أن في النبتة سوساً وعلم أن هذا المرض مضر بها، ولكنه لم يعرف كيفية علاجه، فمن الممكن أن لا يتمكن من القضاء عليه بل وحتى يمكن أن يزيد من خطورته نتيجة لجهله، لهذا يجب تعلم أساليب وطرق مواجهة الآفات والأمراض.
لكل أمر أسلوب وطريقة مختلفة، ومسألة "ميثودولوجي" (الأساليب والقوانين) أمر لا يمكن لأي علم أن يتطور ويرتقي من دونه، كما يجب علينا أن نهتم بمعرفة النفس كأمر ضروري في المسائل التربوية.
5- الوقاية من التعرض للمرض
أحياناً يلزم للوقاية من المرض الاستفادة من أساليب الوقاية لتجنب إصابة النبات أو الإنسان به، ولهذا يستعمل اليوم مصطلح الوقاية في عالم الطب، والتطعيم مثلاً أحد أساليب الوقاية من الأمراض. أما إذا دخل ميكروب أو مرض إلى النبتة أو إلى بدن الإنسان، فيجب المباشرة بعلاجه فوراً، ومن هنا كان تعلم أساليب المعالجة واجباً أيضاً. ولمواجهة الأمراض الجسمية بل والأخلاقية أيضاً لا بد من الاستفادة من أسلوبين: الوقاية والعلاج. ونحن نعلم أنه لا يمكن قياس تأثير الوقاية مع العلاج. ولا بد من الاستفادة من الوقاية ما أمكن: "درهم وقاية خير من قنطار علاج".
الآن وقد تحدثنا باختصار عن العوامل المختلفة للسلامة، لا بد لنا من أن نعلم أنه لتعلم أو استعمال العوامل المذكورة لا بد لنا من استخدام رأسمال، وأن لا نوفر سعياً وجهداً في هذا المجال.
والعوامل التي ذكرت موجودة في الطبيعة، والتحاليل وأقوال المختصين في هذا المجال كعلماء النبات، والبياطرة... تؤكد هذا الأمر.
أما المسألة المهمة التي تشكل أساس بحثنا، فهي أن لهذه العوامل الكلام الأول في المسائل الأخلاقية. مثلاً: في مورد النصيحة والتربية لا بد من التعرف أولاً على ظاهرة اسمها الإنسان وهو أمر طبيعي ومعقول، لأن الذي يريد أن يعمل على شيء، لا يمكنه الانطلاق إلى أمر مجهول دون معرفته لأنه بذلك لا يمكنه الوصول إلى نتيجة، ولهذا يجب لمن أراد العناية بالنبات أن يكون عارفاً بها، ولمن أراد العناية بالحيوان أن يكون عارفاً به ولا بد لمربي الإنسان أن يكون عارفاً به أيضاً.
في المرحلة التالية لا بد من التعرف إلى أنواع الأمراض الأخلاقية لأنه كثيراً ما ينطلق الإنسان لمعالجة أمر يخاله مرضاً ثم يكتشف عدم كونه كذلك وبالعكس فقد يتصور البعض أن الظاهرة الفلانية طبيعية ولكنها تكون مرضية ومن ثم لا بد من الاعتقاد بأن الأمراض الأخلاقية مضرة بالفرد والمجتمع. لأنه إذا لم يحصل هذا الاعتقاد في الشخص فلن يتحرك لعلاجها. ومن الطبيعي أن المعرفة الأدق بالإنسان لها ثمارها وهي الاعتقاد الأكبر بعلاج هذه الأمراض. وفي المراحل التالية لا بد من التعرف على أساليب المواجهة وطرق الوقاية والعلاج حتى نتمكن من خلال ذلك من إزالة الأمراض الأخلاقية في المجتمع، ومعالجتها إن كانت موجودة. والملاحظ أن كل القواعد التي استعملت في مواجهة الحوادث والآفات الطبيعية، لها وجود بنحو ما في مورد التربية.
* رأي الإسلام في عوامل تأمين سلامة روح ونفس وأخلاق الإنسان
نبدأ الآن بتحليل رأي الإسلام حول كل واحدة من هذه العوامل ونبين الآيات والأحاديث التي تتحدث عن هذه المسألة. حول العامل الأول، في معرفة الظاهرة تطرح مسألة معرفة النفس. يوجد أحاديث كثيرة تتحدث عن ضرورة معرفة النفس ومن جملتها ما ورد عن مولى الموحدين علي عليه السلام وله في هذا المجال أحاديث كثيرة. يقول في إحداها: "من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة وخبط في الضلال والجهالات"3.
ويقول عليه السلام في حديث آخر: "عجبت لمن ينشد ضالته وقد أضل نفسه فلا يطلبها"4.
وحول العامل الثاني يعني معرفة المرض يمكن القول كل الأنبياء بعثوا ليحللوا الطيبات ويحرموا الخبائث: ﴿يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث﴾5 وبعبارة ثانية كي يعرفوا الفضائل التي هي الطيبات فيحللوها، وكي يعرفوا الخبائث التي هي الرذائل فيحرموها.
وكما يطرح غالباً فالكتب الأخلاقية والمتون الإسلامية مليئة بالمطالب التي تُعَّرِف الفضائل والرذائل. مثلاً، الصدق من الفضائل والكذب من الرذائل، والحسد نوع من المرض، ولكن الغبطة حسنة. أحدها ميكروب والآخر فيتامين أخلاقي.
العامل الثالث للسلامة: السعي لإقناع الإنسان بضرر الرذائل وحسن الفضائل. يقول القرآن والأحاديث في هذا الشأن، الفضائل تقرب الإنسان من الله والرذائل على عكس ذلك إذ هي تسبب غضب الله.
وفي هذا المورد يقول القرآن الكريم: ﴿من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبةً﴾6.
وهكذا وضح الله للإنسان منافع الأعمال الحسنة وضرر الأعمال السيئة.
أما حول العامل الرابع أي أسلوب المواجهة، فيقول القرآن الكريم: ﴿ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البرم ن اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون﴾7.
وقد استخلص الأكابر من هذه الآية أن لكل عمل طريقاً، فلا بد من معرفة الطريق أولاً ومن ثم يقدم المرء على العمل فبدون معرفة الطريق لا يمكن إنجاز أي عمل، وهذا ما هو واضح في العرف أيضاً.
يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح"8.
صحيح أن نية هذا الشخص كانت حسنة ولكنه لعدم معرفته بالأسلوب فقد كان ضرر فعله أكثر من نفعه.
وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق عليه السلام: "العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا تزيده كثرة السير إلا بعداً"9.
ويقول أمير المؤمنين عليه السلام في إحدى نصائحه لكميل: "يا كميل ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة"10.
ومن هنا يتبين لنا أن الإسلام قد استند كثيراً على أسلوب المعرفة. ولهذا لا بد من المعرفة أولاً ومن ثم يلجأ الإنسان بعدها إلى العمل.
وقد وردت آيات أربع في القرآن الكريم تحدثت عن التعليم والتزكية وكانت التزكية متقدمة على التعليم في ثلاث منها والتعليم على التزكية في واحدة:11
﴿ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم﴾12.
وقد قيل حول هذا المطلب: صحيح أن التزكية ضرورية قبل التعليم ولكن كيف يمكن للإنسان أن يزكي نفسه دون أن يعلم، فبدون العلم ثلا يستطيع عمل شيء. لهذا لا بد من معرفة الطريق ومن ثم الابتداء بالتزكية. وقد بُني السير الطبيعي للتربية في الآية التي ورد فيها التعليم قبل التزكية. فيجب أن يأتي أنبياء يعلمون الناس متى يوفقوا للتزكية. أما الآيات التي جاءت التزكية قبل التعليم فقد بيّنَّا هدف التربية.
أما بالنسبة للعوامل الأخرى كالوقاية والعلاج فيمكننا القول أنه واضحٌ في سعي المتون الإسلامية والمباحث الأخلاقية لإبعاد الإنسان عن الرذائل والأمراض، فإذا لم يبتعد الإنسان عنها يجب معالجته. ولهذا يوجد أوامر وأحكام كثيرة ترتبط بعلاج الأمراض الأخلاقية.
وتتضح من خلال التحاليل والأبحاث التي تمت الأسباب والعوامل الموجودة في الطبيعة سواء في جسم الإنسان أو في روحه وأخلاقه.
لهذا لا يمكن الإقدام على تربية الجيل دون العمل على هذه المسائل. خاصة أننا إذا لم يكن لدينا معرفة بالأساليب والقوانين فلن نوفق لإصلاح المجتمع، نعم يمكن التأثير بنسبة قليلة من خلال الضغط، ولكنه لا يحل مشكلة المجتمع جذرياً بهذه الطريقة. ونحن لا نقصد بكلامنا أن لا يُقام أيُّ عمل لأنه يوجد في الإسلام الجدل والتعزير والحد إضافة إلى النصيحة، ولكن يجب الاهتمام أكثر بمعرفة الأسس. ذكر لي أحد الأصدقاء قصة ترتبط بتأثير الضغط وردة الفعل، يقول: لديّ ابن لا يستيقظ لصلاة الصبح، ولكوني لا أعرف أسلوب دعوته وردعه هددته ذات يوم بشدة أن أعاقبه إذا لم يقم لصلاة الصبح. صباح اليوم التالي أحسسته بدأ بصلاته قبلي في غرفته. فشكرت الله أني قد استطعت إجباره على أداء صلاة الصبح. ولكن عندما ذهبت إلى غرفته وجدته نائماً يذكر أذكار الصلاة بصوت عالٍ.
يمكننا أن نفهم من هذه القضية أنه يجب القيام بالأسلوب الصحيح حتى يصل المرء إلى النتيجة المطلوبة.
على كل حال يجب مطالعة وتحليل العوامل التي ذكرناها بالترتيب بصورة أكبر وخصوصاً في مورد معرفة الظاهرة التي هي معرفة الإنسان ولهذا يمكن الرجوع إلى الآيات الأول من سورة البقرة من الآية العاشرة إلى الآيات التي تليها أي من قوله تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة...﴾ ومراجعة التفسيرات الواردة حولها حتى يعرف الراغب مقام الإنسان في الخلقة، فندرك ذلك الموقع. فالرساميل التي يملكها الإنسان محروم منها حتى الملَكَ. وإذا جرى التدقيق في كلمة "كلها" في آية ﴿وعلم آدم الأسماء كلها﴾. نجد أن الملائكة يقولون لله لا يمكننا اجتياز امتحان معرفة أكثر مما علمتنا، ولكن الإنسان علمها وأدركها كلها. تعليم الأسماء ليس إلا الاستعداد ورأس المال الذي يمكِّن الإنسان أن يصبح إلهياً. ثم في آيات ﴿ونفخت فيه من روحي﴾ حيث يقول خلقت الإنسان ونفخت فيه من روحي، فما هو المقصود؟ يقولون المقصود أن الله منح الإنسان قدرة ليكون مثل الله، وأن الإنسان يستطيع أن يصبح إلهياً بالقوة.
وقد ورد بصراحة في الأحاديث القدسية أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى مرتبة يستطيع معها التصرف بالطبيعة والخلق. يخاطب الله الإنسان في حديث قدسي ويقول له: أطعني تصل إلى مرتبة "أن تقول لشيء كن فيكون" ويقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملها وأشفقن منها وحملها الإنسان...﴾13.
ويقول تعالى في آية أخرى: ﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً...﴾14.
ويتابع فيقول: ﴿ثم أنشأناه خلقاً آخر...﴾15.
يقول الفيلسوف الإسلامي في حق هذه الجملة العظيمة: هو خلق غير خلق الجسم، والمراد منه هو رأس المال الذي وضعه الله في الإنسان لجهة كونه أبدياً وإلا فإن جسمه يفنى. ومن هنا يجب التحقيق أكثر في هذه الآيات، حتى يتمكن الإنسان من تجسيد المقام الشامخ للفرد الذي يريد التصرف معه. مع أننا لم نستطع إلى الآن إدراك مقام الإنسان ولم نلتفت إلى ما نحن عليه في هذا العالم وما يمكننا أن نكون.
بناءً عليه يجب على الذين يريدون تحمل أعباء هذه الرسالة الاهتمام بمسألة معرفة الإنسان ومعرفة البُعد الإلهي له. ولكن وإضافة إلى هذا من الضروري معرفة أمر آخر هو معرفة نفس الإنسان فمثلاً: يجب معرفة سبب كذب الإنسان، دافعه للغيبة، للحسد، للعصبية بسرعة، لماذا لا يحترم الصغير الكبير؟ ولماذا يسيء الكبير الظن بالصغير؟ لماذا يجنح الطفل؟ ولماذا تخالف البنت أمها؟ ما هي أمراضنا وعقدنا النفسية؟ كيف يجب أن يكون أسلوب معاملة الوالدين لابنهما؟ والكثير من الأسئلة الأخرى.
الأمر الآخر الذي لا بد من ذكره هو أن علماء الأمراض يختلفون في ما بينهم، فالأطباء الذين يستطيعون معرفة المرض ومعرفة المريض أيضاً يوفقون في العلاج، ولكن الأطباء الذين يعرفون المرض فقط ولا يعرفون المريض، لا يوفقون كثيراً في علاج المرض. فلو تصورنا أربعة مرضى يعانون من آلام في المعدة، فيراجعون الطبيب، بعد إجراء الفحوصات الضرورية ويتبين أن مرضهم متشابه، ولديهم جميعاً ورم في المعدة مثلاً، فيعطيهم الطبيب دواءً واحداً، ولكن بعد مدة يشفى واحد منهم ولا يؤثر الدواء في البقية. عند تحليل هذا الأمر يظهر أن سبب ذلك هو عدم معرفة المريض من قبل الطبيب. فقد شخص الطبيب المرض ولم يعرف المريض. فالذي شفي منهم كان سبب ألمه عضوياً، فشفي بالدواء. أما سبب أمراض الآخرين لم يكن عضوياً، بل كان نفسياً، فكان سبب مرض الأول خلافات عائلية حادة. وسبب الثاني عدم ملاءمة محيط عمله له والثالث سببه عائد إلى الفقر الاقتصادي. لهذا لم يشفوا بتناول الدواء، ولذلك لا بد من إزالة الأسباب حتى يحصل الشفاء. ويقال لهذا النوع من الأمراض التي لها سبب نفسي "بسيكوماتيك". فلا بد للطبيب في هذا المجال أن يعرف أمثال هذه المسائل حتى يوفق في العلاج.
وهذا الأمر يجري أيضاً في الأمراض الأخلاقية. فعندما نشاهد ثلاثة نساء على الطريق من دون حجاب أو ذوات حجاب سيء فإن مرضهن واضح حيث يرتبط بعدم الحجاب أو سوئه، ولكن هل يمكن أن يكون أسلوب تصرفنا معهن واحداً؟ كلا، لأنه يمكن أن تكون إحداهن قد فعلت ذلك عصياناً لوالديها نتيجة لأسلوبهما السيئ معها، وأن تكون الثانية تريد من ذلك معارضة النظام السياسي، وأن تكون الثالثة واقعة تحت عقدة الإحسان بالحقارة فتريد إظهار نفسها كبطلة بهذا الأسلوب، ولهذا أصبحت شخصيتها منحرفة، بناءً على هذا يجب أن يكون أسلوب التصرف مع كل واحدة منهن مختلفاً.
إذن معرفة الإنسان ضرورية في بُعديه. ولهذا السبب يجب على الذين يريدون أن يصبحوا مبلغين في المجتمع (وخصوصاً العلماء وأصحاب المنابر الذين لهم دور كبير في إرشاد المجتمع) أن يعملوا كثيراً على هذين البعدين، وأن يحققوا خاصة، في المسائل التي ترتبط بالنفس الإنسانية حتى يكون باستطاعتهم التصرف بشكل سليم مع الناس. لأن القرآن الكريم يقول للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
﴿أُدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾16.
فالدعوة لها ثلاث طرق: دعوة فئة من خلال التعقل والمباحث العقلية وبعبارة أخرى، قال الله تعالى: بالحكمة، ودعوة فئة أخرى عبر النصيحة والوعظ والإرشاد، ودعوة ثالثة من خلال الجدل وليس كل جدل، بل من خلال الجدل الحسن.
فلو تعاملنا بالقوة والجبر مع شخص ينبغي وعظه بالحكمة والعقل، أو قابلنا الذي يجب نصحه بأبحاث استدلالية أو جدل، فلن نصل إلى الهدف المنشود. فالآية تشير إلى وجوب كون المبلغ والمربي عارفاً بالنفس وعارفاً بالمرض. ولهذا يجب تحليل الإنسان في بُعدين. لأنه لا يمكن إرشاد المجتمع بشكل كلي أو مع الجهل وعدم الاطلاع على هذه الأبعاد الإنسانية.
1 سفينة البحار باب الطعام ص84.
2 سورة الأعراف، الآية 179.
3 غرر الحكم ج5 ـ ص426، الحديث رقم 9034.
4 غرر الحكم ج4، ص340، حديث رقم 6266.
5 سورة الأعراف، الآية: 157.
6 سورة النحل، الآية: 97.
7 سورة البقرة، الآية: 189.
8 تحف العقول ص 47.
9 تحف العقول ص47.
10 أصول الكافي ج1، ص54.
11 سورة البقرة، الآية: 151 ـ سورة آل عمران، الآية: 164 ؛ سورة الجمعة، الآية: 2، سورة البقرة 129.
12 سورة البقرة، الآية: 129.
13 سورة الأحزاب، الآية: 72.
14 و15 سورة المؤمنون، الآيات: 12 إلى 14.
16 سورة النحل، الآية: 125.