هناء نور الدين
لقد كرّم القرآن الأم وبوَّأها مكانة عظيمة في الكثير من آياته وهذا التكريم والتبجيل والتعظيم نابع من الدور العظيم والأساسي الذي أولاه اللَّه للأم، لأنها هي المسؤولة عن مستقبل الأمة وصلاحها، من خلال التربية والتنشئة التي تغرسها في نفوس أطفالها... انطلاقاً من هذه القدسية التي تتمتع بها الأم، كيف تحدَّث عنها القرآن الكريم؟ وما هي وظيفتها التربوية؟ كيف يجب أن تربي أبنائها؟ وأين أمهات اليوم من أدوارهنَّ المفروضة عليهن؟
* الأم في الإسلام
لقد اهتم الإسلام بالأسرة، وشيَّد بنيانها، وأسس لها نظاماً خاصاً منذ اللحظات الأولى من انطلاق الحياة الزوجية واعتبر غريزة الإنسان لإنشاء أسرة وتأسيس عائلة من الغرائز الذاتية التي منحها اللَّه للإنسان قال تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ (الروم: 21) والمودة والرحمة بين الزوجين يتفرع عنها الأنس، والاستقرار، والسكون، والحب، والرضا، وروح التعاون والصدق وغيرها الكثير من القيم التي يجب أن تسود في البيت الزوجي لتنعكس على جميع أفراد العائلة فيجسد بذلك الزوجان القدوة الحسنة عملاً ومسلكاً وكلمة طيبة تتفاعل في جميع جنبات الحياة... وخصوصاً الأم التي هي مصدر العطاء ومنهل العاطفة والحضن الدافئ الذي منه يعرج الرجال والأجيال إلى دنيا العمل والجهاد والإصلاح. لقد تحدث الإسلام عن الأم، وخصَّها بالذكر في القرآن الكريم وأعطى نماذج أمهات الأنبياء عليهم السلام ليكن النهج والمسار الصحيح في تربية الأبناء. ذكر القرآن الكريم أمَّ النبي موسى عليه السلام ولم يذكر أباه، وأبان فضلها وجليل عملها في صون هذا الرسول العظيم والاهتمام به... كذلك ذكر القرآن أم النبي عيسى عليه السلام التي جسدت رمز الصلاح والطهر والعفاف وأشاد بها... لقد اصطفاها اللَّه تعالى وضربها مثلاً للذين آمنوا رجالاً ونساءً: مريم عليها السلام التي امتلأت روحها بكلمة اللَّه، ونبض قلبها بالإيمان، فارتفعت بإيمانها إلى أعلى مستوى في الطاعة لتكون رمزاً للعفة والفضيلة والطهارة وكانت من القانتات العابدات وكانت البشرى لها ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ (آل عمران: 42).
واستمرت مريم عليها السلام في عبادتها وتبتلها حتى حملت إليها الملائكة بشارة أخرى وهي في محراب عبادتها ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ (آل عمران: 45). كذلك تحدثنا كتب السيرة عن أم النبي محمد صلى الله عليه وآله... إذ أعطته حنان الأمومة الصافي والعطف والحب حتى توفيت وتركت في رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أثراً بليغاً... وسلوكاً رائعاً... هؤلاء الرسل تربوا في أحضان نسوة كان لهن دور عظيم في تنشئتهم وتعليمهم ورفدهم بالعلم والصلاح والتقوى والصدق والاستقامة، وتعويدهم على القيم والمبادئ الإنسانية السامية التي لا تستقيم الحياة الإنسانية إلا بها، لأن الأم تمثل دوراً جليلاً وكبيراً في بناء الحياة وصون الرسالات، فهي المدرسة الأولى في بناء شخصية الطفل، منها يأخذ علومه ومبادئه وهي التي توجهه نحو الفضائل والقيم والطموح والعمل والاعتماد على الذات وترفده بالمعنويات العالية والثقة بالنفس، وهذه كلها عناوين تحتاج إلى تربية وإعداد ونظام كي يتعود الإنسان عليها. هذا طبعاً، إذا كانت الأم مؤمنة، رسالية، تحمل أهدافاً في حياتها وبالمقابل هناك واجبات من الأبناء اتجاه الأم يقول تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ (لقمان: 14) ويذكر في آية ثانية: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأحقاف: 15). تصف لنا الآيتان المذكورتان المشقات التي تتحملها الأم. والمحطات التي تقطعها من الحمل إلى الولادة فالرضاعة والفطام وكلما ازدادت مشقة الأم كلما ازداد ثوابها، كما أننا نلمح في طيات الآيتين المباركتين الوظيفة التربوية ومسؤوليات الأم اتجاه طفلها لتكون النتيجة إنساناً صالحاً، يشكر نعمة ربه ويدعو اللَّه تعالى لإصلاح ذريته نتيجة التربية التي تلقاها والقيم التي غرست في عقله.
* واجبات الأم تجاه أبنائها
تبدأ علاقة الأم بأبنائها منذ استقرار الجنين في رحم أمه يتغذى من غذائها ويتأثر بتصرفاتها وسلوكها حتى أن أفكارها وخواطرها ربما تؤثر عليه سلباً أو إيجاباً... كذلك طهارتها الروحية وإيمانها كلها عوامل ترسم طريقه في الحياة لذلك على الأم أن تراقب نفسها وتجاهدها أثناء فترة الحمل كي تتحول هذه القيم إلى ملكة في نفسها تؤثر في أطفالها... وبعد انقضاء السنين الأولى من حياة الطفل تكبر واجبات الأم وتزداد، فمن أولى الواجبات الملقاة على عاتق الأم تجاه أولادها في هذه الفترة:
1 - تعويدهم على السلوك الحسن والطيب، وإعطائهم حوافز النجاح.
2 - زرع القيم والآداب الإسلامية والإنسانية والاجتماعية في نفوسهم عن طريق ممارستها عملياً أمامهم... كالصدق، وكلام المعروف، وصفات الكرم والشجاعة والنبل وغيرها من المعاني التي تحتاج إلى ممارسات عملية، كي تربي فيهم روح القيادة والمسؤولية وخدمة المجتمع.
3 - معاملة أبنائها بالتساوي وعدم تمييز بعضهم عن بعض لأن ذلك من شأنه أن يخلق روح العداوة والبغضاء بين الأبناء وقد ورد في الحديث القدسي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "اعدلوا بين أولادكم، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف"(1).
4 - أن تبين أهمية الأخ لأخيه وتحبب الأخوة بعضهم ببعض، وهذه قيم عظيمة وراقية ربما بدأت تفقدها مجتمعاتنا تدريجياً فمثلاً تذكر لهم بعض الأحاديث الواردة عن أئمتنا عليهم السلام، تسردها على مسامعهم منذ الصغر... عن الإمام علي عليه السلام: "الإخوان زينة في الرخاء وعدة في البلاء" "الإخوان جلاء الهموم والأحزان" وإلى غيرها الكثير مع تفسيرها بأسلوب قصصي يحبه الأطفال.
5 - تعليم أولادها المسائل العبادية التي تتصل بعبادة الإنسان وعلاقته مع اللَّه تعالى كذلك الأمور الفقهية وإذا لم تقدر على ذلك فلتراجع أهل الاختصاص لأننا نلاحظ غياباً شبه تام لدور الأم في تعليمها لأولادها ما يتصل بأمور دينهم وعقيدتهم إلا ما ندر.
6 - اعتماد أسلوب الحوار والنقاش لما فيه الصلاح والإصلاح من أمور الدين والدنيا لأن هذا الأسلوب من شأنه أن يقوي شخصية أبنائها فيندفعون إلى التفكير والبحث والاعتماد على النفس وخلق روح التحدي الإيجابي.
7 - مراقبة أبنائها ومنعهم من صحبة رفاق السوء الذين يسيئون إلى روحيتهم...
8 - أن تتفهم حاجات أبنائها فتعاملهم بالرفق واللين والمحبة والإحترام وتعطيهم الدفء والحنان، وأن تبتعد قدر الإمكان عن خلق أجواء توتر، وشجار، ونزاعات داخل البيت الزوجي لأن هذا من شأنه أن يثير أجواءاً مسمومة وحالة خوف وعدم استقرار لدى الأبناء ربما يلجأون على أثرها إلى الشارع فيتعلمون أشياء لا تحمد عقباها.
9 - تربية الأبناء على الروحانيات التي تعمق في قلوب الأبناء الدوافع الدينية ونقصد بها حب اللَّه تعالى، والتقوى، والرجاء، والخوف من ارتكاب المعاصي.
أين نحن اليوم من الأم القرآنية
للأسف نقول، لقد غابت التربية القرآنية أو تكاد عن مسرح حياتنا... ونرى ذلك واضحاً في عاداتنا وتقاليدنا اللهم إلا من فئة قليلة واعية نذرت نفسها لخدمة اللَّه وعياله لقد غابت تلك القيم التي نادى بها نبيُّ الإسلام وبتنا نعاني من الفساد بشتى أشكاله وأنواعه، الفساد الإداري، الفساد السياسي، الفساد التربوي، الفساد الاجتماعي... لقد فسدت عقول الشابات والشباب وجبلت القلوب على حبِّ الدنيا واتباع شهواتها... وسادت روح المصلحة والأنانية... لقد غاب الأب عن الأسرة... وافتقد البيت الأم مصدر العاطفة والحنان. وبات الأطفال حيارى أمام أجهزة التلفزة وشبكات الأنترنت ووسائل الإعلام المختلفة ماذا يختارون؟ وأيُّ صور ينتقون؟ وماذا يلبسون؟ وماذا يخبئ الغد لهم وأيُّ غد هذا الذي يحمل في طياته الحزن والخوف من المجهول؟ ونحن أمة القرآن الذي ربّانا، وعلمنا، وذكرنا في الكثير من آياته، لكن البعض منا أصيب بالوهن وضعف الإرادة... أيتها الأم... لطفاً بهذا الجيل... أعيدي القراءة في تربيتك، واحضني عائلتك... ارجعي إلى مصادر الثقافة لتري مواطن الجمال في هذه الثقافة كيف ينمو ويزكو بالتربية والعمل... فما أحوجنا إلى تربية قرآنية وإلى أم قرآنية تكون الجنّة تحت قدميها المباركتين.
(1) بحار الأنوار، ج104، ص93.