مع الإمام الخامنئي | كلّنا مَدينون للنبيّ الأعظم* نور روح الله| هكذا كانت حياة الرسول* مع إمام زماننا | حين تزفّ السماء نبأ الظهور (2): في مكّة السيّد محسن شهيداً على طريق القدس مقاومتُنا بعينِ الله صُنعت حاجّ محسن! إلى اللقاء عند كلّ انتصار* أبو طالب: قائدٌ في الميدان والأخلاق المقاومة الإسلاميّة: ثقافتنا عين قوّتنا الشهيد على طريق القدس بلال عبد الله أيّوب تسابيح جراح | جراحاتي لا تثنيني عن العمل

غاب أبناؤها.. فأصبحت أمّاً للوطن

تحقيق: زينب صالح


فوق جبين انتظارها ترسم ابتسامة رغم الدموع. وبين تجاعيد وجهها حكايات لأحباب قد لا يعودون.
هي معهم، تحرسهم بآيات الصّبر عند الفجر، تمدّهم بدعوات تخترق سبع سماوات لتهز عرش الباري
"ربي أعد لي أولادي سالمين".
وفي عيدها، قد يأتي ولدها لينثر الفرح فوق تربة أيّامها... قد يأتي حياً، وقد يعود شهيداً تكفّنه بقلبها، وقد لا يخترق العيد غيابه، فتحمل بمفردها وردتها، وتقبّل صورة ولدها المجاهد الذي لا تعرف أيّ أرض تحمله، لتكون بحقّ "أجمل الأمّهات".
هنّ أمّهات المجاهدين. يعرفن باليوم والساعة متى غاب آخر مرة حبيب القلب، لكنهنّ لا يعرفن في كل الأحيان متى يعود. يمضين العمر في الانتظار والدعاء دون أن يسدل الحبّ للولد ستار التذمر من القضيّة. إنّه الجهاد، إنّها المقاومة.
يقفن بثبات عند البوابة حيث يغيب، يخفين منديل الدموع، يلبسن ابتسامات الرّضا، يقلن بصوت هادئ رزين "في أمان الله يا ولدي". ثم يدخلن إلى البيت الخالي ليبدأن بعدّ الأيام. ويأتي عيد الأم، وفي كثير من الأحيان لا يأتي الابن المجاهد، فماذا تقول الأمهات؟!


* أمّ المجاهد والشهيد.. عنوان التّضحية
طيلة السّنوات الماضية، كانت تنتظر "أم محمد" عيد الأم بفارغ الصبر لما يحمله من خصوصيّة بسبب اجتماع العائلة. فهي تراه رمزاً لتقدير ذاتها في قلب أولادها. تتساءل بغبطة وسرور ماذا سيحضرون لها؟ رغم أنّها لا تطلب منهم شيئاً، بل تقول لهم: "لا أريد إلاّ سلامتكم يا أبنائي".
لكنّ ولدها البكر محمداً، ذا الوجه المشرق وصاحب دلال أمّه وعنايتها الخاصة، كان السبّاق نحو شراء ما تحتاجه من مصروفه الخاص ليفاجئها به، ويغمرها بابتسامة تعادل في قلبها الحياة، قبل أن يمسي في تموز 2006 شهيداً، مصطحباً معه في روضته فرح الأم وأعيادها.
وقرّر إخوته الالتحاق بالدرب الذي أوصل أخاهم نحو الشهادة، دون أن تعارض "أجمل الأمهات" ذلك الخيار، "لأنّ هذا درب الحق الذي يوصل نحو النور. رغم قلبي المفجوع بولدي إلا أني أشجع أبنائي على المقاومة حتى لو اضطررت إلى تمضية عيدي بمفردي". ثم تضيف: "الموت في ساحة القتال ضد العدو هو أفضل الأقدار".

* كان أجمل زهرة في عمري
تتكلم عن عيد الأم بابتسامة قوية لا تفارق دمعة الفؤاد، "يصادف أحياناً غياب أحدهم في عيد الأم، وهو العيد الذي نجتمع فيه جميعنا لنأكل الحلوى ويقدّموا إليّ الهدايا". تضيف: "غياب إخوة الشهيد حسرة على قلبي، لكنّي أقوى عليها بابتسامة واسعة، وأشعر بعظمة ما نقوم به. نحن أمّهات أهدين الوطن أكبادهنّ، فمن الطبيعي أن لا ننتظر هدية العيد. أتذكّر في هذا اليوم أم الشّهيد عماد مغنية التي قدمت أولادها الثلاثة هديّةً للوطن. أتساءل دائماً كيف يمر عليها العيد، وكم تجاهد من آلام الفراق واللّوعة، لكني أستحضر أمهات كربلاء، وأقول إنّ صوت السيدة زينب الحي في قلوبنا، إضافة إلى ذكرى عاشوراء، يحمي عقيدة التّضحية والصّبر. فأحمد الله على هذه النّعم، وأنه نظر إليّ وأخذ مني أجمل زهرة في عمري، وقد يصحب أبنائي إليه في أي لحظة وهم يجاهدون أو يرابطون".
"لكنّ غياب المجاهد يختلف عن غياب الشهيد"، تقول "أم محمد": "أم الشّهيد تعرف أنّه لن يعود، وأنّه في جوار الله، لكنّ أمّ المجاهد لا تعرف كيف يمضي أيامه، هل هو بخير؟ ماذا يأكل؟ وهل ما زال حياً؟ أم أنك ستسمع بعد قليل خبر شهادته، لكني أسلّمهم إلى الله وأتّكل عليه في تيسير أمورهم. أحاول جاهدةً أن لا أفكّر في ظروفهم هناك، في ساحة المرابطة، وفور ما يحضُرون أركُضُ لاستقبالهم وعناقهم".

* هديّة الابن الوحيد، بندقيّة وجعبة جهاد
لم تمرّ سنوات طويلة على دخول "ساجد"، ميدان الجهاد. هكذا أصبح قلب الأم يرفرف فوقه أينما حلّ عساه يحميه من الأخطار التي تحيط به. وفي عيدها، ترسل له قلبها هدية لأنّه ولدها الوحيد وكلّ أملها في الحياة.
"كان ساجد يبدأ بالتحضير لعيد الأم قبل أسابيع، أراه يتهامس مع أخواته، يسألهنّ عمّ أحتاج، ويحضّر قالب الحلوى ويزيّن البيت. لكنّه بعدما التحق بصفوف المقاومة والجهاد صار يغيب أحياناً في عيد الأم، فتكويني دمعة غيابه، لكنّي أتظاهر بالفرح أمام أخواته."
تتكلّم أمه قائلة: "كلّما غاب، أفكر فيه دائماً، أعدّ الأيام، أدعو له في كل لحظة، وفور ما يعود أسارع إلى إعداد الطّعام الذي يحبّه، وأعتني به كأنّه طفل صغير". ثم تقول: "يستغرب الكثيرون كيف أرضى بانضمام ولدي الوحيد إلى صفوف المقاومة. وكيف يكون ذلك مستغرباً ونحن قد تعلّمنا من ليلى أم علي الأكبر كيف يضحّي المرء بأعزّ ما يملك! هنّ أمّهات كربلاء قدوتنا في كل زمان ومكان، ولو غاب الولد في عيد الأم، فذلك من أجل أن يصنع أعياد الوطن".

* أم الخمسة أبطال.. كل المجاهدين أبنائي
في بيتها، نادراً ما تعرف العتبة قدوم العيد. فأبناؤها الخمسة موزّعون في دروب الجهاد، ولا يجتمعون إلا نادراً، وحينها يحلّ عندها فرح الأعياد جميعها.
لـ"أم مهدي" قصة طويلة تستذكرها في ربوع عيد الأم الذي لا تشعر كثيراً ببهجته. فالمرأة أفنت عمرها في تربية أولادها التّسعة، ليذهبوا واحداً واحداً نحو ساحة قد لا تُعيدُهم سالمين. "كان والدهم (رحمه الله) أستاذ مدرسة، لكنّ راتبه لم يسدّ يوماً حاجاتنا، فكنّا نزرع التّبغ. نستيقظ قبل الفجر، نذهب إلى الحقل، يذهب معي أبنائي الذين تحمّلوا المسؤولية باكراً". تتحدث عنهم قرب صور مختلفة لهم، بدمعة خفية يخفيها جبروت يهزّ العالم بصمت الابتسامة: "انضموا إلى صفوف المقاومة منذ أن أصبحوا شباناً. غاب ولدي البكر ليلحقه عاماً بعد عام إخوته. لم أكن أعرف عنهم شيئاً، وكان قلبي يفرض مئات الأسئلة، لكنّي كنت أبتلعها جميعها لأنّي أؤمن بقضيّتنا التي ذهبوا من أجلها، وأعرف بأنّ سريّة العمل توجب عليّ لزوم الصمت. فأناجي ربّي وأسأله أن يحميهم ويحمي كلّ الشباب الذين يرابطون معهم. لم أدعُ يوماً لهم وحدهم دون إخوانهم، فكلهم أبنائي".

* أدعو لهم بالتوفيق والمدد
"في غيابهم كنت أتابع عملي في الحقل، وأصبر على مرارة العيش دون أن أشعرهم عند عودتهم بالتعب، ودون أن أشكو إليهم أو أطلب منهم ما لا يستطيعون تقديمه لنا بسبب التزامهم بخط الجهاد". وتضيف: "أحياناً كان يأتي أحدهم يوماً أو يومين في الأسبوع، فيساعدنا في الزراعة. أتعاطف معهم، وأدعو لهم بالتوفيق والمدد من الله لأنهم يجاهدون في جميع الميادين".

* نِعَمٌ إلهيّة
لا تستطيع الأم التي فقدت زوجها مؤخراً الحديث عن أبنائها دون التطرق إلى حرب تموز 2006 حيث غاب عنها أولادها الخمسة، وصهرها، لتخرج هي وزوجها وولدها الطفل وابنتاها من القرية وحدهم. "عندما خرجنا من القرية في حرب تموز، لم أكن أظن أني سوف أراهم مرة أخرى. كانت النار تشتعل في قلبي عليهم، وأطلب من الله أن يأخذ عمري مقابل أن أراهم مرة أخرى.
في كل يوم كنت أنذر نذراً جديداً مقابل أن أحضنهم جميعاً، وأقول إن الحياة بأجمعها لا تساوي مشهد اجتماعهم حولي. لكني لم أكن أتوانى عن القيام بواجبي، فقد كان عليّ تأمين الأمان للأطفال وتسليتهم والتخفيف من آلامهم، وهذا ما كان يشغلني قليلاً عن التفكير". وبعد انتهاء الحرب عادت الأم لترى أحد أبنائها جريحاً وفي حالة خطرة، لكنها رأت الباقين سالمين، الأمر الذي لم تكن تتوقعه، فحمدت الله على هذه النعمة، دون أن تخرج من فكرة أنهم يوماً ما قد يصبحون جميعهم شهداء، وقد أبقى وحدي، لكنّ هذا الطريق الذي اختاروه إنما هو نعمة من الله. "فأنا كل يوم عندما أغمض عينيّ على غيابهم أعرف أنهم في أيدٍ أمينة، وأنهم على الصراط الذي يحبه الله". ثم تضيف: "في العمر ميتة واحدة سيتجرعها كلٌ منّا، وإن قدّر لأبنائي الموت، فأسأل الله ألا يمضوا إلا شهداء، كي لا تعاد أيام الاحتلال، وكي نحيا بكرامة".

* صبْرُنا ودعاؤنا مددُ جهادهم
وماذا عن عيد اجتماع العائلة، كيف يزورها أبناؤها المجاهدون؟ "لقد اعتدت على غيابهم في الأعياد، فنادراً ما يجتمعون معاً في المنزل في وقت واحد. وفي بعض الأحيان لا أرى أحداً منهم في عيد الأم، لكنّ بناتي وزوجات أبنائي يحضرن، ليزيّن وجودهن قلبي. أبتسم دائماً في وجوههن وفي وجوه من يحضر من أولادي، وأخفي حسرتي في قلبي كي لا تؤلم أحداً غيري. فأنا أم، ولا ينسيني حضورُ ولدٍ غياب آخر". تتنهد وتبتسم "الحمد لله. وأنا لست وحيدة في تحمل هذه المسؤوليات وهذه الآلام. أعزّي نفسي بأمهات المجاهدين والجرحى، ولا أقول ما يثبّط من عزم أبنائي، فصبرُنا نحن الأمهات، ودعاؤنا الذي نرسله كل صباح ومساء نحو السماء، هو مدد جهادهم".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع