علي حيدر
شكّل اعتقاد اليهود على مر القرون السابقة بمخلص (المشيح)(*) ينقذهم ويبني لهم مملكتهم على أرض إسرائيل (فلسطين) ركناً أساسياً في منظومة العقائد اليهودية، ودوراً هاماً في بلورة السلوك السياسي للجماعة اليهودية أياً كان موطنها، بغض النظر عن كون هذا المعتقد قد تعرض لتحريف.
* الاعتقاد بالمخلص
ووفقاً لما يورده الباحثون، وتذكره الكتب اليهودية، فإن هذا الاعتقاد ترجم في مراحل سابقة إلى مساعٍ من قبل الجماعات اليهودية، لإقامة كيان سياسي خاص بهم في فلسطين واعتبار ذلك من مقدمات أو بداية الخلاص المؤمل، أي مبادرتهم إلى القيام بنشاطات سياسية وعسكرية لبناء هذا الكيان الذي كانت تتبعه في كل مرة كارثة تحل بهم، وفقاً للمصادر التاريخية. ففي القرن الميلادي الأول دعا اليهود المقيمون في يهودا التي كانت خاضعة للحكم الروماني آنذاك (وهي التسمية التي تطلق حالياً على الجزء الجنوبي من الضفة الغربية) إلى الخروج عن طاعة روما من أجل إعادة تكوين "مملكة داودية" تكون من بشائر الخلاص. ووفقاً لمصادر تاريخية وجد اليهود في تلك الفترة صعوبة في عدم الاستجابة لهذه الدعوة... فاندلعت خلال 75 عاماً ثورتان كبيرتان ضد روما في يهودا، الثورة الكبرى (66-73 للميلاد) وثورة باركوخبا (132-135 للميلاد). وانطلقت كل منهما على أساس أن أوامر الله تقضي باستقلال اليهود في أرض إسرائيل وبوجوب إقامة شعائر الهيكل... وتذهب التقديرات التاريخية إلى أن الثورة الأولى التي دُمرت فيها القدس والهيكل قد خفضت عدد اليهود بنسبة 25%. أما الثانية فقد قادها سيمون باركوخبا وتبناها كبير الحاخامين آنذاك عكيفا بن يوسف، الذي أعلن أن باركوخبا هو المسيح وأن الخلاص قد بدأ. لكن ثورة باركوخبا انتهت بموت حوالي نصف مليون يهودي واستعباد الناجين منهم بالجملة وتبدل الوضع الديمغرافي في فلسطين.
* إقصاء الأفكار الخلاصية
ويتفق أغلب دارسي اليهودية والتاريخ اليهودي، على أن ردة فعل الحاخامين على هذه الأحداث قد كان لها الأثر الحاسم في بقاء اليهود كشعب ودين وجماعة سياسية. فبعد تدمير الهيكل عام 70 للميلاد استحصل الحاخام يوحانان بن زكاي، الذي كان قد عارض الثورة الكبرى، على إذن روماني بتأسيس معهد في مدينة تسمى يفنه. وعلَّم يوحانان تلامذته أن اليهودية لن تقوى على البقاء في الشتات وبعد دمار الهيكل، إلا إذا استعيض عن شعائر الهيكل بالصلوات والسلوك القويم، وإذا انتقل الاهتمام إلى دراسة الشريعة بدلاً من الامتثال بها في المجالات التي حالت الحوادث دون التزامها، وإذا استعيض عن المسيحانية الخلاصية النضالية (التي تقضي بالسعي الفعلي بمختلف أنواعه المادية والعسكرية والسياسية) بمذهب يأمر اليهود بالانسحاب عملياً من التاريخ والانتظار، حتى يقضي الله بأن يكون أمر الخلاص مفعولاً. ولم يكتف الحاخامون بتحريم الأعمال التي تهدف إلى تحقيق الخلاص المنشود (وهو ما يسمى العمل على تقريب النهاية)، بل حرموا أيضاً كل محاولة "لحساب زمن النهاية". وتفادياً لكوارث وعواقب رهيبة جراء اعتماد الخلاصية النضالية، تم العمل على إقصاء هذه الأفكار المسيحانية الخلاصية عن مركز الوعي اليهودي. لكن بالرغم من مكانة الحاخام يوحانان الكبيرة وتأثير تعاليمه في الناس، إلا أن أهم تلامذته المدعو عكيفا وقف بعد 65 عاماً على الثورة الكبرى، والنتائج الكارثية التي أدت إليها، إلى جانب باركوخبا وأعلن أنه المسيح المخلص وقاد الشعب اليهودي إلى كارثة أخرى. في أعقاب هذه الهزيمة وبعد أن دُمرت معظم الحياة اليهودية في معظم أنحاء "أرض إسرائيل" وانتقل مركز الثقل اليهودي إلى الشتات، تمكن الرفض الحاخامي للمسيحانية السياسية من تعميق جذوره وتوسيع دائرة انتشاره وأصبح هذا الرفض هو السائد بين يهود العالم. وضمن هذا الاطار أخذ الحاخامون يعلّمون بأن الشعب اليهودي قد أُخذت عليه مواثيق مؤكدة بألا يحسب نهاية الزمان، وألا يسعى لتعجيل أجلها أو أن ينظم العودة الجماعية إلى أرض إسرائيل بالقوة.... وهكذا تحولت المسيحانية اليهودية من موقف النضال والمجابهة إلى موقف الاستكانة والمسالمة، من التوقع العجول للتغيير إلى الأمل البعيد الهادئ.
* مشحاء دجالون
ومع أن الحاخامين ظلوا على معارضتهم المستمرة للأفكار الرؤيوية والمسيحانية والخلاصية، لم تخل يهودية الشتات نهائياً من التوقعات العملانية "لفجر الخلاص"، وفي هذا الإطار كان أكثر ما يشغل بال الحاخامين من ملامح الأفكار الخلاصية اليهودية هو نزوع المشحاء، المخلصين الدجالين إلى الظهور في أزمنة الاضطهادات الشديدة.... التي يفتش فيها الناس عن الخلاص وإمكانية أن يكونوا مهيئين لتقبّل أي طرح على هذا الصعيد. واهتم الحاخام موسى بن ميمون (1135 1204)، أحد أهم، إن لم يكن الأهم، الشخصيات التاريخية اليهودية الذي تستند اليهودية الأرثوذكسية الحالية إلى كتبه في مجال العقائد والأحكام، بالعقيدة الخلاصية وكتب فيها ما يحاول من خلاله أن يثبت ويحافظ على هذه العقيدة، ويضع ضوابط تحاول أن تجنب الناس الادعاءات التي شهدها التاريخ اليهودي على هذا الصعيد. إذ أدرك بن ميمون أن شكلاً من أشكال المسيحانية، وبعض الأمل والإيمان بتجميع اليهود في "أرض إسرائيل" وتحقيق ما وعد الله به شعبه فيها، كان جزءً حيوياً من الحياة اليهودية. فاقترح من أجل تثبيط عزائم المشحاء الدجالين وإحباط الوساوس الرؤيوية والتفكير في قيام الساعة، نشر تعليماته التي تقضي بأن الله عز وجل فقط هو القادر على إحلال العصر المسيحاني في زمن لا يعلمه إلا الله وحده، وليس في استطاعة الإنسان أن يحتسب زمان الخلاص، ولا أن يستعجله بأية معالجة صوفية لاسم الله الأعظم، أو بالجماتريا (دراسة المعاني السحرية للأعداد)، أو بالصلوات، أو المعجزات. فالمسيح سيبرهن عن ذاته باتباع الوصايا والفرائض كلها ويقود الشعب اليهودي كله إلى التزام الشريعة اليهودية التزاماً تاماً، والقيام بالمهمات السياسية والعسكرية المطلوبة لإعادة السلطة إلى اليهود في أرض إسرائيل، عبر جمع اليهود على أرضهم وإعادة بناء الهيكل في موقعه القديم. وهدف بن ميمون من وراء هذه المعايير الملموسة والصعبة التحقق في الواقع، إلى أن يحول دون اجتذاب المشحاء الدجالين أعداداً كبيرة من اليهود المنتشرين في أنحاء العالم...
وبالرغم من ذلك أيضاً برز مشحاء دجالون في عصور لاحقة، كان من أبرزهم في القرون الأخيرة شبطاي تسفي الذي خرج في فلسطين وادعى أنه المشيح المخلص لليهود، واجتاحت من العام 1665 إلى العام 1667 موجة من الحماسة المشيحانية بين يهود العالم وتجاوب العديد منهم مع هذه الدعوة.... ولما ذاع صيته وحصلت اضطرابات في فلسطين أمر السلطان العثماني آنذاك باعتقال شبطاي وسجنه، وهو ما أدى إلى خيبة مريرة لآمال اليهود الذين صدقوه، والذين تشير مصادر تاريخية إلى أن أعدادهم كانت كبيرة جداً. ولمزيد من الدقة لا بد من الإشارة إلى أنه تخللت التاريخ اليهودي حالات محدودة من الحاخامين الذين دعوا إلى هجرة اليهود إلى فلسطين، حتى قبل ظهور المشيح المخلص، ولكن بقي انتشارها محدوداً جداً. واستناداً إلى ما تقدم يتضح أنه عندما ظهرت الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر التي تدعو إلى إقامة وطن قومي لليهود، كانت الذاكرة التاريخية اليهودية مليئة بمحاولات فاشلة لمشحاء دجالين. وكانت العقيدة السائدة بين معظم أو الكثير من يهود العالم هو العقيدة الخلاصية التي تنتظر تحققها بإرادة إلهية، وبأن أي فعل بشري على هذا الصعيد يشكل كفراً وتمرداً على الإرادة الإلهية. وهكذا تبرز أهمية التساؤل عن نشوء الصهيونية وتجاوب اليهود معها وانتشارها، وكيف واءمت التيارات الدينية بين معتقدها الخلاصي وإقامة دولة إسرائيل؟. هذا ما سنجيب عليه في العدد المقبل.
(*) المشيح والمشحاء: المسيح المخلص وفقاً للعقيدة اليهودية.