أديب كريم
على الرغم من التغير الجوهري الذي طرأ على موقفه من المسألة اليهودية وضمنه كتابه الموسوم بـ "اليهود وأكاذيبهم"، إلا أن خطواته الأولى في طريق ما عُرف بحركة الإصلاح الديني البروتستانت (وتعني في العربية المحتجون) عكست عمق الاختراق اليهودي للكنيسة المسيحية مع مطلع القرن السادس عشر، هو الراهب الألماني "مارتن لوثر" (1483- 1546) الذي أحدث بإرهاصاته التجديدية تصدعاً كبيراً في البنيان اللاهوتي والقيمي للكنيسة، ووضع المداميك الأولى لمشروع الصهيونية المسيحية، التي شاء التاريخ لها أن تلعب دوراً فعالاً في دفع عجلة "المسألة اليهودية" إلى واجهة الأحداث العالمية، كواحدة من أعقد المسائل وأكثرها تطرفاً في العصر الحديث.
وقد لخص "مارتن لوثر" المتصهين ملامح هذا التحول، في كتاب له بعنوان "عيسى ولد يهودياً" ومما جاء فيه "إن الروح القدس أنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم، إن اليهود هم أبناء اللَّه ونحن الضيوف الغرباء، ولذلك فإن علينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل مما يتساقط من فتات مائدة أسيادها كالمرأة الكنعانية تماماً". وأهم المبادئ التي نادت بها البروتستانتية والتي أصبحت فيما بعد المحرك الفعلي للصهيونية المسيحية هي:
* جعل كتاب العهد القديم (التوراة) المرجع اللاهوتي الكنسي.
* النظر إلى اليهود على أنهم الشعب المختار أو الأمة المفضلة.
* ربط ظهور المخلص المسيحاني "بعودة" اليهود إلى "وطنهم التاريخي" فلسطين حسب "نبوءات" الكتاب المقدس.
وعليه فقد انتشرت تعاليم البروتستانتية أو الصهيونية المسيحية في الوسط الأوروبي، وقوبلت أدبياتُها وشعاراتُها باستجابة سريعة من أبرز الشخصيات السياسية والفكرية التي بادرت إلى احتضان قضية اليهود في حلمهم الزائف "بالعودة" إلى أرض صهيون، ووضع كافة إمكانات الدعم والضغط والتأثير لهذا الغرض. وكانت بريطانيا على رأس الدول الأوروبية التي شرعت أبوابها أمام رياح التغيير الجديدة، وتفاعلت معها أيما تفاعل. وفيما يلي لمحة موجزة ع تاريخ الصهيونية المسيحية في بريطانيا، وما ترك من بصمات لا تمحى، بفعل سياسة هذه الدولة تجاه قضية فلسطين المحتلة.
* بريطانيا مهد الصهيونية المسيحية
في دولة بريطانيا كانت الولادة الفعلية للصهيونية المسيحية، وكانت الفضاء المناسب لتأسيس قاعدة انطلاق الصهاينة المسيحيين في مشروعهم لتفعيل خرافة "عودة" اليهود إلى "أرض الميعاد". فمع مطلع القرن السادس عشر شهدت بريطانيا، وعلى أكثر من مستوى سياسي وثقافي وتربوي منعطفاً مفصلياً في الرؤى والتفسيرات والاستراتيجيات، حيث بدأت أدبيات التعاطف مع اليهود ودعم قضيتهم تجتاح كل المحافل والأروقة المؤثرة في الواقع البريطاني، وانبرت أقلام المفكرين المتصهينين الجدد لتكتب عن أوهام "الوطن الموعود" و"الشعب المختار" و"نبوءات العهد القديم". وكان على رأسهم المفكر والكاتب "هنري فيش" الذي دافع عن اليهود وقضيتهم في كتاب له صدر عام 1621 وضمنه العبارة التالية "ليس اليهود قلة مبعثرة، بل إنهم أمة، ستعود أمة اليهود إلى وطنها، وسنعمر كل زوايا الأرض... وسيعيش اليهود بسلام في وطنهم إلى الأبد" وفي العام 1649م وجه عالمان لاهوتيان إنكليزيان مذكرة إلى الحكومة البريطانية يطالبان فيها "بأن يكون للشعب الإنكليزي ولشعب الأرض المنخفضة شرف حمل أولاد وبنات إسرائيل على متن سفنهم إلى الأرض التي وعد اللَّه بها أجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومنحهم إياها إرثاً أبدياً". وعلى الصعيد السياسي كان تأثير التيار الصهيوني المسيحي يحتل مساحة أوسع ويحظى بقوة متميزة. ومن ذلك على سبيل المثال العضو البرلماني "أوليفر كرومويل" (1599- 1658) الذي كان أول سياسي بريطاني يرحب بمذكرة اللاهوتيين، ويدعو إلى عقد مؤتمر في العام 1655 لاقرار التشريعات اللازمة لعودة اليهود إلى بريطانيا، وذلك الغاء لقانون النفي الذي أصدره الملك إدوارد.
ويعتبر هذا الصهيوني المسيحي من أبرز رواد الربط بين "عودة" اليهود إلى فلسطين والمصالح البريطانية فيها. وهذه الاستراتيجية بقيت حية في الذهنية السياسية البريطانية لعدة أجيال، وتغذيها مواقف الساسة وأدبيات المفكرين وإرهاصات المتحمسين. وقد شهد العام 1807 ولادة "جمعية لندن لتعزيز المسيحية فين اليهو" كأول جمعية صهيونية منظمة، مثَّل فيها اللورد "أنطوني كور" أحد أهم أركانها، وقد نشر هذا الأخير مقالاً له عام 1839 أشار فيه إلى ضرورة تحقيق إرادة اللَّه "بعودة" اليهود إلى فلسطين، وإلى "أن اليهود هم الأمل الوحيد في تجدد المسيحية وعودة المسيح" وفي هذا المقال رفع أنطوني، ولأول مرة، شعار: "وطن بلا شعب لشعب بلا وطن".
وحفل القرن التاسع عشر بالكثير من الأحداث والتطورات التي أدت إلى رفع مستوى تعاطي الحكومة البريطانية مع قضية دفع اليهود إلى فلسطين، تحت ضغط أنصار الصهيونية المسيحية، من مجرد الاجتهاد الفكري إلى ميادين التطبيق الفعلي، والتي تُوجت بإصدار وعد بلفور المشؤوم مع أوائل القرن العشرين. وكان "آرثر بلفور" من الصهاينة المسيحيين الذين تأثروا بمقولة "شعب اللَّه المختار" و"حقه في أرض الميعاد"، وبهذا الصدد تقول عنه ابنة أخته ومؤرخة حياته "بلانش دوغويل". "لقد تأثر منذ نعومة أظفاره بدراسة التوراة في الكنائس". وأما عن كاتب المسودة الأخيرة للوعد المشؤوم، فلقد كان من الثابت تاريخياً أنه مسيحي صهيوني ومتشدد في دفاعه عن المصالح اليهودية، وذلك قبل أن يكشف المؤرخ البريطاني البارز وأستاذ التاريخ المعاصر في جامعة ويلز البريطانية البروفسور "ويليام روبنشتاين"، في دراسة له نشرت في مجلة History - today بعد مرور أكثر من أربعة عقود على وفاة كاتب المسوَّدة، عن أن هذا الأخير هو يهودي سري واسمه الحقيقي "ليوبولد تشارلز موريتز أمبري" وليس ليوبولد تشارلز موريس ستينيت أمبري"، وقد أخفى اسمه ويهوديته لمدة سبعة عقود ولأسباب غير معروفة، وتظاهر بإعتناقه البروتستانتية. ويطبق المؤرخ الباحث أن "ليوبولد" اليهودي والمستشار السياسي لوزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور "أصبح من أبرز المدافعين عن الصهيونية وخدمة القضايا اليهودية.
فهو بالإضافة إلى دوره في صياغة وعد بلفور، لعب دوراً حيوياً في إنشاء الفيلق اليهودي الذي أصبح في وقت لاحق الجيش الإسرائيلي، ويكتب "ليوبولد" في مذكراته، مفتخراً بماضيه، عن تلك الفترة واصفاً الدور الذي لعبه في تأسيس "إسرائيل" بقوله: يبدو أنني وضعت إصبعي في الكعكة، ليس فقط بكتابة إعلان بلفور بل أيضاً في وضع أسس الجيش الإسرائيلي الراهن". والجدير ذكره أن شخصية "ليوبولد أمبري" تكاد تكون وللأسف خارج دائرة الاهتمام العربي. "إلا أن بعض الرسميين ورجال الأعمال من العرب المعاصرين، يعرفون ابنه الأصغر سناً النائب والوزير المحافظ اليميني السابق "جوليان أمبري"... الذي كان طوال سنوات حياته من الأصدقاء المقربين للعاهل الأردني السابق الملك حسين، ولعب دور المستشار غير المعين له في السنوات الأولى التي تلت استلامه العرش.... في النصف الثاني من الخمسينيات"!! ويختم الباحث روبنشتاي دراسته بالقول: "لا نغالي إذا وصفناه (ليوبولد أمبري) بأنه اليهودي السري (البروتستانتي العلني) الذي عمل من دون كلل لصالح قضايا اليهود. ونظراً للمناصب الهامة التي احتلها في حياته، فقد لعب دوراً مصيرياً في نجاح المشروع الصهيوني الذي أدى في النهاية إلى إقامة دولة إسرائيل" (راجع صحيفة الحياة 5 آذار 1999).
حفل القرن التاسع عشر بالكثير من الأحداث والتطورات التي أدت إلى رفع مستوى تعاطي الحكومة البريطانية مع قضية دفع اليهود إلى فلسطين، تُوجت بإصدار وعد بلفور المشؤوم مع أوائل القرن العشرين ويستخلص مما تقدم بأن الصهيونية المسيحية السرية والعلنية كان لها اليد الطولى في تهيئة المناخ لظهور الصهيونية اليهودية أولاً، وإقامة الكيان اليهودي المصطنع تالياً. وبين أيدينا شهادة صريحة في هذا المجال، يدلي بها رئيس وزراء الكيان اليهودي الأسبق بنيامين نتنياهو في العام 1985 وأمام المسيحيين الصهاينة وكان يومها يشغل منصب سفير دولته في الأمم المتحدة. ومما جاء في شهادته تلك "... لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل وهذا الحلم الذي يراودنا منذ 2000 سنة، تفجر من خلال المسيحيين الصهيونيين"!! وبعد إنقضاء نصف قرن ونيف على زرع هذا الكيان الإرهابي في قلب العالم الإسلامي، وعلى رغم حجم المعاناة والآلام التي حاقت بالشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية، ما زالت الصهيوينة المسيحية ماسكة بزمام التحم ببوصلة السياسة البريطانية بما يخدم مصالح ومواقف اليهود وهم في ذروة عنصريتهم وبطشهم بالشعب الفلسطيني. ومنذ سنتين فقط احتفل الساسة في بريطانيا بذكرى مرور أربعين سنة على تأسيس منظمة "أصدقاء إسرائيل في حزب العمال". وكان على رأسهم الصهيوني المسيحي وزير المال "غوردن براون" الذي أوضح في كلمته أن تأييده لإسرائيل يرجع إلى تأثير أبيه الذي كان رئيس الكنيسة الاسكندية وترأس "لجنة الكنيسة الاسكندية إسرائيل"، واعتاد والده أن يسافر إلى "إسرائيل" سنوياً، ويتذكر براون من أيام طفولته ملصقات وعروضاً وصوراً عن تاريخ دولة إسرائيل وقال "أكن احتراماً كبيراً لأولئك الذين بذلوا الكثير لإقامة إسرائيل بشكلها الحالي".
وعلى الضفة المقابلة للمحيط نجد الموقف الأميركي لا يقل عن نظيره البريطاني مؤازرة ودعماً مطلقين لارادة العنق اليهودية. ولقد ثبت بالتجربة الطويلة استحالة أن يُشفع الانحياز الأميركي السافر بأي تبرير منطقي بالقياس إلى تجاذبات وتبدلات المصالح الدولية، أو أخلاقي بلحاظ المعايير الإنسانية القيمية التي لطالما تغنت بها أدبيات الخطاب والثقافة الأميركية، ولكي نتوافر على حقيقة الأمر ينبغي إماطة اللثام عن قوة التأثير الحقيقية أو في جزء هام منها الكامنة خلف المشهد الأميركي المنظور، والمتمثلة في جماعة الصهيونية المسيحية، فماذا إذاً عن الصهيونية المسيحية في أميركا؟؟ هذا ما سنجيب عليه بعون اللَّه في العدد القادم.
ـ الحياة عدد 13156 5 آذار 1999.
ـ مجلة العربي العدد 326 كانون الثاني 1986.
ـ محمد السمّاك الصهيونية المسيحية دار النفائس.
ـ غريس هالسل ؛ النبوءة والسياسة جمعية الدعوة الإسلامية العالمية.