علي حيدر
تشير بعض المصادر التاريخية، وخاصة اليهودية منها، إلى أن العلاقة بين اليهود والأنظمة الأوروبية التي كانوا يعيشون في ظلها خلال القرن التاسع عشر وما قبله، وخاصة في روسيا ودول شرق أوروبا، كانت تتسم بالتأزم، تعرّض خلالها اليهود للتمييز وفي بعض الأحيان إلى القمع حتى برز ما يُسمى ب"المسألة اليهودية" التي تنشد إيجاد حل لها، ذهب في أثنائها مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتسل في كتابه "دولة اليهود ص 29" إلى اعتبارها "من بقايا العصور الوسطى، لم تستطع الأمم المتمدنة التخلص منها". أما بخصوص أسباب هذه الظاهرة، فقد اعتبرها "مسألة دينية أكثر منها اجتماعية. إنها مسألة قومية لا يمكن حلّها، إلا بجعلها مسألة سياسية عالمية تبحثها وتحلّها الأمم المتحضرة في منتدى العالم" (ص: 29 - 30). وبالإجمال، أدَّى هذا الواقع إلى طرح خيارات متعددة في التعامل مع هذه الظاهرة، منها ما دعا اليهود إلى الخروج من الغيتوات والاندماج في مجتمعاتهم عبر ممارسة حقوقهم وواجباتهم كسائر المواطنين. وتناول هرتسل هذا الخيار في كتابه ذاكراً: أن هذا الخيار الذي انتهجوه "لم يُحوِّلهم إلى مواطنين كالآخرين"، عازياً ذلك إلى أن اليهود مرفوضون.
* تيار البوند:
في مقابل تيار الاندماج الذي كانت ساحته الأساسية أوروبا الغربية، انتشر في روسيا القيصرية وبولونيا خاصة، تيار مضاد يتعامل مع اليهود كجماعة متمايزة عن الشرائح الاجتماعية الأخرى فضلاً عن كونها مستهدفة، وبالتالي دعا إلى نيل اليهود الحكم الذاتي في البلدان التي يعيشون فيها. وعلى هذا الأساس تشكل حزب "البوند" في روسيا، وهو حزب يهودي اشتراكي دعا إلى منح اليهود حكماً ذاتياً في الشؤون الثقافية. وقد خاض هذا التيار صراعاً طويلاً ضد اليهود الداعين إلى مغادرة روسيا والهجرة بعيداً عن حكم القيصر، وبشكل أساسي نحو الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية وخاصة الأرجنتين. ولعب هذا التيار دوراً هاماً في الإعداد للثورات والانتفاضات التي شهدتها روسيا القيصرية قبل تولي البلاشفة زمام السلطة في تشرين الثاني عام 1917. كما كان له تأثيره في نشأة الأحزاب اليسارية والاشتراكية والعمالية ومستعمرات الكيبوتس، ضمن الحركة الصهيونية وأنصارها ممن هاجروا إلى فلسطين منذ أوائل القرن العشرين.
* تيار الصهيونية
لئن اقترن اسم تيودور هرتسل بتأسيس الحركة الصهيونية العالمية، إلا أن ذلك لا يعني انه هو أول من طرح فكرة بناء وطن قومي لليهود في فلسطين أو غيرها. فقد سبقه العديد من الشخصيات التي حملت هذا اللواء، أبرزهم:
الحاخام يهودا القلعي (1798 1878)، سفاردي الأصل، من يوغوسلافيا، من الذين نشطوا لتجميع اليهود وحثهم على الهجرة إلى "أرض إسرائيل". الحاخام تسفي هيرش كاليشر (1795 1874)، ألماني، وبولوني المولد، تأثر بالحاخام القلعي، ودعا جميع الأثرياء اليهود إلى إنشاء المؤسسات وتقديم الهبات، لتمويل مشروع الاستيطان الزراعي في فلسطين... موشيه هس (1812 1875): نشأ فكرياً على الاشتراكية، وكان أحد أصدقاء كارل ماركس، لكنه سرعان ما تحول إلى أحد رواد الفكر الصهيوني، وكانت له مساعيه ودعواته في هذا الإطار... ليون بنسكر (1821 1891): كان من دعاة اندماج اليهود في مجتمعاتٍ وفي روسيا، ولكن بعد الحوادث التي شهدتها روسيا اثر اغتيال القيصر الكسندر الثاني على أيدي القوميين في العام 1881، حيث كان هذا المجتمع يضم عدداً من المثقفين اليهود، والحصار الذي فرضته السلطات الروسية حول التجمعات اليهودية، دعا إلى جانب بعضٍ من دعاة الاندماج إلى التحرك، لإنشاء دولة خاصة بهم في أي أرض أو دولة، بهدف الخلاص من واقعهم الصعب. ويُشار إلى أنه في هذه الأجواء تشكلت جماعة "أحباء صهيون" عام 1881، التي اهتم أعضاؤها بالحفاظ على التقاليد والتراث اليهودي، وأرسلوا بموجب ذلك مجموعات يهودية من روسيا وبولونيا للإستيطان في فلسطين. ولاحقاً برز الصحافي النمساوي تيودور هرتسل، وكان شخصية علمانية أبعد ما تكون عن الالتزام الديني اليهودي، الذي عرَض رؤيته وحلَّ ما أسماه "المسألة اليهودية" في كتابه "دولة اليهود"، ترجمه بالمبادرة إلى عقد مؤتمر (في مدينة بال السويسرية عام 1897)، ضم شخصيات وتيارات وجمعيات تؤمن بالصهيونية، وشكَّل خلاله إطاراً تنظيمياً عالمياً (الصهيونية العالمية)، يسعى إلى إقامة وطن قومي لليهود. أما عن المكان الذي سيُقام عليه الوطن القومي اليهودي فقد أجاب هرتسل، في كتابه (ص: 49)، على سؤال طرحه، هل نختار فلسطين أم الأرجنتين؟ بالقول: "إننا سنأخذ ما يعطى لنا وما يختاره الرأي العام اليهودي.. الأرجنتين من أخصب أراضي العالم، ومساحتها شاسعة، وعدد سكانها قليل، ومناخها معتدل، وستحصل جمهورية الأرجنتين على ربح كبير إذا اقتطعت لنا جزءاً من أرضها... أما فلسطين فهي وطننا التاريخي الذي لن يُنسى أبداً. إن اسم فلسطين وحده سيجتذب شعبنا إليها بقوة ذات فعالية رائعة".
وفي خلاصة ختامية يمكن تسجيل بعض الملاحظات التالية:
إن مفهوم انتظار المخلّص دون أي سعي بشري، وإنما بأمر إلهي خالص، ترسّخ وانتشر مع الكوارث التي حلت باليهود، جراء ثوراتهم في القرنين الأول والثاني الميلاديين على الامبراطورية الرومانية لإقامة كيانهم الخاص في فلسطين. واتسعت واستمرت مع الأجيال وصولاً إلى تبلور الأفكار الصهيونية. في المقابل، ساهم انتشار العلمنة التي سادت أوروبا في القرون الأخيرة وتأثر اليهود بها، كونهم جزءً من تلك المجتمعات، في بروز شخصيات فكرية وسياسية يهودية متحررة من بعض الأفكار التلمودية، طرحت أفكاراً تتعارض مع العقيدة الخلاصية التي كانت سائدة آنذاك. بعد انتشار الفكر القومي في أوروبا، وجد اليهود أنفسهم أمام تحدٍّ واستحقاق مصيريين، يرتبط بتحديد نهائي لهويتهم: إما عبر الذوبان في المجتمعات التي يعيشون فيها ليحملوا بالتالي هويتها القومية، أو اندفاعهم باتجاهات مغايرة عبر الهجرة، أو المطالبة بكيانات ذاتية تحفظ لهم خصوصياتهم. لكن نظرة اليهودي إلى نفسه والآخر وتأزم العلاقة بينهما، تدفع إلى اعتبار أن نشوء الفكر القومي اليهودي (الصهيونية) كان ردة فعل على الأفكار القومية الأوروبية، أكثر منها صدى وامتداداً لها. ساهمت التطورات السياسية التي شهدتها بعض البلدان في إيجاد جو ضاغط على اليهود، وأدى تعرضهم للتنكيل وخاصة في روسيا وبولونيا إلى دفعهم للسعي نحو الهجرة، والبحث عن بلدان يشعرون فيها بالأمان. ولم تكن طبيعة البلد الهدف، بقدر ما كان يهمهم الخروج من الواقع الذي كانوا يعيشونه. وعليه، يمكن القول: إن تزامن هذه العوامل ساهم في تأمين الأرضية لبلورة تيار فكري سياسي يدعو إلى إنشاء وطن قومي لليهود، من دون أن نغفل عن وجود اجتهادات دينية جديدة، كانت محدودة في حينها، تلغي التعارض بين السعي لبناء وطن قومي لليهود في فلسطين وبين انتظار المخلص. ولكن الأرضية الأساسية التي ساهمت في تهيئة الرأي العام اليهودي لتقبل هذه الفكرة، ارتكزت بشكل أكبر على التطورات السياسية والاجتماعية، استغلت معها النصوص الدينية التاريخية وهو ما أقر به هرتسل في كتابه، عندما قال: إن القوة الدافعة هي "بؤس اليهود". لكن الصهيونية كانت في البداية مجرد تيار من مجموعة تيارات يهودية، ساهمت التطورات السياسية والدولية في انتشارها وترسيخها، وصولاً إلى ما وصلت إليه. ومن زاوية محددة، ينظر إلى الصهيونية على أنها عملية خلاص لليهود، كُلٌّ ينظر إليه انطلاقاً من الخلفية الفكرية التي يعتنقها، دينية كانت أو علمانية. وحاول هرتسل أن يضفي عليها طابعاً خلاصياً، على أنها امتداد لمساعي الخلاص التي بذلها اليهود في التاريخ، من خلال قوله "إن الفكرة التي طورتها في هذا الكتيب هي فكرة قديمة جداً: إنها استعادة "دولة اليهود"" (ص: 23).