آية اللَّه الشهيد مرتضى مطهري
ترجمة: د. علي الحاج حسن
بعد الحديث في الحلقتين السابقتين عن الظلم والفساد الأخلاقي والتفرقة ضمن العوامل التي تؤدي إلى زوال الأمم نكمل الحديث عن التفرقة والتشتت إلى أن نصل إلى العامل الرابع.
* قصة الدولة العثمانية
لعل قصة الدولة العثمانية وحربها مع الأوروبيين من أوضح النماذج التي شاهدناها في الفترة الماضية. كانت الدولة العثمانية تشكل قوة كبيرة، على الرغم مما كان يعتريها من فساد داخلي، ولكن ماذا فعل الأعداء؟ حاول الأعداء بناءً على مقولة "فرِّق تسد" أن يحركوا العرب لعدم الرضوخ للدولة العثمانية وإقناعهم أن الثروة والمناصب هي من حق العرب وليس الأتراك. فلماذا يجب أن تخضع المناطق العربية للنفوذ التركي؟ تعالوا أسسوا الإمبراطورية العربية. وهكذا حركوا العرب من خلال الطمع بالإمبراطورية العربية. هذا في الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية تقف في مقابل الأعداء وهي في أشد الحاجة إلى من يدعمها ويقويها. في هذا الوضع كانت السهام تنهال على العثمانيين من الظهر مما أدى إلى فاجعة في العالم الإسلامي. واللافت أنه مع زوال الدولة العثمانية وسيطرة الأوروبيين ومطالبة العرب لهم بالوفاء بعهدهم في الإمبراطورية العربية، كانت المفاجأة حينما خاطبوا العرب: ماذا تعني الإمبراطورية العربية؟ هنا قسّم الأوروبيون البلاد العربية إلى مناطق صغيرة وقدموا كل واحدة منها إلى شخص وجعلوا العلاقات بينها تقوم على أساس العداوة والقتال. هذه القضية أدّت إلى ظهور حقد الأتراك العثمانيين على العرب. والأكثر من هذا فإن الأتراك الذين حملوا حقداً على العرب تركوا الإسلام وابتعدوا عنه، حيث أعلنوا أنهم لا يريدون الإسلام، لأن هوية بلدهم هوية مناهضة للدين.
هذه هي نتيجة التفرقة والاختلاف. ما زلنا حتى اليوم نعاني من الاختلاف والفرقة المذهبية، حيث يعمل الأعداء وكل يوم على إيجاد فرقة مذهبية جديدة من أجل بث الفرقة والاختلاف بين المسلمين. إذاً، التفرقة والاختلاف هما العامل الثالث الذي تعرّض له القرآن الكريم.
4- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العامل الرابع والمقصود هنا هو أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عوامل الإصلاح. أما ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه يؤدي إلى زوال وفناء واضمحلال المجتمع. نقرأ في سورة هود قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ﴾ (هود: 116). لماذا لم يكن بين هذه الأمم التي وصلت إلى الهلاك من لا يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تصل الأمور إلى ما وصلت إليه؟ يوضح العامل الأخلاقي من بين هذه العوامل الأربعة قضية ثبات الأفراد.
الفساد الأخلاقي يعني فساد الأجزاء التي تشكل المجتمع. أما عامل العدالة، فهو القاعدة والقانون الذي على أساسه يقوم المركب، حيث لكل فرد من الاستحقاق والحقوق بمقدار ظرفية ومقتضى العمل الذي يقوم به، والمشقة التي يتحملها، لا بل والابتكارات التي تصدر عنه. أما إذا تخلف المركب عن القاعدة وكان فيه شيء من الزيادة والنقصان، فلا أمل بعد ذلك في بقائه. وبما أن الاجتماع والاتحاد شيء وثيق الارتباط بالمجتمع الإنساني والمجتمع الإنساني هو مجتمع فكري لا يتحقق إلا من خلال فكر وعقيدة وإيديولوجية، فلا بد أن يتحلى أفراده بالوحدة في الإيمان أيضاً. لا يكفي أن يمتلك الناس وحدةً من حيث الحقوق والواجبات والتكاليف، بل يفترض وجود فكر وإيمان واحد، ليجتمع الناس إلى بعضهم البعض. هناك حاجة لوجود إيمان إسلامي ليتمكن الناس من الاجتماع والاتفاق في حدود إيمانهم، وبالتالي إبعاد ما يوجب الاختلاف والافتراق.
أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو عامل ضروري ومهما بذل الإنسان جهداً من أجل الوقاية إلا أنه يبقى في المجتمع أشخاص يميلون إلى الفساد أو إخراج المجتمع من أجواء العدالة. وهكذا يمكن أن يعود وجود التفرق والتشتت في المجتمع الإسلامي إلى وجود مجموعة من العلل والأسباب. إذاً، يفترض وجود حركة أو حالة تأخذ على عاتقها مسؤولية الإصلاح. إذا فسدت الأخلاق هنا يجب أن يسرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون وسيلة إصلاح الأخلاق. إذا فُقدت العدالة والمساواة، فعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يسرع لإصلاح المفاسد التي وجدت عن هذا الطريق. وهكذا، إذا حلّ التفرق والتشتت، فعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يوجد الوحدة من جديد.
وقد جاءت الآية الشريفة: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (آل عمران: 104) متوسطة آيتين شريفتين تتحدثان عن الاتحاد والاتفاق ومقابلهما أي التفرق والتشتت، والآيتان هما: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ و﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾. وهكذا أدخل القرآن الكريم بين هاتين الآيتين اللتين تتحدثان عن الاتفاق والاتحاد ومقابلهما، آية تدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْر﴾. وكأن القرآن الكريم يعتبر الخير هنا وحدة واتفاقاً في الدرجة الأولى، والأمر بالمعروف هو من أهم مصاديق المعروف، والمقصود من المعروف هنا الوحدة والاتفاق. وأما النهي عن المنكر والابتعاد عن القبائح، فعلى أساس أن المنكر والقبائح هنا هما التفرق والتشتت.
بناءً على هذا، فإن هذه العوامل التي يذكرها القرآن الكريم بالإضافة إلى ما جاء من توضيحات في السنّة الشريفة ، هل هي عوامل أساسية؟ أو أن القرآن الكريم يوضح التاريخ على شكل: لم تفنَ أي أمة عبر التاريخ: إلا بسبب الظلم وعدم العدالة، أو بسبب الفساد الأخلاقي، أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التفرق والتشتت؟ والسؤال: ما هي العلاقة الموجودة بين هذه الأمور؟ أيهما هو العلة وأيهما المعلول؟ هل يؤدي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى عدم العدالة وإلى الفساد الأخلاقي والتفرق والتشتت؟ هل يؤدي الظلم إلى الفساد الأخلاقي؟ وهل يؤدي الفساد الأخلاقي إلى شيوع الظلم؟ هل يمكن اعتبار التفرق والتشتت علة وباقي الأمور معاليلها؟ أم أنها علة لذاك المعلول؟ أيهما العلة وأيهما المعلول؟ طبعاً هذه القضية مفصلة، إلا أنه يجب أن يُعلم أن الأمور التي ذكرها القرآن الكريم هي الأمور التي تؤدي إلى الفناء والاضمحلال والزوال، حيث علّمنا هذه الدروس عبر التاريخ.
يبين لنا التاريخ في دروسه أشخاصاً كانوا في أعلى مستوياته وآخرين في المرتبة الدنيا من ذلك. ولعل أهم ما يذكر في هذا الإطار الأدب الذي علمنا إياه لقمان الحكيم.
يتبع
(*) (تُنشر للمرة الأولى باللغة العربية/ الحلقة الثالثة)