لقد أمر الله سبحانه بكتمان السرّ والمحافظة عليه. وإنّ لحفظ الأمانة والسرّ دوراً مهمّاً لدى وليّ الأمر والقائد المؤهّل لحمل الرسالة، وهو شرط من شروط القيادة، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "أنا حجّة الله، وأنا خليفة الله، وأنا صراط الله، وأنا باب الله، وأنا خازن علم الله، وأنا المؤتمَن على سرّ الله..."(1)، فهو يختم السرّ ويحافظ عليه، ولا يفتحه إلّا عند الضرورة وعند أهله، كما أمر أمير المؤمنين عليه السلام كميلاً: "يا كميل، ما من علم إلّا وأنا أفتحه، وما من سرّ إلّا والقائم عليه السلام يختمه"(2). ومن هنا، يكون لعنوان حفظ السرّ دخالة في العلاقة المعنويّة بالإمام، والقائد، والأسوة، كما في الدعاء: "اللهمّ إنّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك، المأمونون على سرّك، المستبشرون بأمرك..."(3).
•دور القائد في بثّ الوعي الوقائيّ
إذا كان القائد مستعدّاً للتضحية بكلّ ما لديه لحماية المجتمع الإسلاميّ والمؤمنين، وتعليمهم، وتدريبهم على الأحكام والقوانين الشرعيّة، والعسكريّة، وغيرها، نفعَ أمرُه ونهيُه بالالتزام بالضوابط والقواعد السرّيّة، فيقتدي به أتباعُه المؤمنون، كما روي عن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام: "وددت -والله- أنّي افتديت خصلتين في شيعة لنا ببعض لحم ساعدي: النزق، وقلّة الكتمان"(4)، وعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال في وصف المؤمنين: "قلوبهم خائفة وجلة من الله، ألسنتهم مسجونة، وصدورهم وعاء لسرّ الله، إن وجدوا له أهلاً نبذوا إليه نبذاً، وإن لم يجدوا له أهلاً ألقوا على ألسنتهم أقفالاً غيّبوا مفاتيحها، وجعلوا على أفواههم أوكية..."(5).
•قواعد وقائيّة
اهتمّ النبيّ والأئمّة عليهم السلام بالضوابط والقواعد الوقائيّة والأمنيّة وتطبيقها. ومن نماذج ذلك:
1- عدم نقل الأخبار إلّا للمختصّ الأمين: روى العيّاشي في تفسيره: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إن أبا جعفر عليه السلام حدّثنا أنّ رجلاً أتى سلمان الفارسيّ فقال: حدّثني، فسكت عنه، ثمّ عاد فسكت، فأدبر الرجل وهو يتلو هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ... ﴾ (البقرة: 159)، فقال له: أقبل، إنّا لو وجدنا أميناً لحدّثناه"(6).
2- حفظ الأسرار الحربيّة: روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث عبد الله بن جحش ليتولّى قيادة جماعة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى نخلة(7)... وكتب له كتاباً وقال: اخرج أنت وأصحابك حتّى إذا سرت يومَين فافتح كتابك، وانظر فيه وامض لِما أمرتك، فلمّا سار يومين وفتح الكتاب، فإذا فيه: "أن امضِ حتّى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش بما يصل إليك منهم"، فقال لأصحابه حين قرأ الكتاب: سمعاً وطاعة، من كان له رغبة في الشهادة فلينطلق معي، فمضى معه القوم...(8).
3- استخدام اللغة السرّيّة: دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في الخندق، سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسيد بن حضير فقال: إنّه قد بلغني أن بني قريظة قد نقضوا العهد الذي بيننا وبينهم وحاربوا، فاذهبوا فانظروا إن كان ما بلغني حقّاً. فإن كان باطلاً فأظهروا القول، وإن كان حقّاً فتكلّموا بكلامٍ تلحنون به أعرفه، لا تفتّوا أعضاد المسلمين(9).
-قال عليّ بن مهزيار: "أرسلت إلى أبي الحسن عليه السلام غلامي، وكان سقلابيّاً(10)، فرجع إليّ الغلام متعجّباً، فقلت: ما لك يا بنيّ؟ قال: كيف لا أتعجّب، ما زال يكلّمني بالسقلابيّة حتّى كأنّه واحد منّا"(11). إنّما أراد عليه السلام بهذا الكتمان من القوم.
4- استخدام الاسم المستعار: كان الأصحاب يبدّلون أسماء الأئمّة عليهم السلام بأسماء رمزيّة، كما في الكثير من الروايات، فكانوا يسمّون الإمام الصادق عليه السلام بالعالم والرجل، والإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام بالعبد الصالح والصابر، والإمام الهادي عليه السلام بالطيب، والإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بالغريم.
5- الساتر الأمنيّ: روي أنّ أبا محمّد الحسن بن علي عليه السلام غيّر كنية نائبه الخاص عثمان العمريّ، فقال: "لا يجمع على امرئ بين عثمان وأبي عمرو، وأمر بكسر كنيته، فقيل العمري، ويقال له العسكريّ أيضاً؛ لأنّه كان من عسكر سرّ من رأى، ويقال له: السمّان؛ لأنّه كان يتّجر في السمن تغطيةً على الأمر. وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمّد عليه السلام ما يجب عليهم حمله من الأموال، أنفذوا إلى أبي عمرو، فيجعله في جراب السمن وزقاقه، ويحمله إلى أبي محمّد عليه السلام تقيةً وخوفاً"(12).
6- تدبير لحماية القادة: عن أحمد بن إبراهيم، قال: دخلت على حكيمة بنت محمّد بن عليّ الرضا، أخت أبي الحسن صاحب العسكر عليه السلام فقلت: إلى من تفزع الشيعة؟ فقالت: إلى الجدّة أم أبي محمّد عليه السلام، فقلت لها: أقتدي بمن وصيّته إلى امرأة؟ فقالت: اقتداءً بالحسين بن عليّ عليه السلام، والحسين بن عليّ عليه السلام أوصى إلى أخته زينب بنت علي في الظاهر، وكان ما يخرج عن عليّ بن الحسين عليه السلام من علم ينسب إلى زينب ستراً على عليّ بن الحسين عليه السلام(13).
7- الإجراءات الوقائيّة لحفظ الأماكن والشخصيّات: روي أنّه لمّا بلغ أبا ذرّ مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم مكّة فأتى المسجد، فالتمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فاضطجع فرآه عليّ عليه السلام في يومين، فلم يكلّمه حتّى إذا كان اليوم الثالث أقام معه، فقال: "ألا تحدّثني بالذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني فعلت، ففعل فأخبره.
قال: فإنّه حقّ، وإنّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا أصبحت فاتّبعني فإنّي إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأنّي أريق الماء، وإن مضيت فاتّبعني حتّى تدخل مدخلي، ففعل فانطلق يقفوه حتّى دخل على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه..."(14).
8- اللقاء السرّيّ خارج المدينة: عن إسماعيل بن سلام وفلان ابن حميد قالا: "بعث إلينا عليّ بن يقطين فقال: اشتريا راحلتين، وتجنّبا الطريق، ودفع إلينا أموالاً وكتباً... فأتينا الكوفة واشترينا راحلتين وتزوّدنا زاداً، وخرجنا نتجنّب الطريق... وقعدنا نأكل، فبينا نحن كذلك، إذ راكب قد أقبل ومعه شاكري (خادمه)، فلمّا قرب منّا فإذا هو أبو الحسن موسى عليه السلام، فقمنا إليه وسلّمنا عليه، ودفعنا إليه الكتب وما كان معنا، فأخرج من كمّه كتباً فناولنا إيّاها فقال: هذه جوابات كتبكم"(15).
روي أنّ أبا محمّد عليه السلام كان يبعث إلى أصحابه وشيعته: "صيروا إلى موضع كذا وكذا، وإلى دار فلان ابن فلان العشاء والعتمة في ليلة كذا، فإنّكم تجدوني هناك وكان... أصحابه وشيعته يصيرون إلى الموضع، وكان عليه السلام يسبقهم إليه، فيرفعون حوائجهم إليه، فيقضيها لهم على منازلهم وطبقاتهم"(16). وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: استقبلت الرضا عليه السلام إلى القادسيّة فسلّمت عليه، فقال لي: "اكترِ لي حُجرة لها بابان: باب إلى الخان وباب إلى الخارج، فإنّه أستر عليك"(17).
9- محو المستندات: عن الحسن بن علي الوشاء قال: سألني العباس بن جعفر بن محمّد بن الأشعث أن أسأل الرضا عليه السلام أن يحرق كتبه إذا قرأها مخافة أن تقع في يد غيره، فابتدأني عليه السلام بكتاب قبل أن أسأله أن يحرق كتبه فيه: "أَعلِم صاحبك أنّي قرأت كُتبه إليّ وحرقتها"(18).
1.الأمالي، الصدوق، ص88.
2.تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ابن شعبة الحراني، ص171.
3.الإقبال، ابن طاووس، ص646.
4.بحار الأنوار، المجلسي، ج72، ص69.
5.تفسير العيّاشي، ج1، ص71.
6.مستدرك الوسائل، النوري، ج12، ص295-296.
7.مكان بين مكّة والطائف.
8.بحار الأنوار، (م.س)، ج19، ص174.
9.المغازي، الواقدي، ج1، ص459.
10.السقالبة: جيل حمر الألوان، صهب الشعور، يتاخمون بلاد الخزر في أعالي جبال الروم.
11.الفصول المهمة في أصول الأئمّة عليهم السلام، الحرّ العاملي، ج1، ص414-415.
12.الغيبة، الطوسي، ص353-354.
13.بحار الأنوار، (م.س)، ج46، ص19-20.
14.البداية والنهاية، ابن كثير، ج3، ص45-46.
15.بحار الأنوار، (م.س)، ج48، ص34-35.
16.(م.ن)، ج50، ص304.
17.بصائر الدرجات، الصفار، ص266-267.
18.عيون أخبار الرضا عليه السلام، الصدوق، ج2، ص237.