الشيخ غسان الأسعد
كما أنّ الإنسان يسعى إلى تعزيز شعوره بالأمن والراحة، بحيث يكون بعيداً عن المخاطر التي قد تهدّده أو تهدّد أسرته مثلاً، فإنّه يسعى أيضاً إلى تعزيز شعوره بالأمان الروحيّ والنفسيّ والمعنويّ، الذي يُعدّ من أهمّ الحاجات الإنسانيّة؛ لأنّه يُشكّل عنصراً أساسيّاً لاستمرار حياته.
وهنا يظهر أحد آثار الدين على الإنسان؛ أي تحقيق الأمن النفسي؛ فخالق النفس أعلم بحالها ودوائها.
* أهميّة الاستقرار النفسيّ
إنّ من أشدّ الأمراض فتكاً وانتشاراً في حياة الإنسان المعاصر هي الاضطرابات النفسيّة وما يرافقها من أمراض خطيرة، كالقلق، والاكتئاب، والإحباط، وفقدان الثقة بالذات، وغيرها، وهي كلّها أمراض قد تهلك الإنسان، بل قد تدفعه إلى الانتحار أحياناً، أو على الأقلّ، عندما يفتقد عنصر الأمان النفسيّ، ويشعر بالفراغ الروحيّ والمعنويّ، يعيش حياة مضطربة غير متوازنة يفتقد معها الرغبةَ في العمل والإنتاج والتطوّر والتقدّم في مختلف الساحات الحياتيّة العامّة؛ وذلك لفقدانه العنصر الذي يدفعه إلى بناء الذات وتعزيز قدراته وقواه وتطويرها.
ولا شكّ في أنّ الإيمان الدينيّ يشكّل واحداً من أهمّ العوامل المؤثّرة والفاعلة في تعزيز الشعور بالأمان النفسيّ، والتخلّص من حالات القلق والاكتئاب، بل يمنح الإنسان شعوراً راسخاً بالتفاؤل والأمل، ويُمكّنه من تجاوز جميع أنواع الصعوبات التي قد تعترض مسيره وحياته، مهما كانت شديدة ومؤلمة.
كيف؟ نورد هنا ثلاثة عناصر أساسيّة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإيمان الدينيّ، وتبعث على الأمان والطمأنينة.
* أولاً: تحديد الهدف
لا شكّ في أنّ من أهمّ أسباب شعور الإنسان بالقلق والاضطراب والخوف، حالة الضياع التي قد يعيشها. ومن الواضح أنّ رسم المسار التكامليّ للإنسان على المستوى النظريّ يمثّل خطوة أساسيّة، تمكّنه من السير على درب النجاح في مقام بناء ذاته وتطويرها؛ فالتكامل والتطوّر في مختلف الميادين هو هدف كلّ إنسان، ولكن المشكلة الأساسيّة تكمن في تشخيص الهدف التكامليّ له، بالتالي، فإنّ أيّ خطأ في تحديد هذا الهدف، يعني السقوط في هاوية الضياع والعبثيّة، وهذا يفسّر الكثير من السلوكات المنتشرة بين الناس، فالأهداف التافهة والعبثيّة وغير المدروسة، تدفع بالإنسان إلى سلوك طريق مليء بالتفاهة والعبث، ثمّ يبدأ الشعور بالضياع، وقد يصل إلى مرحلة يفقد معها الشعور بالحاجة إلى البقاء على قيد الحياة، خاصّة إذا اعترضته بعض الظروف القاسية.
من هنا، فإنّ الدين يحدّد للإنسان مساره التكامليّ الصحيح، وهذا ينعكس بشكلٍ طبيعيّ على سلوكه العمليّ، فيكون سلوكه موصلاً دائماً إلى الهدف التكامليّ الذي رسمه الله للإنسان؛ فكلّ سلوك عمليّ إنّما يكون نابعاً من رؤية نظريّة، فإن كانت خاطئة ستوصله إلى سلوك عمليّ خاطئ؛ لذا، فإنّ الدين يمنح الإنسان رؤية نظريّة صحيحة، والإسلام بشكلٍ خاصّ يمنحه مساراً عمليّاً، يوفّر له مقتضيات التكامل في هذه الحياة.
* ثانياً: الإيمان بالآخرة
يؤكّد الخطاب القرآنيّ على الترابط الوثيق بين الدنيا والآخرة، بل نلاحظ مجموعة كبيرة من الآيات القرآنيّة قد خُصّصت لموضوع الآخرة، وقضيّة المعاد، وإخبار الإنسان مآله ومرجعه، والحياة الحقيقيّة بالنسبة إليه، بل شكّلت قضيّة المعاد إحدى أهمّ قضايا السور المكّيّة؛ إذ كان السؤال المطروح في بداية الدعوة الإسلاميّة هو: لماذا كلّ هذا الإخبار والتأكيد القرآنيّ على هذه القضيّة؟ وما هي أهميّة إخبار الإنسان بذلك؟
أ. بعث الأمل والطمأنينة: إنّ إيمان الإنسان بمرجعه إلى خالقه يبثّ فيه أملاً كبيراً، وطمأنينةً وانتماءً شديداً إلى الله، وهو بحدّ ذاته نقطة قوّة نفسيّة، تفعل فعلها في الإنسان، فيترتّب عليها كلّ الأهداف المتعلّقة ببناء حياته وسلوكه نحو الطاعة، وتصبح رؤيته إلى الحياة الدنيا مرتبطة بالحياة الأخرويّة، وليست منفصلة أو مستقلّة عنها، بل إنّ الترابط بينهما وثيق وشديد، يقول تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة: 25).
ب. تشخيص السعادة الحقيقيّة: الإيمان في الدنيا والعمل الصالح، يوجبان السعادة الأخرويّة والخلود في النعيم الأبديّ، ومن يمتلك مثل هذه النظرة إلى الحياة، فإنّه لن يشعر معها بالإحباط واليأس والقلق، فالحياة الدنيا إنّما هي ساحة للعمل الدؤوب لتحقيق التكامل الروحيّ والمعنويّ، حيث يراكم فيها الإنسان أعماله الصالحة، ناظراً إلى وعد الله تعالى له بالنعيم الأبديّ مقابلها. وبعبارة أخرى: فإنّ الدنيا هي مزرعة الآخرة. ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ (الإسراء: 19)؛ فالدار الدنيا دار السعي للآخرة، والحياة الأصيلة والمطلوبة هي الحياة الآخرة، والسعادة في الحياة الدنيا مؤقّتة، فمن يطلب الراحة والسعادة في هذه الحياة فسوف يكون عمله وسعيه هباءً منثوراً، يقول تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (القصص: 60).
فمهما كان ما يتمتّع به الإنسان الكافر من ثروات وأموال طائلة، فهي لا تساوي شيئاً في ميزان الحياة الآخرة، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (النور 39). أمّا المؤمن، فإنّه لن يتحسّر على ما يمتلكه غيره، فهو زائل لا فائدة فيه ما دام لا يقع في خطّ المسير الإلهيّ.
ج. الصبر عند الاختبار: إذا انطلق الإنسان في حياته من الرؤية القرآنيّة التي تحدد أنّ:
- الآخرة هي دار البقاء والخلود.
- الآخرة ترتبط بصلاح الدنيا.
- الدنيا دار ممرّ وليس بقاء.
- الدنيا دار اختبار وامتحان للإنسان.
- ما يحصّله الإنسان في الدنيا، لا يبقى لأثره شيء إلّا ما كان فيه طاعة لله.
- ما يخسره الإنسان في الدنيا لا أثر حقيقيّاً لخسارته، إلّا ما كان فيه طاعة لله.
فعندها، لن يشعر بالقلق أو بالإحباط مطلقاً مهما كانت الصعوبات ومهما كانت الخسارة التي وقع فيها في الدنيا؛ لأنّها زائلة على كلّ حال. وكثيراً ما يواجه الإنسان في حياته بعض الصعوبات التي تعيقه عن تحقيق بعض الأهداف، أو قد يقوم ببعض الأعمال سواء أكان على المستوى الفرديّ أم على المستوى الاجتماعيّ، ولكنّها لا تؤدّي إلى الغرض المطلوب، لذلك، فقد يشعر غير المؤمن بنوع من الانكسار أو الإحباط، أمّا المؤمن، فإنّه يرى ذلك نوعاً من الاختبار؛ لأنّه يعلم أنّه كلّما كان الاختبار أشدّ، كلّما كان العمل أفضل بالنسبة إليه، وعندها يكون أجره وثوابه الأخرويّ أفضل، وذلك بغضّ النظر عن النتيجة. لذا، فإنّه يبقى يستشعر الأمل والأمان والراحة، بل يزداد نشاطاً وحيويّة.
* ثالثاً: العقيدة المهدويّة
تشكّل القضيّة المهدويّة محوراً أساسيّاً في الوجدان الإيمانيّ لدى الشيعة الإماميّة، بل تعدّ قضيّة المخلّص من القضايا المشتركة في الوجدان الدينيّ العام. لكن حضور هذه القضيّة في الوجدان الشعبيّ عند الشيعة حاضر بقوّة، لذلك، فإنّ لهذه العقيدة تأثيراً كبيراً جدّاً على الناس باختلاف مستوياتهم وأعمارهم؛ فالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف هو أمل البشريّة بالخلاص من الظلم والجهل والحروب، وهو أمل الكبار والصغار. من هنا، فإنّ الاعتقاد الراسخ بأنّ النصر سيكون حليف المؤمنين، وأنّ الفرج والسلام سيعمّان البشريّة، سيجعل قدرة الإنسان على الصبر والصمود في وجه أعتى المصائب وأشدّ الحروب والبلاءات أمراً سهلاً؛ فمهما اشتدّت حروب الأعداء، ومهما كانت الخسائر كبيرة، فإنّ المؤمن سينظر إلى هذه الخسائر باعتبارها جولة من الجولات، ولكن الأمل يبقى معقوداً دائماً على اليوم الذي ينتصر فيه الحقّ على يديه عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ختاماً: الشعور بالأمان حاجة إنسانيّة ملحّة وضروريّة لا يستغني عنها الإنسان، ولا سبيل للحصول عليه إلّا بالتمسّك بالدين؛ لأنّه منشأ السعادة والأمان الحقيقيّين.