نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

صِلوا أرحامكم تسلموا


الشيخ د. محمّد أحمد حجازي


يقول الله تعالى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ (النساء: 36).

أكّد الدين الإسلاميّ على ضرورة إقامة علاقات اجتماعيّة ناجحة، خصوصاً فيما يتعلّق بصلة الأقارب والأرحام كالوالدين والإخوة والأخوات، والأعمام والعّمات والأخوال والخالات وغيرهم؛ لأنّ الارتباط الاجتماعيّ بالأقارب قبل غيرهم هو أمرٌ محبوب عند الله سبحانه وتعالى، وقد شدّد عليه قبل غيره، وجعل له آثاراً وضعيّة سواء في الدنيا أو الآخرة. وهذا ما أشارت إليه الآية الشريفة السابقة، إذ إنّها قدّمت ذا القربى بعد الوالدين على سائر التصنيفات الاجتماعيّة.


* الأرحام أولى بالصلة
صحيح أنّ الناس يشعرون بإرضاء ذواتهم حينما ينجحون في كسب الأصدقاء والجيران وزملاء العمل والدراسة وما شابه ذلك، إلّا أنّ الأثر النفسيّ المُرْضِي من جرّاء صلة الأرحام، والمشعر بالاستقرار والطمأنينة لا يدانيه شيء، ويكون أكثر تأثيراً في بناء شخصيّة إنسانيّة متوازنة، مفعمة بالقوّة والنشاط، وبرؤية أوسع للحياة، وبمنظار أقرب إلى الواقع.

فقبل أن يبحث الإنسان عن اكتساب الأصدقاء، فإنَّ الأجدر أن يحرص على وصل رحمه وأقاربه، الذين وصلهم الله به تكوينيّاً وتشريعيّاً، دون الحاجة إلى البحث عنهم وإيجادهم في معترك الحياة الاجتماعيّة؛ فهم موجودون وحاضرون دائماً.

* الأقربون أولى بالمعروف
وردت في القرآن الكريم آيات عدّة، ذكرت أولويّة الأرحام والأقارب، مثلاً في آيات من سورة النور التي تحدّثت عن رفع الحرج بالأكل من بيوت الأقارب، التي عدّدها سبحانه ورتّبها حسب القرب الرحميّ، ومن ثمَّ ذكرَ الأصدقاء، قال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ (النور: 61).

إنّ هذا الترتيب بتقديم الأرحام على الأصدقاء ليس عبثاً، إنّما أراد الله من خلاله تثبيت فكرة الهرميّة الاجتماعيّة، والغاية من ذلك ضمان التماسك الأسريّ الاجتماعيّ على مستوى العائلة الممتدّة، وتقديم أفرادها كأولويّة على غيرهم حتّى في الرعاية الماليّة، على قاعدة الحديث: "لا صَدقَة وذو رحم محتاج"(1).

* الروابط الرحميّة أمانُ النفس
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوّة: طالما أنّ الله سبحانه وتعالى خلقنا وجعلنا شعوباً وقبائل: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13)، وطالما أنّ الناس بالناس: "رُبَّ أَخٍ لَكَ لَمْ تَلِدْهُ أُمُّك"(2)، فلماذا ميّز هذه العلاقة الرحميّة عن غيرها في ظلّ إمكانيّة اتّخاذ الآلاف المؤلّفة من الإخوة والأصدقاء؟

والجواب يكمن في أنّ للعلاقات الرحميّة أهميّة كبيرة؛ لأنّها تساهم في تحقيق مجموعة أمور، نذكر منها:

1. إشباع الحاجات الاجتماعيّة: مع أهميّة مختلف العلاقات الإنسانيّة، إلّا أنّ العلاقات الرحميّة لها خصوصيّة لا يشبهها شيء على الإطلاق، وهي أنّها تُشبع الحاجات الاجتماعيّة عند الإنسان وتعطيه طاقة إيجابيّة وروحيّة لا يضاهيها أيُّ شيءٍ آخر؛ فالروح مهما كدّرتها مصاعب الحياة وابتلاءاتها، فإنّها إن وَصَلَتْ من يَقْرَبُها رحميّاً، تستشعر طعم الحياة وتجدّد نفسها؛ ولهذا كان الإمام علي عليه السلام يشدّد على هذا المفهوم ويأمر بلزوم إكرام العشيرة -أي الأرحام- وممّا قاله عليه السلام في هذا الصدد لولده الإمام الحسن عليه السلام: "أكرم عشيرتك، فإنّهم جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول"(3).

2. تبديد الخوف والغضب: إنّ الأثر النفسيّ والبدنيّ الذي ينتج عن التواصل الرحميّ، يبدّدُ الكثير من المخاوف، ويطرد الأوهام، ويُذهب الغمّ والحزن، ويُسكّن الغضب، فعندما يقع أحدهم في أمر مخوف، نجد أرحامه يستنفرون بطريقة عفويّة لإغاثته. ويبرز هذا في المجتمعات التي تولي اهتماماً لوحدة الأسرة. ويمكن توصيف صلة الأرحام بالدواء النفسيّ الذي تحدّث عنه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، منه ما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "فَإِنَّ الرَّحِمَ إِذَا مُسَّتْ سَكَنَتْ"(4). فلو فرضنا أنّ ثمّة مشكلة ما بين قريبَين، أو أنَّ أحد الأقارب قد أصابته مصيبة أو نزل به بلاء، فإنّه إن رأى بعض أقاربه ستهدأ نفسه وتسكن، وسيشعر ببصيص أمل ونور، ويُدفع عنه اليأس والوحشة.

3. إطالة العمر: ثمّة أثرٌ وضعيّ لصلة الرحم عبّرت عنه الروايات بإطالة العمر، فقد ورد في الأحاديث: "إنَّ صلة الرحم تنفي الفقر وتزيد في العمر"(5). وهي بحدّ ذاتها بركة عظيمة تدخل إلى أعماق النفس وتداويها.

4. الاستقرار النفسيّ: إنّ سرّ الاستقرار النفسيّ يكمن في عدم قطع الصِلات الرحميّة (الاجتماعيّة)؛ لأنّ ثمّة ترابطاً وثيقاً بين صلة الأقارب وبين استشعار السَّعادة والمناعة النفسيّة، وكذلك الشعور بالصلاح والنجاح والقدرة الشخصيّة على الانطلاق للحياة؛ لهذا ورد في الروايات التأكيد على هذا المعنى، كحديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من سرّه أن يُبسط في رزقه وينسأ له في أثره، [أي يطول عمره]، فليصل رحمه"(6)؛ فالعلاقات الرحميّة الطيّبة تقرّب عوامل السعادة والسعة في العيش، وتبعد عنه مقدّمات الشقاء أو الموت كالأمراض الجسديّة أو النفسيّة.

5. المرونة الاجتماعيّة: إنّ رؤية علم النفس الإسلاميّ لموضوع صلة الرحم تقوم على أساس تكوين الشخصيّة الاجتماعيّة المرنة، والبعيدة عن الانعزاليّة والانطوائيّة، وتؤكّد على تعميم هذه الفكرة على سائر أفراد العائلة الكبيرة، بحيث تتحوّل إلى طاقات روحيّة تعطي انطباعاً بالأمن والأمان، وتساعد على تحقيق المزيد من الإنجازات والاستحقاقات الدنيويّة والأخرويّة، وتورث أفكاراً سليمة للأبناء بضرورة التواصل الدائم والمبادرة إلى التفقّد الاجتماعيّ، وبشكلٍ خاصّ في حالات المرض والموت والفقر.

6. نجاح الشخصيّة الإنسانيّة: إنّ أحد شروط نجاح الشخصيّة الإنسانيّة الابتعاد عن الخلافات العائليّة وانشقاقاتها، سواء كانت في دائرة ضيّقة كالخلافات الزوجيّة والأسريّة، أم كانت في دائرة أوسع على مستوى الأقارب، القريبين أو البعيدين؛ فكلّما كان الشخص خالياً من تلك المشاكل، استطاع أن يتفرّغ أكثر لإتمام مهامه ومسؤوليّاته اليوميّة، بنفس آمنة ومستقرّة، ومليئة بالحماس والاندفاع نحو تحقيق المزيد من النجاحات المنشودة. ولأنَّ الشخصيّة السويّة المتوازنة هي التي تتأقلم مع الظروف الاجتماعيّة كافّة، وتستطيع أن تتجاوز الخلافات الصغيرة، وتطبّق مضمون الحديث المشهور: "يا علي، من مكارم الأخلاق ثلاثة: أن تصل من قطعك، وأن تعطي من حرمك، وأن تعفو عمّن ظلمك"(7).

* من آثار قطع الرحم
لو تخيّلنا الواقع على عكس ذلك، واتّخذ بعض الناس قراراً بقطيعة رحمه وأقاربه، فإنّه لن يجني إلّا الخسارة تلو الخسارة ماديّاً ونفسيّاً، وبعض هذه الخسارات:

1. قصر العمر: ورد أنَّ أحد أسباب تقصير العمر، والفناء العاجل قطيعة الرحم. وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ من الذنوب التي تعجّل الفناء قطيعة الرحم"(8).

2. اسوداد القلب: مضافاً إلى إشغال القلب بآثار القطيعة كقسوة القلوب، وتنمية التحاقد، والغلّ، وتوريث النزاعات للأجيال اللاحقة.

* أسباب السعادة الحقيقيّة
من الخطأ الفادح أن يعتقد المرء أنّ الاستناد إلى المال أو الجاه الاجتماعيّ، يمكن أن يغنيه عن أهله ومحيطه، ويحقّق له الثقة دون صلة رحم حقيقية دافئة، إنّما مع كلّ عوامل القوّة والمنعة، تبقى الحاجة الفطريّة لعلاقات رَحميّة سليمة غايةً لتكامل الشخصيّة الإنسانيّة. وهذا ما يميّز الإسلام الحنيف عن كثير من الأعراف والتقاليد، وبخاصّة الغربيّة منها، التي تفتقد إلى مثل هذه الأخلاق والمبادئ الاجتماعيّة، وتكثر فيها ظاهرة التفكّك الأسريّ، وما لها من انعكاسات على النفس، والشعور بعدم الاستقرار، وغياب الأمن الداخليّ النفسيّ، وتحريف صورة الأسرة وتجويفها من مظلّة الأم والأب، واللجوء أحياناً إلى ما يعوّض مثل هذه الخسارات بتربية الحيوانات الأليفة، والاكتفاء بها عن العائلة الحقيقيّة، واستشعار العاطفة النفسيّة منها.

* من نِعم الإسلام
إنّ الرحمة التي تربطنا بالأرحام، والتي تمتدّ للأسرة الصغيرة، هي من نعم الإسلام علينا. وقد يحصل أن يُبتلى الإنسان بأفراد من رحمه لا يتوافق معهم أحياناً، لكن ذلك لا يمنع من حصول أثر الرحمة عند التعاضد والمساندة، فلو حصل ما يشتت العلاقة تجدر المسامحة والغفلة عن الاخطاء؛ لأنّ خسارة الأرحام خسارةٌ عظيمة.


(1) العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 39، ص147.
(2) الشيخ الريشهري، ميزان الحكمة، ج 1، ص 38.
(3) العلّامة المجلسي، مصدر سابق، ج 71، ص105.
(4) الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 302.
(5) الشيخ الريشهري، مصدر سابق، ج 2، ص 1055.
(6) العلّامة المجلسي، مصدر سابق، ج 71، ص 89.
(7) الشيخ الكليني، مصدر سابق، ج 2، ص 107.
(8) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 12، ص 273.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع