السيد علي عباس الموسوي
ورد في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين: (أما حق أبيك، فتعلم أنه أصلك وأنك فرعه، وأنك لولاه لم تكن. فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك، فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، واحمد الله واشكره على قدر ذلك).
* الخلقة والتكوين سبب للحق
يبيّن الإمام السجاد عليه السلام أولاً سبب ثبوت هذا الحق للأب، منطلقاً في ذلك من سنة الحياة التي قضت بأن تكون استمرارية هذه الحياة تتوقف على وجود الزوجين، الذكر والأنثى. والأب هو أصل لهذا الولد من هذه الجهة. وهذا يُثبت له الحق، الذي ينبغي على الولد رعايته. أنظر إلى نفسك، فقد ترى أنك تملك ما يثير إعجابك من جمال أو قوة في الشخصية أو قدرات تكوينية. وفي كل ذلك، عليك أن تعلم أن أصل هذا كله يرجع إلى أبيك. هذا هو قانون الوراثة وقانون التربية. فالإبن يحمل من أبيه تلك الصفات التي تنتقل ضمن قانون الوراثة، من كرم أو شجاعة أو أخلاق حسنة. وكذلك الابن يحمل من أبيه التربية الصالحة. فما يرى الإنسان في نفسه من أخلاق حميدة، فإن الأصل فيها هو الأب الذي أحسن تربيته.
* حق الأب على الولد
لا شك في أن حق الأب على الولد هو من الحقوق العظيمة، انطلاقاً مما تقدّم من فلسفة هذا الحق، وانطلاقاً أيضاً من تلك العلاقة الخاصة التي يكنّها الأب لابنه، والتي عبّر عنها أمير المؤمنين السلام في وصيته لابنه الحسن بقوله: "وجدتك بعضي ، بل وجدتك كلي ، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني ، وكأن الموت لو أتاك أتاني ، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي"(1). فإذا كان هذا ما يكنّه الوالد لولده، فما الذي ينبغي على الولد أن يبادله به؟ تتحدث تعاليم الإسلام عن مجموعة من الحقوق للأب على الولد تتمثل بالتالي:
1-الطاعة
طاعة الأب فرض إلهي نصَّ عليه الكتاب الكريم في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ (الاسراء: 23). وعن الإمام علي عليه السلام: "إن للولد على الوالد حقاً، وإن للوالد على الولد حقاً، فحق الوالد على الولد أن يطيعه في كل شيء، إلا في معصية الله سبحانه"(2).
2- المعاملة باحترام
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله - لما سئل عن حق الوالد على ولده -: "لا يسميه باسمه، ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله"(3). ومن مظاهر المعاملة باحترام، ما ورد في الرواية عنه صلى الله عليه وآله: "من حق الوالد على ولده أن يخشع له عند الغضب"(4)، أي أن لا يقف بوجهه معانداً ومستكبراً. وهذا من مصاديق خفض الجناح بالذل. لقد شدد أئمة أهل البيت على ضرورة تربية أصحابهم على تلك الحالة من الاحترام والوقار مع الأب. ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "إن أبي نظر إلى رجل ومعه ابنه يمشي والابن متكئ على ذراع الأب، قال: فما كلمه أبي عليه السلام مقتاً له حتى فارق الدنيا"(5). بل ومن مظاهر المعاملة باحترام للأب، أن يبرّ الإنسان أصحاب أبيه، فإن ذلك برّ بالأب، كما ورد في الرواية عن الإمام الصادق: "ينبغي للرجل أن يحفظ أصحاب أبيه، فإنّ برّه بهم برّه بوالديه"(6).
3- لا تجرّ المسبّة إليه
ورد في الرواية عن رسول الله عند بيانه لحق الوالد على ولده: "ولا يستسب له". وذلك عندما يُقدم الولد على ارتكاب قبيح اجتماعي، من أكل مال الناس أو ظلمهم أو التعدّي عليهم، فإنّ في ذلك عقوقاً للأب، لأنّه سيدفع الناس إلى مسبّة الأب نتيجة ظلم الولد لهم. ومن ذلك ان يبادر إلى سب الآخرين، فيجلب المسبة إلى أبويه. ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "من الكبائر شتم الرجل والديه ، يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه"(7).
4- الشكر له
يحدد الإمام زين العابدين بعد بيانه لفضل الأب على الولد، وظيفة الولد بشكر الأب على ذلك الفضل. ويكفي في بيان ضرورة شكر الوالدين أن الله عز وجل قرن الشكر له بشكر الوالدين، فقال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ (لقمان: 14). وورد في الرواية عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: "إن الله عز وجل أمر بثلاثة مقرونة بها ثلاثة أخرى: أمر بالصلاة والزكاة، فمن صلى ولم يزك لم يقبل منه صلاته ، وأمر بالشكر له وللوالدين، فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله؛ وأمر باتقاء الله وصلة الرحم ، فمن لم يصل رحمه لم يتق الله عز وجل"(8). والشكر كما يتحقق بالقول، بأن يبادر باللسان الحسن والكلام اللطيف لشكر هذه الواسطة الإلهية في النعم التي تحيط به، يتحقق أيضاً بالفعل؛ ومن ذلك قضاء حوائج الأبوين. ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام - في قوله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ ـ: "الإحسان أن تحسن صحبتهما ، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين"(9).
5 -النصيحة له
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: يجب للوالدين على الولد ثلاثة أشياء: شكرهما على كل حال ، وطاعتهما فيما يأمرانه وينهيانه عنه في غير معصية الله ، ونصيحتهما في السر والعلانية(10). وتشمل النصيحة له، أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر إن كان ممن لا يرتدع عن ذلك، بالأسلوب الحسن الذي يحفظ فيه حق الأب. وهذا هو ما وردت الآية الكريمة به حتى مع فرض إصرار الأبوين على ما فيه معصية الله؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (لقمان: 15).
* حقٌّ لا يعوض
وورد في قصة البر بالوالدين أن شيخاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال له: إن ابني هذا له مال كثير، وإنه لا ينفق علي من ماله، فنزل جبرئيل فقال: إن هذا الشيخ قد أنشأ أبياتاً فاستنشدها منه، فاستنشده النبي صلى الله عليه وآله فأنشدها الشيخ:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً |
تعل بما أجني عليك وتنهل |
إذا ليلة نابتك بالسقم لم |
أبت لشكواك إلا ساهراً أتململ |
كأني أنا المطروق دونك بالذي |
طرقت به دوني فعيني تهمل |
تخاف الردى نفسي عليك وإنني |
لأعلم أن الموت حتم مؤجل |
فلما بلغت السن والغاية التي |
إليها مدى ما كنت فيك أؤمل |
جعلت جزائي غلظة وفظاظة |
كأنك أنت المنعم المتفضل |
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي |
فعلت كما الجار المجاور يفعل |
فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وقال للولد: "أنت ومالك لأبيك" (11).
(1) نهج البلاغة، الكتاب 31، (ومن وصية له للحسن بن علي عليه السلام).
(2) ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 4 ص 3678، الطبعة الأولى، دار الحديث، قم، 1416، هـ . ق.
(3) ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 4 ص 3678.
(4) ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 4 ص 3678.
(5) الكافي - ج 2 ،- ص 158 – حديث 1، الطبعة الثالثة، دار الكتب الإسلامية، إيران، 1388.
(6) بحار الأنوار- ج 71 – ص 196، مؤسسة الوفاء، لبنان، 1983.
(7) ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 4 ص 3677.
(8) مسند الإمام الرضا عليه السلام – جمعه وحققه الشيخ عزيز الله عطاردي - ج 1 ص 268، حديث 48، الناشر الروضة الرضوية المقدسة، مشهد، 1406 هـ . ق.
(9) ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 4 ص 3674
(10) تحف العقول- ابن شعبة الحراني، ص 322، نشر جماعة المدرسين، قم، إيران، 1404.
(11) السيد حسن القبانجي، شرح رسالة الحقوق - الإمام زين العابدين عليه السلام - ص 569، الناشر اسماعيليان، قم، إيران، 1406.