د.نانسي الموسوي
لعل أهم ما يميّز الإنسان عن باقي المخلوقات أنه يرتقي عبر عملية التربية، التي تتمثّل بالدرجة الأولى بالوالدين، ثمّ تتّسع الدائرة ليدخل في إطارها العائلة، ومع تقدّم الطفل بالعمر المدرسة والرفاق. الخ...
يواجه الوالدان أثناء عمليّة التّربية هذه عدداً من المشاكل، منها ما يتعلق بالأطفال (فروق فردية، اضطرابات سلوكية وانفعالية... إلخ)، ومنها ما يتعلق بالأهل أنفسهم كعدم معرفتهم الكافية بخصائص ومميزات أطفالهم في مختلف مراحل نموّهم، والطرق المناسبة للتّعامل معهم.
ولعل أكثر الإشكاليات المتكررة في اليوميات مع الأطفال، هو موضوع العقاب. والأسئلة التي يطرحها الوالدان في هذا المجال كثيرة: كيف يمكنني السيطرة على سلوك طفلي المشاغب؟ ما هي أساليب العقاب التي يمكنني استخدامها؟ هل أن الأسلوب الأفضل هو الضرب؟ وفي حال عدم ضرب الطفل ما هي البدائل العقابيّة الناجحة؟ وغيرها الكثير من الأسئلة.
لن نتطرّق في هذه الصفحات المعدودة إلى الآراء التربوية المؤيّدة أو المعارضة للضرب كأسلوب عقابي، بل إن المرجع الأساس بالنسبة الينا سيكون السنّة النبويّة الشّريفة لا سيما الحديث المنقول عن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الخصوص "لا تضربه، واهجره ولا تُطِل" ، وضوابط الشريعة الإسلامية الخاصة بتأديب الأطفال.
فإذا أمعنّا النّظر في الحديث الشريف وجدناه يتضمّن ثلاثة مبادىء تربويّة ونفسيّة تؤسّس للأساليب الممكن اللّجوء اليها في حالة تعديل السلوك.
*المبدأ الأول: "لا تضربه"
يكون بالابتعاد عن استخدام الضرب كأسلوب للعقوبة والتأديب، بمعنى آخر عدم اللجو إلى العقاب البدني ابتداءً إلا بعد استنفاذ الأساليب العلاجيّة الأخرى، وما أكدّت عليه الشريعة من مراعاة التدرّج في حال إيقاع العقاب البدني، وفق مراحل وخطوات محدّدة. وإذا أردنا الوقوف على سلبيات العقاب البدني فالضرب يؤدي بالطفل الى:
1. تدنّي تقديره لذاته وشعوره بالنقص.
2. سعيه إلى تفريغ الشحنة العدوانية، المتولدّة من تعرّضه للضرب، على الآخرين لا سيما الأصغر منه سناً أو الأضعف منه جسدياً.
3. حرمانه من فرصة اكتساب مهارات حلّ المشكلات والمواجهة.
ومع أن الضّرب هو أقصر الطّرق التي يتّبعها الأهل، إلاّ أنّ لجوءهم إلى الضّرب يحرمهم من بناء علاقات إيجابية مع أطفالهم، ومن توفير الفرص التي تساعد الأطفال على نموّ شخصيّاتهم بشكلٍ سويّ.
المبدأ إذاً، هو تحاشي أي تماسّ جسدي سلبي مع الطفل. والسؤال المطروح: ما البديل؟ كيف يمكن التأثير في سلوك الأطفال ودفعهم إلى التّخلّي عن السلوك غير السويّ؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة ننتقل إلى المبدأ الثاني في حديث رسول المولى عزّ وجلّ.
*المبدأ الثاني: "واهجره"
يلفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنايتنا وانتباهنا إلى الجانب المعنوي للنّفس الإنسانيّة. ومما لا شك فيه أنّ هذا النوع من العقاب هو أكثر وأبعد وأعمق أثراً في النفس من العقاب الجسدي. ذلك أن "مفعول" العقاب البدني ينتهي بمجرد وقوعه، فالمعادلة بالنسبة للطفل هي "قمتُ بفعل خاطىء ونلتُ نصيبي من العقاب وانتهى الأمر".
في المقابل، إن شعور الطفل بعدم رضا الأهل عن أفعاله من خلال "هجرانه" يمكن اعتباره أكثر جدوائية. والحديث هنا، يتمحور حول العقاب النفسي والمعنوي.
فما معنى "الهجر"؟
الهجر يعني التواصل مع الطفل بالحدّ الأدنى، أي يقتصر التواصل على العبارات الضرورية وفق أسلوب يميل إلى الجديّة، ما يدفع بالطفل إلى إعادة التفكير وإعادة النظر في أفعاله لكسب مودّة ورضا وقبول الأهل، والحفاظ على موقعه ومكانته لديهم. ولكن ماذا لو طالت مدة هذا "الهجر"؟ كيف سينعكس ذلك على الطفل؟
إنّ المطلوب هو "جرعة" متواضعة من إحساس الطفل بالذنب، ولكن لو زادت هذه الجرعة لكانت الآثار السلبيّة أكثر من الفائدة المرجوّة كالإحساس: بعدم الأمان، بالرفض لدى الوالدين وما يصحبه ذلك من القلق والتوتر، وبأنه دون مستوى توقعات الأهل: الخ. هذا ما يؤكّده لنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في "الضابطة" لهذا النوع من العقاب بما يحافظ على جدوائيّته.
*المبدأ الثالث: "ولا تُطِل"
أي استخدم هذا النوع من العقاب ذا البعد النفسي ولكن لمدة قصيرة (قد تمتد ليوم واحد أو يومين كحد أقصى) أو ربما ساعات قليلة وبحسب نوع الفعل وحدّة تكراره من ناحية، والعمر الزمني للطفل من ناحية ثانية. وبعدها استدع الطفل إلى اجتماع ثنائي أو ثلاثي وتناقش معه حول سلبيات وايجابيات الفعل الذي قام به، مساعداً إياه على الخلوص إلى القاعدة الواجب اتباعها. مع تذكير الطفل بأن حبّ الوالدين له هو من المسلّمات، وأن ما يزعج الأهل ويرفضونه هو الفعل وليس الطفل نفسه، بمعنى آخر عدم التهديد له بفقد حب والديه مهما كان الأمر. كما لا بد من التذكير بتجنب محاسبة الطفل على كل صغيرة وكبيرة، إذ إن بعض الأفعال قد لا يستلزم أكثر من تجاهلها. وهنا نستحضر بعض المفردات من رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام والمتعلقة بحق الصغير "... رحمته في تعليمه، والعفو عنه، والستر عليه،..." .
*كيف نربّي أبناءنا؟
كما لا بد لنا من الالتفات الى جملة من الأمور تتمحور حول الآتي:
1) الحرص على كون الأهل نماذج لأطفالهم للاقتداء بهم.
2) مراعاة خصائص كل طفل، والابتعاد عن تكليفه ما يفوق قدراته.
3) الابتعاد عن ذم الطفل أو وصفه بالصفات السيئة أو استخدام الألفاظ البذيئة أو المهينة.
4) النقاش والتحاور مع الأطفال ومحاولة تفسير الأمور لهم، ما يساعد على نموّ قدراتهم العقليّة والنقديّة ويجنّبهم الوقوع في المشاكل. كما يساعد الحوار على التقرّب من الطفل وتفهّم مشاعره والتعرّف على مخاوفه ورغباته.
5) الحرص على تشجيع الطفل وتحفيزه، من خلال التركيز على نقاط القوّة لديه .
6) الموازنة بين نوعي المكافآت الماديّة والمعنويّة، مع التّركيز على النوع الأخير.
7) التذكّر دائماً أنّ السلوك غير السويّ للطفل قد يكون سببه الأهل أنفسهم (مقارنة الطفل بغيره وشعوره بالغيرة، أو الإهمال غير المقصود، أو كون مستوى توقّعاتهم تفوق مستوى قدرات الطفل... إلخ).
8) قد يكون هدف الطفل من سلوكه غير السوي هو مجرّد لفت النظر إليه، والعلاج في هذه الحالة سهل جداً ويقتصر على إعطاء الطّفل حقه من الرّعاية والاهتمام.
9) توثيق العلاقة بالمولى سبحانه وتعالى على أنه الجميل والرّحيم الذي يحب عباده، وأنه جلّ جلاله يحب أن يرانا بأحلى صورة. والمعيار السلوكي بالنسبة لنا وللطفل هو مدى قبول المولى تبارك وتعالى للعمل أو السلوك الذي نمارسه.
10) في السياق نفسه، فإن الاستعانة بالنماذج مفيدة جداً، ولا سيما الاستعانة بقصص الأنبياء والأئمة عليهم السلام وردود أفعالهم في المواقف المختلفة.
في الختام، وكما نقول دائماً: إن تربية الأطفال ليست عملاً سهلاً، وإنما تتطلب الكثير من الصّبر والجهد والوقت. كما نشير إلى أننا نتعلّم كيف يمكن أن نكون أمهات وآبآء صالحين.