مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

من متى وكيف نستشير؟

الشيخ محمد توفيق المقداد*

 



قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ (آل عمران: 159)، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( الشورى: 38). وردت مسألة الشورى بوضوح في هاتين الآيتين وفي غيرهما من آيات القرآن. وهذا يدل على أهميتها؛ لأن الإنسان مهما كان عاقلاً ومدركاً وحكيماً وواعياً ومدبراً، فإنه لا يستطيع الاستغناء عن استشارة الآخرين وأخْذ رأيهم. وسبب عدم استغناء الإنسان عن الاستشارة هو أن العقل الفردي مهما كان واسعاً في أُفُقه ومعلوماته وتجاربه فهو لن يستطيع الإحاطة بكل ما يحتاج إلى معرفته مما له علاقة بحياته، ولذا نجد أن الاستشارة منتشرة بكثرة في أوساط المجتمعات الإنسانية.

* في القرآن الكريم
أعطى الإسلام هذه المسألة أهمية ودوراً وموقعاً في منظومته التشريعية والعلمية، فقد ورد في القرآن الكريم نماذج عن الاستشارة العملية، كما في كلام بلقيس ملكة سبأ عندما وردها خطاب من النبي سليمان عليه السلام حيث قالت: ﴿مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ*قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (النمل: 32 33)، وكذلك عندما حضر النبي موسى عليه السلام ومعه أخوه النبي هارون عند فرعون مصر وأظهر لهما الآيتين من الله عزّ وجلّ، استشار فرعون كبار معاونيه فأشاروا عليه بإحضار السحرة من كل أرض مصر لمنازلة النبي موسى عليه السلام ليغلبوه في عمل السحر الذي كانوا يمارسونه. وقال تعالى في ذلك: ﴿قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ*يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ*قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ*يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (الأعراف: 109ـ 112).

ولكن من نستشير؟ وكيف؟ ومتى؟ هذا هو الأمر المهم في مسألة الاستشارة؛ لأنها نوع من طلب النصيحة من الآخرين للاستفادة من آرائهم وإرشاداتهم ونتائج تجاربهم في الحياة. وعندما يستشير الإنسان الآخرين فهو يفعل من أجل توسيع دائرة معلوماته حول الأمر المنوي فعله أو القيام به، وتوسيع الآفاق حتى تتوضح الصورة لديه أكثر فيقوم بالعمل وهو في حالة من الاطمئنان والاستقرار. والاستشارة لا تدل على ضعف عقل المستشير بل تدل على رجاحة عقله ورزانته، بعكس الذي لا يستشير ويعمل انطلاقاً من ذاته فقط حيث يتصور أنه قادر على القيام بأي عمل دون مشورة أحد وقد يقع في شرّ أعماله لأنه وضع نفسه في موضع العارف والعالم والمستبد برأيه، وهذا هو ضعف العقل وعدم رجحانه.

* من نستشير؟
لا بد أن نستشير الإنسان العاقل العارف الأمين والخبير بما نحن مقدمون عليه، لأن العاقل لن يعطيك رأياً سفيهاً والعارف لن يعطيك رأياً مرتجلاً والأمين لن يعطيك رأياً يضرك والخبير لن يعطيك رأياً مغايراً لخبرته وتجربته، وهذا ورد في الأحاديث والروايات حول من يجب أو ينبغي أن نستشيرهم، ومن تلك الأحاديث:
1ـ ورد عن الإمام علي عليه السلام: "شاور في حديثك الذين يخافون الله" (1).
2ـ وعن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: "استرشدوا العاقل، ولا تعصوه فتندموا"(2).
3ـ وقال الإمام علي عليه السلام: "أفضل من شاورت ذو التجارب"(3).
4ـ وعنه عليه السلام: "خير من شاورت، ذوو النهي والعلم وأولو التجارب والحزم"(4).

فالواضح من هذه الأحاديث أن المستشير ينبغي أن يستشير من تكون فيهم الصفات التي تدل على رجحان العقل وسلامة التصرف والاتزان في القول والعمل وأن يكون المستشار من أصحاب التجارب لأنه أقدر على إعطاء الرأي السديد والقول الرشيد، وأن يكون أميناً لا يوقع المستشير في الخطأ والانحراف، وأن يكون قبل كل هذا ومعه ممن يخافون الله ويخشونه، لأن خوفه من الله يدفعه لأن يمحض المستشير النصيحة الجيدة التي تبرئ ذمّته أمام الله عزّ وجلّ.

* لا تشاور الأحمق
ونجد في المقابل أن الإسلام قد نهى عن استشارة أصناف أخرى من الناس لدواعٍ عديدة، كما يظهر ذلك في أحاديث أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام:
1ـ في كتاب الإمام علي عليه السلام للأشتر عندما ولّاه مصر: "... لا تدخلنَّ في مشورتك بخيلاً يخذلك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعف عليك الأمور، ولا حريصاً يزيّن لك الشَّرَه بالجور..." (5).
2ـ "لا تستشر الكذّاب، فإنه كالسّراب، يقرِّب عليك البعيد، ويبعِّد عليك القريب"(6) الإمام علي عليه السلام.
3ـ "لا تشاور أحمق، ولا تستعن بكذاب، ولا تثق بمودَّة مَلُول..." (7) الإمام الصادق عليه السلام.

ومن الواضح من صفات هؤلاء المنهي عن استشارتهم أنهم ليسوا أسوياء من الناحية العقلية والأخلاقية، لأن البخل والجبن واللجاجة والحمق من صفات غير العاقلين، وهؤلاء قد يوقعون الإنسان في الأخطاء بحق نفسه أو بحق الآخرين أو الاثنين معاً، لأن آراءهم ليست ناتجة عن عقل راجح ورأي سديد وتصرف رزين ومحترم. والأفضل في باب الاستشارة أن يختار المستشير أصدقاءه المقربين منه والمخلصين له، لأنه من جهة ثقته بهم وقربهم منه وقربه منهم لن يخونوه أو يشيروا عليه بغير ما فيه مصلحته ومنفعته، ولأن الصديق خصوصاً إذا كان مجرباً صادقاً هو خير معينٍ ونعم السند في هذا المجال، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في ذلك: "... أن يكون صديقاً مواخياً..." (8).

* كيف نستشير؟
أما عن كيفية الاستشارة، فالإسلام لم يحدد طريقة معينة أو أسلوباً خاصاً في هذا المجال، إذ إن هدف الاستشارة الوصول إلى وضوح الرؤية عند المستشير في الأمر المُقْبِل عليه حتى يسير بخطى ثابتة وواثقة في الأمر الذي استشار فيه. وهذه الرؤية الواضحة قد تتحقق باستشارة فرد أو فردين أو جماعة تكثر أو تقل للوصول إلى الغرض المنشود. وكيفية الاستشارة راجعة إلى حساسية الموضوع ودقته وأهميّته للمستشير، فإن كان الموضوع خطيراً وله تداعيات مهمة ومؤثرة فمن الأفضل استشارة مجموعة من ذوي العقول الخبيرة والبصيرة، وإذا كان الموضوع عادياً فتكفي استشارة عدد قليل كل واحد على انفراد للاستنارة بآرائهم.
وفي مطلق الأحوال فالكيفية تحددها المواضيع المطروحة للاستشارة، وهذا ما يفعله الأفراد عادة كما هو الملاحظ، بل حتى الدول تتشاور فيما بينها في الموضوعات الخطيرة، لأن الاستشارة لا تختص بعمل الفرد فقط، بل تشمل عمل الجماعة والعائلة والقرية والمدينة والدولة والأمة وفق معايير تعمل بها الناس وفق الموضوعات المطروحة للتشاور والنقاش.

* متى نستشير؟
أما عن وقت الاستشارة فهو يكون عادة قبل الشروع في العمل المنوي القيام به، لأن الاستشارة بعد العمل لا قيمة لها ولأنها لن تغير من واقع ما حدث. نعم بعد العمل الاستشارة قد تؤدي إلى التوقف عن استمرار الخطأ أو الرجوع عن الانحراف إن كان المستشير قد أخطأ فيما فعل بدون الاستشارة. ولا بد هنا من لفت النظر إلى مسألة مهمة وهي أن هناك أمراً قبل الاستشارة وهو "الاستخارة" بمعنى أن يتوجه الإنسان إلى ربه أولاً ليستخيره فيما يريد أن يفعل. ومعنى الاستخارة هنا هي استشارة الله عزّ وجلّ الذي لا يبخل على عبيده المؤمنين بالنصيحة الصادقة وفق نية العبد وتوجهه الإيماني والعقائدي، ولذا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أردت أمراً فلا تشاور فيه أحداً حتى تشاور ربك، قال الراوي: قلت له: وكيف أشاور ربي؟ قال عليه السلام: تقول: أستخير الله مائة مرة، ثم تشاور الناس، فإن الله يجري لك الخيرة على لسان من أحب" (9). فهذا الحديث يتضمن إشارة ربانية لطيفة جداً ومؤثرة لأن الإنسان عندما يلجأ إلى ذلك القول "مائة مرّة" مستنداً إلى ثقته بربه وتوكله عليه، فإن الله عزّ وجلّ سيفتح أمامه باب استشارة أناس يُجري الحق مع ألسنتهم فيعطونه المشورة التي تفيده وتنفعه وهذا ليس على الله بكثير وهو الذي يعلم السر وأخفى.

* حق المستشير
بقي أن نشير إلى أمور مرتبطة بالاستشارة. خصوصاً لجهة المستشار الذي نطلب استشارته فهذا الإنسان ورد في حقه من الأحاديث ما يدل على أهمية فعله ودوره في مجال تسديد الأعمال وتصحيح الأفعال لأنه مؤتمن، والمؤتمن لا ينبغي، بل لا يجوز له أن يخون من يلجأ إليه طلباً للاستشارة، ومما ورد في حق المستشير:

1ـ عن الإمام علي عليه السلام: "إرشاد المستشير قضاء لحق النعمة" (10).
2ـ عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "تصدقوا على أخيكم بعلم يرشده ورأي يسدّده" (11).
3ـ ورد عن الإمام السجاد عليه السلام: "حق المستشير إن علمت أن له رأياً أشرت عليه، وإن لم تعلم أرشدته إلى من يعلم"(12).

وهذه الأحاديث تدل على أهمية التناصح والتعاون والتكامل بين أفراد المجتمع الإسلامي الذي يريده الله مجتمعاً واعياً عالماً منفتحاً على الحياة بكل ما فيها من تفاصيل ومجريات وسلوكيات وأعمال. وعندما تكون الاستشارة صادقة ومخلصة فيما بين أفراد مجتمع المسلمين فهذا سوف يعود بالنفع على كل الأفراد والجماعات التي يتألف منها المجتمع الإسلامي. والاستشارة لذوي الخبرات والتجارب والعقول النيرة هي بمثابة العلم قبل العمل، فإذا علم الإنسان ثم عمل لم يخطئ في عمله، وإذا أخطأ فيكون حينذاك بشكل غير مقصود، وكذلك المستشير إذا عمل بعد الاستشارة فهو سوف يكون عالماً بما هو مقدم عليه، أما إذا عمل من دون الاستشارة فهو قد يقع في الخطأ نتيجة تقصيره وإهماله.


(*) مدير مكتب الوكيل الشرعي العام للإمام الخامنئي "دام ظله" في لبنان.
(1) المحاسن، البرقي، ج 2، ص 601.
(2) أمالي الشيخ الطوسي، ص 153.
(3) عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي، ص 123.
(4) مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 8، ص 343، ح 9613/8.
(5) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 3، عهد الأشتر، ص 87.
(6) عيون الحكم والمواعظ، م. س، ص 525.
(7) تحف العقول، الحراني، ص 316.
(8) المحاسن، م. س، ج 2، ص 602، ح 28.
(9) مكارم الأخلاق، الطبرسي، ص 318.
(10) ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1527 عن تحف العقول.
(11) عدّة الداعي، ابن فهد الحلي، ص 63.
(12) من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج 2، ص 624.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع