طارق قبلان*
لم يصبحِ العالم اليوم قريةً صغيرةً، كما لن يغدوَ في
المستقبل تلك القرية التي تحدّث عنها "ماكلوهان"، والتي تصوّرها قريةً بعلاقاتها
الداخليّة، لا قريةً بمسافاتها القصيرة. فالقرية العالميّة المزعومة راهناً، والتي
أضجر الحديثُ عنها جماهير النّاس، ليست القرية المتصوّرة والمنشودة حقّاً، وإن زعم
النّاس وبعض العلماء ذلك، ونسبوا الفضل فيه إلى وسائل الإعلام الجماهيريّ ووسائطه
المتعدّدة.
فوسائل الإعلام الجماهيريّ لم تقُم بدورٍ حاسمٍ على هذا الصعيد، وهي على
ذلك لم تستطع منع المسار الحداثيّ من تحويل القرية واقعاً نتيجة التطوّرات المدينية
والتقنيّة إلى مدينةٍ حقيقيّةٍ ببنيتها، وقيمها، وعلاقاتها، ونُظُم اتصالاتها،
وتواصلها. وقد أصبح من الضروري لأفراد "قرية اليوم" وأبنائها اتّباع الطرق المعقّدة،
من أجل تحقيق التواصل الاجتماعيّ والتبادل فيما بينهم، في ظلّ الحاجة الملحّة
لتأمين التوازنات الاجتماعية والضمانات القانونيّة لضبط الحراك الاجتماعيّ، ومنع
القوى الراغبة في الهيمنة والتّسلط من استتباع النّاس وعموم الشعب. وفي وسط اجتماعٍ
ينحو مدينيّاً وحداثويّاً، غدت الوسائل الإعلاميّة جزءاً كيانيّاً من "القرية
العالميّة" المزعومة، ونُسبت إليها أدوارٌ متعدّدةٌ لتضطلع بها في المتاهة العظيمة
للحقيقة الإنسانيّة. يمكننا هنا تسجيل عجز الوسائل الإعلاميّة الجماهيريّة الدائم
عن القيام بأدوارها المفترَضة، نتيجة التوازنات الاجتماعيّة، وجنوح السلطة نحو
الاستئثار بالقوة، وفرض رأيها ونظرتها على الجماهير، مستخدمةً وسائل الاتصال
والتواصل، في ظلّ انعدام قدرة الفرد والجماعات المضادة للسلطة على مواجهة الفرض
والهيمنة.
* وسائل الإعلام الجماهيريّ وخاصيّة الأثر التراكميّ
والثابت في علم وسائل الاتصال الحديثة أنّها تتغلغل في طيّات العقول وثنايا الفكر
رويداً رويداً، في عمليةٍ دقيقةٍ لترسيخ المفاهيم، وتشكيل العقول البشريّة، ومنطقها
الاجتماعيّ العام، والسياسيّ على وجه الخصوص؛ فلا هي تقف في وجه الجماعات معترضةً
سبيلهم المرسوم، ولا هي تنثني وتتركهم لسبيلهم، وإنّما تتسلّح بكلّ دورٍ من أدوارها،
وبكلّ مادّةٍ من موادها المتنوّعة والمختلفة، من أجل الإيغال بعيداً في بنية العقل
الفرديّ والجمعيّ، ومن أجل تطويعه وبرمجته، حيث لا ينفع معه أمٌّ ولا أبٌ ولا شيخ
الكتّاب.
* أدوار وسائل الإعلام الجماهيريّ المختزلة
يقرّر علماء الإعلام والاجتماع أنّ وسائل الإعلام الجماهيريّ لها دورٌ ثقافيّ،
يشكّل امتداداً للحياة الثقافيّة، وتجليّاً حديثاً لها، إلى جانب الدور التعليميّ
والاقتصاديّ والاجتماعيّ والترفيهيّ والسياسيّ، ما يجعل الوسائل الإعلاميّة
الجماهيريّة نوعاً من القيادات الفاعلة في المجتمعات الحديثة، رغم تركيبة تلك
الوسائل الخادعة. والوسائل الإعلاميّة عبارةٌ عن رأسمال نقديّ وكتلةٍ بشريّةٍ،
يتحكّم بهما فردٌ أو مؤسّسة سلطويّة، تتموضع في أبنية المجتمع المدني، وتسعى إلى
السيطرة. بناءً عليه، تتخفّف الوسائل الإعلاميّة ومَن وراءها من الأعباء المفروضة
عليها، وتتجه، عبر أقصر الطرق، إلى الهدف السياسيّ الخاص بالمموّل، مختزلةً بذلك
أدوارها المتعدّدة، ومسخّرةً مضامينها وجهودها في ذلك السبيل.
* المدنيّة الحديثة وإشكاليّاتها
في "القرية العالمية" اليوم، حيث يسود النموذج الاجتماعيّ الغربيّ، لم تصِر
المجتمعات إلى ما صارت إليه عفوَ الخاطر، ولا خبطَ عشواء، وإنّما استهلكت عقوداً من
الزمن وقروناً من أجل الوصول إلى مرحلة التبلور، في طريقها إلى ما لا يعلمه أكثر
النّاس. "فالقرية العالميّة" نتيجة من نتائج التطوّر المدني الغربيّ، بما
يحويه ويحتوي عليه من ثوراتٍ صناعيّةٍ وهندسيّةٍ وفكريّةٍ واجتماعيّةٍ، مأزومةٍ في
حينٍ، ومنطلقةٍ في أكثر الأحيان، فيما النماذج المقابلة لا زالت تتعثّر وتدّعي،
وتقاوم وتنثني، ولم تهتدِ إلى نهضةٍ نقيضةٍ لتلك الموسومة غربيّاً. وعلى الدوام،
أدّت وسائل الإعلام الجماهيريّ في مجتمعات الحداثة الغربية دوراً مركزيّاً في
التواصل الاجتماعيّ والمعرفيّ.
وكانت الإشكاليات التي تعترض دور الإعلام وتعالجه
ضئيلةً على مستوى واقع البلدان الغربية المتقدّمة، فيما الإشكاليّات الحقيقيّة قد
طُرحت تأسيساً على الفجوة العلميّة والمعرفيّة والماديّة، بين الشمال الغربيّ الغنيّ
والجنوب الشرقيّ الفقير. وربّما مَن طرحها هم أبناء الغرب، الذين ينطلقون من
حداثتهم المعرفيّة إلى نقد تلك الحداثة ونقد عدالتها وإنسانيّتها، فيما أبناء الشرق
والإيديولوجيّات "المقاتلة" يستسلمون لتوهيماتٍ وأحلامٍ، لا تملك في واقع الأمر
إلّا مفعولاً "تخديرياً" دون مضمونٍ معرفيٍّ صلبٍ. ومن تلك الإشكاليّات التي تُطرح
على الإعلام ووسائله اليوم، المتعدّدةِ الوسائط، تلك المتعلّقةُ بأدوار الإعلام،
سواء أكانت الأدوار على المستوى النّظريّ أم العمليّ؛ تلك الأدوار الملتبسة التي
تُختزل في كثيرٍ من الأحيان في بعدها السياسيّ، وتضمحلّ أدوار الإعلام الجماهيري
لتخدم عمليّة استتباعيّة، يقوم بها متغلّبٌ أو جماعةٌ من المتغلّبين الراغبين بقهر
المجتمع وقواه المختلفة. إلا أنّ الإعلام المنتمي إلى السلطة لا إلى المجتمع وجموع
الشعب، ينفلت من أدواره كافةً، القائمة أساساً على التنوير، ليمارس دوراً تضليليّاً
في عمليّة الاستتباع للسلطان، من خلال توجيه رسائل السلطة إلى الشعب، لا إعلام
الشعب، ومن خلال الكمّ المعلوماتيّ الذي يقضي على القدرة النقديّة في الأوساط
الاجتماعيّة المختلفة.
* الدفق الإعلامي والسيطرة على المجتمع
وفي هذه القرية المدينة، التي تُشكّل وسائل الإعلام الجماهيريّ عقلها ومعدتها،
والتي ينتظم فيها كمٌّ من النّاس ويتبعثر، يتضوّر الأفراد فيها جوعاً إلى المعلومة
والمعرفة، وسط دفقٍ من المعلومات، يكاد يكون سيلاً، لا بل هو سيلٌ حقيقيٌّ، لا يدع
مجالاً للتّنفّس الفكريّ، ولا الاجتماعي... فيُشكّل الدفق الإعلامي جزءاً من مادّة
السيطرة على المجتمع ومكوّناته، وسط عجزٍ وشللٍ اجتماعيين عن مباشرة النقد، أو
المواكبة النقديّة للدفق الإعلاميّ، خصوصاً وأنّ العمليّة النقديّة ذات سيرٍ بطيءٍ،
فضلاً عن احتياجها إلى مساحاتٍ زمنيّة اجتماعيّة من أجل بلوغها الغاية العلمية
وتحقيق نتائجها المرجوّة. إلى ذلك يترافق الدفق الإعلاميّ مع طاقم تحريريّ، لا يملك،
في غالب الأحيان، بنية علميّة أو فكريّة متماسكة، إنّما يكون في معظم الأحيان فريقاً
مؤدلجاً أو مسترزقاً، وعلى خفّةٍ في التفكير والطرح، ودون قدرةٍ على الإحاطة
بالموضوعات المثارة إعلاميّاً، وليس لأولئك الإعلاميين من همٍّ لهم سوى رمي الخصم
بالتّهم أو الجري وراء ما يُرمى في سوق التداول الإعلاميّ، حتى وإن كان ما يتمّ
تداوله بعيداً عن بيت القصيد، وعن حقيقة القضيّة المطروحة، أو أنّ ما يُتداول يتمّ
تداوله من زاويةٍ لا تخدم النّاس ولا تقدّم لهم الحقيقة كما هي. ولا يقف الأمر عند
هذا الحدّ، بل يتعدّاه بزيادة مستوى التجهيل في الأوساط الاجتماعيّة، عبر الاستعانة
بمن يُوصفون بـ "الخبراء والمحلّلين"، فيما هم لمن يعلم حقيقتهم ليسوا سوى مجموعاتٍ
منتحلةٍ لصفاتٍ لا يُعاقب على انتحالها القانون، رغم أثرها السلبيّ على معارف
الجمهور، الذي يركن إلى معلوماتهم. ثمّ ترى في مناسبات أخرى حاجة الوسائل
الإعلاميّة إلى فريقٍ دعائيٍّ جديدٍ فتعمد إلى تبديل بسيط في الصفات وعناوين
التعريف، فتطلق على أولئك الأشخاص صفات، وتدّعي لهم خبراتٍ ليس لهم منها نصيب...
وربَّ محلّلٍ ليس له من التحليل حظٌّ، ولم يشهد من وقائع الحوادث التي يحلّلها حدثاً
قطّ، وربّما لا يدري تفاصيل الموضوع الذي يتحدّث بشأنه، لكنّه صحّ في المحلّل
الخبير وجمهور الوسائل الإعلاميّة مضمون الحكمة الفرنسيّة القائلة: "إن ضعيف العقل
يجد دائماً من هو أضعف منه ليُعجبَ به".
* الواقع المرير
ثمّ إنّ الواقع الوظيفي للمحرّرين في الوسائل الإعلاميّة يخضع لسلطة رأس المال، فلا
يملك الأفراد في تلك الوسائل أيّ موقع قوة في مقابل رأس المال، الذي لا يبحث عن
الاختصاص والكفاءات، إنّما بحثه يتركّز على الأفراد الذين ينفّذون استراتيجياته،
ويبثون الرسائل المفضّلة لديه. والأنكى أنّ المحرّرين في الوسائل الإعلاميّة
لا يعلمون حقيقةً لدى من يعملون، ومن يمتلك أسهم المؤسّسة، ومن يموّلها، وحقيقة
أهدافها ومشروعها. ويُشار في هذا المجال إلى أنّ الإعلام الذي ينتشر في مجتمعاتنا
بسبب فقره المضمونيّ يلجأ إلى وسائل دعائية، يُطلق عليها تجاوزاً وادعاءً اسم
الإعلام، وذلك على قاعدة الدّعاية الهتلرية أو الدعاية السوفياتية، حيث اعتماد
الأولى على التّكرار، حتى في حال بثّ الأكاذيب، فيما اعتماد الدّعاية السوفياتيّة
تجلّى في احتكار المعلومات وبسط الهيمنة على الرقعة الجغرافيّة الخاضعة لسلطة تلك
الأنظمة، ما يؤدّي إلى تركيز الفكرة المطلوبة وتثبيتها في عقول المتلقين، دون
اهتمامٍ يُذكر في مؤدّاها، ونتائجها البعيدة، والتراكم الذي يحصل منها، وما يمكن أن
يُبنى عليها من بنيان معرفيّ. لكن يغيب عن القائمين على أمر الإعلام في مجتمعاتنا
أنّ إعلام الاستتباع لا بدّ وأن يأتي اليوم الذي تتحلّل فيه النخبة منه ومن سلطانه،
وتبحث عن مشروع يُرضي حاجتها و"جوعها" المعرفيّ، ويؤمّن لها استقراراً فكريّاً، على
غرار ما حصل في التجارب السياسية والاجتماعيّة والعسكرية تاريخياً، كذلك في العصر
الحديث، كما تفاعل أبناء أفغانستان مع الوسائل الموجّهة من الجهات الإيرانيّة
والباكستانيّة والعربيّة لمواجهة السلطة الخاضعة للسوفيات، وكما يفعل أبناء فلسطين
المحتلة مع القنوات العربيّة المناصرة لقضيّتهم، إلى أن ينتهي الأمر بسقوط الوسائل
الإعلاميّة وأدوارها، ويسقط معها نموذجها الاجتماعي الذي يحميها ويتبنّاها وتتكلّم
باسمه وتمثّله.
(*) إعلامي