نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

من القلب إلى كل القلوب: مكة والمدينة والتكليف الحسيني


سماحة السيّد حسن نصر الله(حفظه الله)


سنتناول في هذا المقال الهجرة النبويّة إلى المدينة المنورة، وربطها بما جرى في كربلاء على الإمام الحسين عليه السلام، وموقف أهل مكة والمدينة والكوفة من التكليف الحسيني.

* هجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة
حينما قرّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يغادر مكّة المكرّمة، عرض صلى الله عليه وآله وسلم على جماعة من أهل المدينة أن يهاجر إليها لتكون هي الموئل الجديد لدعوته، فاستجاب أهلها له، وآمنوا به، وذلّلوا له الأسباب، فتشكّلت فيها بيئة حاضنة له ولمن معه، وأصبحت مستعدّة لأنْ تكون قاعدة الانطلاق الكبرى.
كان لهذا الولاء من أهل المدينة تجاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتصارهم له صلى الله عليه وآله وسلم نتائج وبركات كبيرة وعظيمة جدّاً. وقد بدأ عنوان "الأنصار" من المدينة؛ لما قدّمته هذه المدينة من التزام وولاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانتصار لقضيته، وتحملها للمسؤوليّة وقبولها للتحدّي. ولا نتحدّث هنا عن النتائج الأخرويّة وما أعدّه الله سبحانه وتعالى لمن آمن وهاجر وجاهد ونصر وآوى، بل عن النتائج الدنيويّة لهذه المواقف.

* البركات الدنيويّة على المدينة

لم تكن المدينة، في حال حسنة، لا من حيث الموقع، ولا من حيث الأهمية، ولا من حيث أوضاعها الداخلية، والأمنية، والسياسيّة، والاقتصادية، بل كانت بلدة تعيش الكثير من الإشكاليات في ذلك المجتمع، لكنّها حينما آمنت بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ونصرتْه واحتضنتْه، وكانت مستعدّة للتضحية إلى جانبه، أُنزلت عليها وعلى أهلها بركات دنيويّة عظيمة جدّاً. فقد أصبحت يثرب مدينةَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومحور الاهتمام في شبه الجزيرة العربية، بل عاصمة الدولة الإسلاميّة الفتيّة في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولعشرات السنين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأصبحت محور الاهتمام الثقافيّ، والفكريّ، والدينيّ، والسياسيّ، والعسكريّ، والاقتصاديّ والاجتماعيّ أيضاً، وأصبحت محطّ رحال الآتين من أطراف شبه الجزيرة العربيّة وأنحائها، ومركزاً للعلم، والثقافة، والإشعاع الإسلاميّ والدينيّ والقرآنيّ، ومركز الحوار مع أتباع الديانات الأخرى، وثبّت فيها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم السلام الداخليّ بين الأوس والخزرج والمهاجرين، وانتهت الهيمنة الفكريّة لليهود، وانتهت بمرور الوقت -كذلك- هيمنتهم الماليّة والاقتصاديّة، وأصبحت المدينة مركز الانطلاق والتحوُّل على مستوى شبه الجزيرة العربيّة والمنطقة، بل العالم كلّه.
ومضافاً إلى ذلك، حظيت المدينة باحترام كبير بين الناس، وقد شرّفها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكّة، حيث عاد صلى الله عليه وآله وسلم ليعيش فيها ما تبقّى من حياته، وبذلك بقي للمدينة قيمتها المعنويّة الخالدة إلى يوم القيامة؛ بسبب مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقبره الشريف.
أُنزلت هذه البركات والنتائج الدنيويّة على المدينة وأهلها؛ نتيجة لالتزامهم بتكليفهم الإلهيّ الشرعيّ، وقيامهم بمسؤولياتهم الشرعيّة، والتي لم تقتصر على إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقلوبهم وعقولهم، بل بنصرته وحمايته وتأييده والقتال بين يديه.

* المدينة بعد 50 سنة

هكذا كانت حال المدينة في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما بعده، ولكن إذا ما قلّبنا صفحات التاريخ إلى سنة 60 للهجرة؛ أي بعد 50 سنة على وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، سنجد أنفسنا أمام مشهد مختلف تماماً. ففي العام 60 للهجرة، يُبلَّغ الإمام الحسين عليه السلام وأهل المدينة بموت معاوية، ويُطلب منهم مبايعة يزيد. وهنا تبدأ معالم الحركة الحسينيّة بالظهور. فقد كان موقف الإمام الحسين عليه السلام واضحاً في رفض البيعة ليزيد؛ لأنّ "يزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، مُعلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله"(1).

حقيقة يزيد والصفات التي نعته بها الإمام الحسين عليه السلام لم تكن خافية على أهل المدينة. فأهل المدينة، كما الإمام الحسين عليه السلام، يعلمون مَن هو يزيد، فلم يشتبه عليهم الأمر، ولم يكن لديهم خطأ في الفهم، أو في المعلومات، أو في تشخيص الموضوع؛ فما كان يقوله الإمام الحسين عليه السلام عن يزيد كان يعرفه خواصّ أهل المدينة من نُخب وعلماء ومهاجرين وأنصار، وسياسيّين ومثقّفين. كانوا جميعاً يعرفون مَن هو يزيد بن معاوية، بل كان يزيد مشهوراً -في الحدّ الأدنى- في الحواضر الإسلاميّة، فلم تكن شخصيّته مجهولة أبداً؛ كي يقال -مثلاً- إنّ أحداً ما قد اشتبه عليه الأمر، فقد كان الخواصّ جميعاً، والعوامّ أيضاً، يعلمون مَن هو يزيد.
وقد حثّ سعيُ معاوية لأخذ البيعة ليزيد في حياته -خاصّة في آخر سنتين من حياته، حيث اشتغل بشكل حثيث لتكريس ذلك- الناس على التساؤل حول يزيد المطلوب مبايعته، ليصبح خليفة للمسلمين، فأصبح إثر ذلك مشهوراً، تتناقل أخباره الناس.

* تكليف الإمام وخذلان المدينة
لقد شخّص الإمام الحسين عليه السلام تكليفه، القاضي بعدم تقديم البيعة ليزيد، وأنّ عليه مواجهة الوضع الجديد أيّاً تكن الأثمان والتضحيات. بعد ذلك، خرج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة وسط تخاذل أهلها، في الوقت الذي كان يحتاج عليه السلام فيه إلى نصرتهم ومساعدتهم. نعم، خرج دونما أن يأتي أحد ويطلب من الإمام الحسين عليه السلام البقاء في المدينة، أو أن يقول له أهل المدينة: كيف ستخرج يا ابن رسول الله، وهذه مدينة جدِّك، ومدينة الإسلام والأنصار، وهذه المدينة التي انطلق منها المسلمون لصناعة الأمجاد؟ فلتبقَ هنا ونحن معك ننصرك، ونعينك، وندافع ونحامي عنك، ولتكن المدينة هي قاعدة ثورتك وقيامك لتغيير هذا الواقع المأساوي في الأمّة، نظراً إلى المكانة الكبيرة والاحترام الكبير اللذَين كانت تحظى بهما المدينة في وسط الأمة الإسلاميّة، حيث كان يمكن لها أن تشكل قاعدة حقيقيّة، وتؤمّن فرصة تاريخية عظيمة للتغيير في ذلك الوقت، لكنّها لم تحرّك ساكناً، وتركت الإمام عليه السلام، فخرج منها قاصداً مكّة المكرّمة.

* مكّة تخذل الإمام عليه السلام أيضاً
وصل الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة المكرّمة قبل أربعة أشهر تقريباً من موسم الحج، فالتقى بالناس، وبالوفود التي جاءت من الخارج، وفيهم الوجهاء وكبار القوم وبقيّة المهاجرين والأنصار.
وكما المدينة، لم تنصر مكّةُ الإمامَ عليه السلام، ولم تقل له، عندما رأته يريد الخروج منها إلى الكوفة: ابقَ يا ابن رسول الله، بل على العكس، كانت المبادرة الوحيدة التي قدّمتها هي الطلب إليه أن لا يفعل شيئاً(2)، مقابل أن تطلب له الأمان من والي مكّة. وهذا العرض الذي قدّمته مكّة هو -في حقيقته وجوهره- دعوة إلى استسلام الإمام عليه السلام، ولم يكن عرضاً لأن تنصره عليه السلام.

* الكوفة ليست أفضل حالاً
بعد خذلان أهل مكّة المكرّمة الإمامَ الحسين عليه السلام، توجّه عليه السلام إلى الكوفة، التي أرسلت له بكتبها، ولكنها -في نهاية المطاف أيضاً- تركته وخذلته. طبعاً، وللإنصاف التاريخي، فقد اعتقل عبيد الله بن زياد الكثير ممّن أرسل الكتب للإمام الحسين عليه السلام، وبايعوه ودعوه إلى الكوفة، بل عمد إلى قتل الكثيرين منهم، وزجّ بالآلاف في السجون، وقد خرج الكثير منهم من الكوفة؛ بسبب الظروف القاسية والصعبة، لكن من بقي منهم وبقية أهل الكوفة خذلوا الإمام عليه السلام وتركوه يحاصر في كربلاء حتّى آل به الأمر إلى الشهادة.
وسنتناول النتائج الوخيمة لعدم أداء التكليف في العدد القادم، إن شاء الله.


1- الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفيّ، ج 5، ص 14.
2- أعيان الشيعة، محسن الأمين، ج1، ص 594.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع