مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

ربيع الولادة والحكومة


لشهر ربيع الأول مكانة وقيمة مهمة، في أنه قد أرخ لحدثين مهمّين في تاريخ الإسلام العظيم: ولادة الرسول الأعظم والهجرة النبوية، وإذا كان الحدث الأول قد آذن ببداية سيادة الهدى والعدل والحرّية في المجتمع وسقوط الطواغيت، فإنّ الهجرة قد أرست اللبنة الأولى في صرح الحكومة الإلهية التي أشادها النبي الكريم.

في هذه المقالة الصغيرة سنعرض إلى إثبات ضرورة الحكومة من ناحية المعطيات التاريخية التي سادت في صدر الإسلام، وذلك من خلال استعراض بعض ما قام به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، والتي شكلت بحدِّ ذاتها أدلّة على بناء حكومة إلهية تقوم بشؤون المسلمين، وسنّة تحتذى في كل عصر وأوان.


* بناء المسجد
يلحظ المتتبع لحركة الأحداث أنّ مشروع إقامة الحكومة الإسلامية كان حاضراً في ذهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ اللحظات الأولى لحضوره في المدينة، فهو قد باشر ببناء المسجد بمجرد دخوله إليها، وإذا كان المسجد لا يدلُّ لوحده على إقامة حكومة، إلا أنّ الدور الذي أسند للمسجد برهان كاف على ذلك، فالنبيُّ بعمله هذا قد استجاب لحاجة الناس في تنظيم وإدارة شؤون الحياة الاجتماعية واستثمار الطاقات، والتي يعتبرُ عدم التصدي لها - بالبداهة - من مسببات الهرج والفساد في أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية، فالإنسان بحسب الظاهر إنما يتقوّم حاله بالنظام الاجتماعي، والحكومة مصداق عملي لهذا النظام، هذا، والحكومة لا وجود لها - عينيّاً - في الخارج، وإنما هي عبارة عن مجموعة من المؤسسات الإدارية التي تُعنى بهذه الشؤون، حسب متطلبات وشروط الزمان والمكان، وبما أن شؤون الحياة في زمن النبي لم تكن على درجة عالية من التعقيد، جاء المسجد ليختصر كل التفاصيل الإدارية التي تتمثل اليوم بالوزارات والدوائر المختلفة - بسبب تطور عصرنا الراهن وتعقيداته - وبالتالي يكون المسجد قد وافق بمضمونه المؤسسات التي تُبنى بها الحكومات، دون الشكل في ذلك، والذي ينظر في السيرة الشريفة يرى المسجد داراً للعبادة والقضاء، وإدارة الشؤون العسكرية والاجتماعية والثقافية وغيرها، كل ذلك والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يترأس أجهزة التنفيذ هذه في إدارة المجتمع الإسلامي.

* تأسيس بيت المال‏
لقد جاء تأسيس بيت المال (البنك المركزي) كاستجابة واقعية للأموال التي كان يُراد لها أن تتجمع في خزينة المسلمين، وإنما نستدل بتأسيسه على قيام الحكومة من جهة أن هذه الأموال كانت في كميتها وحجمها كبيرة جداً. وذلك نتيجة تعدد مواردها. فالخمس والزكاة والخراج والجزية وغيرها من الضرائب والغنائم المالية - المنقول وغير المنقولة - كانت بحاجة إلى من يشرف على حصرها وجمعها. وإلى من يعمل على صرفها عند الحاجة إليها. وهذه الضرائب والغنائم التي كانت ستزداد كلما توسع انتشار الإسلام، لا تقتصر في كيتها على سد حاجة مجتمع ضيّق ومحدود وإنما تشير إلى أن التشريع جاء لسد حاجة دولة - ولو مستقبلية آنذاك - واسعة النطاق كثيرة المصاريف.

* الجيش: القوة الضاربة
منذ اللحظات الأولى لمغادرته مكة المكرمة، كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يفكر في العودة إليها، فمكة هي مهبط الوحي ومهد النبوة وفيها بيت الله تعالى. وكذلك المهاجرون قد غادروها لم يحملوا معهم شيئاً من أمتعتهم. وبعضهم خلف أقاربه فيها، ومع دخول المرحلة المدنية اكتسبت مكة مظهر قداسة جديدة، حيث أضحت قبلة المسلمين بعد بيت المقدس، القبلة الأولى، يضاف إلى ذلك حاجة المدينة لقوة تدافع عنها ضد الغزو المتوقع.
وعلى رأس كل هذا - وقبله - تأتي حاجة الإسلام لينتشر في العالمين كدين يهدي البشرية نحو السعادة، ويدعو إلى التوحيد العملي على كافة الصُّعد، ويحارب الشرك بمظاهره جميعها، لا سيما حكومات الفساد وطواغيت الجور، وعليه، فإن أدركنا دور الجيش في مواجهة كل هذا الواقع، يصح معه أن نحدد الهدف النهائي لوجوده والغاية من بنائه، حيث أن الإسلام يطرح المجتمع البديل لكل الحكومات الظالمة، والجيش ليس إلا الوسيلة الرادعة، والذي جاء إعداد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له تلبية لما ذكرنا، وهذا ما يتحصل لدينا بأدنى تأمل في ماهية قوانين الإسلام الشاملة.

* التنفيذ والقضاء
لقد عُني الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أشد العناية بتنفيذ الأحكام الإسلامية بشكل تام. ولم يقتصر عمله على التشريع وحده، وفي هذا السياق تطالعنا السيرة الشريفة بالأحداث والمواقف الكثيرة والتي نذكر منها في سياق البحث ما سيلي. فعلى مستوى الحروب التي قادها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، سطر الجهاد بأعظم صوره، وشهدته ساحات بدر وأحد الأحزاب، وحنين وغيرها من المعارك قائداً باسلاً ومجاهداً فذاً. حتى قال علي عليه السلام : "وكنّا إذا حمي الوطيس لذنا (عذنا) برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ".

وفيما يتعلق بإقامة الحدود، لم يكن عليه السلام ليماري أو يداهن أو يصانع. ولقد اشتهر عنه في هذا المجال من القول، ما يغني عن البيان: "والله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". أما في موضوع المعاهدات، وإرسال تلك الرسائل لملوك زمانه (العمل الدبلوماسي) فهي كثيرة، مثل تل كالتي عقدها مع اليهود على اختلاف مشاربهم، ومع المشركين في الحديبية، ومن الرسائل ما بعثه إلى قيصر الروم وكسرى الفرس ومقوقس القبط (مصر) وإلى نجاشي الحبشة، والحارث الغساني ملك دمشق، والحارث الحميري ملك صنعاء اليمن، وكذلك ما كتبه إلى ملك عمان وملك البحرين وملك اليمامة. وغير هؤلاء كثر، ونحن إذ نعرض ما أسلفناه من نماذج، إنما لنشير إلى حقيقة أن الرسول لم يكن يجلس في بيته ينتظر نزول القرآن عليه ليبلغه للناس، بل كان يعمل على نشره وتبليغه وحفظه، ويتصدى لكل ما هو مطلوب لأجل تحقيق هذا الهدق، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (الشورى، 7).

أما في موضوع القضاء والذي يُعتبر من مصاديق تنفيذ الأحكام، فمن الثابت تاريخياً جلوسه صلى الله عليه وآله وسلم للقضاء بين المسلمين، وإرساله من يقضي في المناطق المختلفة، وإذا كان وجود الحكم والقانون دليلاً على ضرورة وجود المؤسسة المنفذة، كما أسلفنا، فإن اهتمام الرسول بقيادة الحروب و إقامة المعاهدات والعمل على نشر الإسلام وتنفيذه لهو دليل أكيد على قيام الحكومة الإلهية، فالتنفيذ قبل كل شي‏ء هو انعكاس مرتبة من مراتب التوحيد - التوحيد في الربوبية التشريعية - والتي لا يرى فيها المسلم سوى حاكمية الله تعالى والقانون الإلهي: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾.

* الاستخلاف‏
لم يكن ليخرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة أو عمل إلا وكان يستخلف على المدينة من يدير شؤونها ويقوم بأمرها. والتاريخ يحدثنا عن نماذج كثيرة من هؤلاء المستخلفين أمثال أمير المؤمنين - عند خروجه في غزوة تبوك - وعثمان بن مظعون وغيرهم.
ولما آذن عليه السلام بالرحيل عن هذه الدنيا كان استخلافه لعلي عليه السلام في غدير خم مصداقاً آخر لسياسته هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواضع كثيرة: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض".
يشير في هذا الحديث إلى وجود أهمية كبرى لخلافة أهل البيت إلى جانب كتاب الله تعالى، وقد جعلهما مصدرين متلازمين ومتكاملين لهداية البشر إلى طريق السعادة الذي تنشده الفطرة الإنسانية.

إن الحكومة في كل عصر هي الوسيلة التي بها يستطيع المعصوم أن يضمن سيادة القانون في المجتمع. فدوره عليه السلام هو التربية لهذه الأمة وإيصالها إلى كمالها اللائق. وهذه واحدة من المحامد التي يحمد عليها نبينا الكريم، وإن لم تحفظ في أمته بعده، فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع