في ساحات المواجهة والجهاد ضد الظالمين ترسم المخططات وتنفذ العمليات، وقد يصاب بعضها بالفشل، أو يتعرض المجاهدون إلى خسائر فادحة في الأنفس والأموال. فيصاب بعضهم بحالة من الإحباط وربما يلقي باللائمة على غيره ويترك الجهاد!! فما هي الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الأمر؟ وكيف يمكن تلافيها؟
في العقيدة الإلهية وفي صلب التعاليم الإسلامية تطرح مجموعة من المفاهيم الأساسية التي ترتبط بحياة الإنسان وعلاقته بربه وبالمصير. ومن خلال التعرف على هذه المفاهيم والاعتقاد الراسخ بها تتبدل حياة المؤمن بسبب التوجهات الجديدة والرغبات الحسنة. فمن "الخوف من الموت" الذي يجعل الإنسان عاشقاً للدنيا يسعى للحصول على ملذاتها الفانية بأي شكل، إلى عشق الشهادة الذي يجعل الإنسان متفانياً مضحياً مقداماً لا يخاف في الله لومة لائم. ومن الاضطراب الدائم والآلام المستمرة والمنغصات التي لا تزول، إلى الحياة الطيبة المطمئنة في ظل رحمة الله وهدايته ومحبته. لهذا، يعيش بعض المجاهدين حالات من الاضطراب والحزن من الخسائر والفشل، ولتوهم أن الانتصار هو كل شيء لا يتحملون أي انتصار ظاهري للعدو!
فلنرجع قليلاً إلى الوراء ونفكر في سر خلق الإنسان ووجوده، فبدون هذا التفكر سيبقى كل شيء غائماً، ولن نتمكن من بناء الشخصية الإسلامية الثابتة. إن أول حادثة وقعت في تاريخ الإنسانية تخبرنا عن أسرار كثيرة وحقائق عظيمة كل واحدة منها تشكل درساً بليغاً ينقل الإنسان من مستنقع الجهل والضلالة إلى رحاب التوحيد. ومن أهم الدروس التي نتعلمها من قصة سجود الملائكة أن كل الأعمال والطاعات التي تقدم بها إبليس اللعين لم تنفعه في لحظة سقوط مريع. فقد خسر ابليس كل شيء عندما رفض الأمر الإلهي بالسجود لآدم. ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا يتكرر الإمتحان بصور مختلفة، يجمعها لون واحد وهو طاعة الله في عباده، والرضوخ لأوامره في أوامر أوليائه "ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله".
وليس عادياً أن تكون الحادثة الأولى في تاريخ البشرية تتحدث عن مبدأ الطاعة وترك الأنا والاستعلاء، لأن سر وجود الإنسان يكمن في مبدأ تكامله الذي لا يحصل إلا بالعبودية الحقة:
﴿وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون﴾ ولو علم الإنسان الذي شرفه الله بالنفس الروحانية المجردة عن المادة والماديات هذا السر لما التفت إلى غيره أبداً، ولجعله عنوان حياته وسعى إليه سعي من فقد ضالته يبحث عنها في كل مكان بحثاً عن نجاة نفسه وسعادة روحه. وكما ذكرنا فإن هذا الابتلاء والامتحانات الذي بينه القرآن الكريم بحادثة السجود يتكرر في حياة كل إنسان في صورة الطاعة للنبي أو الإمام المعصوم أو من ينوب عنه أو من يعينه، أو بصورة طاعة الزوجة لزوجها، أو بطاعة الأفراد لبعضهم في موارد كثيرة. وقد يقول قائل: "إنني لو امتحنت بمثل ما امتحن به ابليس لما سقطت في امتحاني فما أوضح الحق وما أسطع أوامر الله. فآدم نبي قد علم الأسماء كلها". ولكن السر لا يكمن في الأمور الظاهرة لأن إبليس لم يكن يرى أن آدم يتميز عنه لأن نظره لم يتعدّ الظاهر وكان جاهلاً بحقيقة آدم الباطنية.
وكم يحدث أن يقع الإنسان في مثل هذه الشبهة غافلاً عن أصل الأمر وحقانيته. فإبليس عصى ربه ولم يعص آدم. وهكذا، يمكن أن نقول للبعض أنكم لستم أهلاً للطاعة، غافلين عن أن الأوامر التي يصدرونها ليست من أنفسهم بل تعود في النهاية إلى الله:
﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم﴾. فكر أيها الإنسان بحال نفسك هل أن هذه الأعداء الظاهرة التي تجيّش الجيوش وتمتلك أفتك الأسلحة وأحدث التقنيات، وتبلغ كل يوم شأواً من العلم، هل كانت لأجل أن تحارب فقط، وهل كان بلاؤنا أن نعيش بين هذه المصائب. أم أن هناك هدفاً سامياً يقف وراء هذه الظواهر؟ لا شك أنك تؤمن بحكمة الله وعدله فما كان الله ليعذبنا بأعدائنا، ولكن ليرى صدق إيماننا ويكمل الناقص منه، وما أكثره. ففي هذه المواجهات الدامية يكمن سر كمال الإنسان في دخوله تحت طاعة الله وأدائه للتكليف الإلهي بوجوب جهاد الظالمين والمستكبرين حيث يرتقي الإنسان في سلم الكمالات ويحصل على مراتب النور: "إن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه...". أمير المؤمنين عليه السلام.
أيها المجاهد...
لا تخدعنّك كل مظاهر القدرات المستكبرة والأسلحة المدمرة والنظم المتطورة، فترى أن الانتصار هو بالحصول على مثلها أو التقدم في ساحات الأرض ومواقع العدو. لأن الانتصار الحقيقي هو في خروجك من هذه الدنيا وقد أديت ما عليك وقمت بواجبك الشرعي على أتم وجه. فلو كانت الهزيمة هي في انتصار الأعداء في ظاهر الحياة لكان سيد الشهداء عليه السلام من أشد المنهزمين حين قتل هو وأهل بيته وأصحابه وسبيت نساؤه، لكننا ندرك بإيمان عميق أن الحسين عليه السلام كان المنتصر الأكبر لأنه قد أدى ما عليه وقام بما أمره جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به بدون زيادة ولا نقصان فحفظ الإسلام وصان قلعته إلى يوم القيامة. فلنعرف جيداً أن الانتصار في الظاهر أيضاً مشروط بالطاعة وأداء التكليف. والله يمتحننا اليوم، فإذا صدقنا وعدنا ورأى منّا الاهلية لقيادة الأمة نصرنا. نحن نجاهد في سبيل الله لحفظ الدين وانتشال شعبنا من هذا البؤس ولكن كيف يمكن أن نطبق أحكام الله بعد الانتصار، وكيف يمكن أن نكون أمناء على رسالته ودينه ونحن في معارك الحق ضد الباطل نخالف التكليف ونتذرع بحجج واهية أو ظاهرية ويرمي أحدنا تقصيره على الآخر. ألسنا من يبعّد النصر ويطيل من عمر الهزيمة.
* أحياناً تكون المشكلة أعقد
قد تتعقد المشكلة أمام المجاهد. فهو يقدس التكليف ويعشق الطاعة، ولكن مسؤوله قد يكون مخطئاً أو يرى فيه عدم صلاح أو كفاءة، فيظن في مثل هذه الحال أن بالإمكان مخالفة التكليف. هنا تنقسم هذه المسألة إلى شقين: الشق الأول يتعلق بالحالات العسكرية الضرورية والثاني يرتبط بالأعمال الأخرى. ففي الشق الأول حين يؤمر المجاهد بتنفيذ مهمة عسكرية أو يكون في وضع ميداني حساس لا يجوز له أن يخالف التكليف حتى لو ظن أنه سوف يؤدي إلى فشل العمل الجهادي. وحتى لو أدى الأمر إلى قتله فهو شهيد عند الله، قد برأت ذمته. ولنتعلم من هذا الدرس الذي حدث يوماً: فقد أمرت إحدى المجموعات بالتوجه إلى نقطة عسكرية متقدمة، وأثناء تقدم أفرادها لاحظ مسؤولهم أن الاستمرار بالتقدم سوف يعرض الأفراد للهلاك من جراء الاصطدام المباشر بمجموعة "كوماندوس" للعدو، فقرر التراجع من نفسه. ولكن من جانب آخر كانت هناك مجموعات أخرى للمجاهدين مكلفة بتنفيذ مهمات قتالية ضرورية، وبخروجه من تلك النقطة عرّض كافة المجموعات إلى نيران العدو وأوقع فيهم خسائر فادحة.
* ما هي الدروس التي نتعلمها؟
إن هذا المجاهد لم يلتفت إلى التكليف الذي أعطي له بوجوب التقدم إلى النقطة المذكورة، وكان القائد العام يعرف ما يجري ويحتمل وقوع مثل هذا الأمر، ولذلك أرسل هذه المجموعة، لأنها إذا اصطدمت بالعدو فسوف تشغله عن المجموعات الأخرى التي سوف تحقق أهدافها، وبمخالفته للتكليف ارتكب ذنباً عظيماً وجريمة كبرى. في مثل هذه الأعمال العسكرية التي قد تتكرر كثيراً لا يجوز مخالفة التكليف أبداً. على المجاهد إذا استطاع أن يطلع مسؤوله على ما يجري ويقدم رأيه في الحالات التي يرى فيها احتمالاً للخطأ، ولكن عليه أن يعمل بمقتضى القاعدة التي سنّها أمير المؤمنين عليه السلام في حديثه لابن عباس: "لك أن تشير عليّ فإن عصيتك فأطعني". الشق الثاني: عندما لا تكون المسائل ضرورية مستعجلة ويقع خلاف في وجهات النظر بين الفرد والمسؤول بحيث لا يحل هذا الخلاف من خلال النقاش والحوار، هنا يمكنه أن يرجع إلى المسؤول الأعلى ويوضح له الأمر ويتدرج حتى يصل إلى أعلى مسؤول إذا لم يقتنع من هو أعلى من مسؤوله. ولكنه في كل الأحوال وخاصة في النهاية إذا لم يقتنع مسؤول بوجهة نظره لا يجوز أن يخالف التكليف ويعمل برأيه لأن هذا يعدّ معصية كبرى وخروجاً واضحاً عن إرادة الله تعالى.
وليعلم أن الطاعة حتى في مثل هذه الموارد التي لا يقتنع فيها الفرد بوجهة النظر المقابلة هي أفضل وسيلة لإصلاح الآخرين أيضاً فمن خلال وضوح الخطأ - إذا وقع لا سمح الله - يُعرف المسؤول عنه مباشرة، ولا تضيع المسألة بين الأفراد والمسؤول. كذلك لأن الرعية بصلاحها تصلح القيادة: "كما تكونوا يولّى عليكم".
* خلاصة الدرس:
1 - أداء التكليف أهم من الانتصار الظاهري لأنه الانتصار الحقيقي.
2 - عندما يؤدي الإنسان تكليفه يكون قد دخل في عباد الله ونال درجة النفس المطمئنة.
3 - لا يجوز مخالفة التكليف في الحالات العسكرية أبداً.
4 - عندما يكون هناك مجال لمناقشة التكليف يجوز ذلك.
5 - ولكن في حال عدم الاقتناع لا يجوز المخالفة.
6 - من خلال الطاعة والالتزام يصلح الله أحوال المجاهدين.