تقرير:
المعرض القرآني الأوّل في لبنان
تقرير: الشيخ علي حسين حمادي
آن للعين أن تستريح من ضوضاء الدنيا وزحمتها، وتركنَ إلى
صورةٍ تسرّها إذا نظرت وتبهرها إذا قرأت.
صحفٌ يكاد الناظرُ يجذبها إلى كهف عينيه شوقاً. يَحارُ أيّها يستقرّ عند عبقها
وضوعها الذي لم ينفد. يدقّق النظر فيها فلا يملّ، ويبحر في لجج التاريخ فلا يكلّ.
ابقَ معنا في جولة المخطوطات القرآنيّة.
يتناهى إلى مسامعك صوتُ الشيخ علي خازم (المعدّ وصاحب المخطوطات) وهو يشرح لروّاد
المعرض ماهيّة تلك المخطوطة النادرة، أو الحقبة الزمنيّة لتلك المطبوعة المهمّة، أو
كيف حصل على بعض تلك الأدوات المميّزة. كلّ شيء قديم له هيبته ووقاره بلا شكّ.
والآثار الحضاريّة هي أثير الإنسانيّة المتردّد عبر الأجيال كموجات الصدى، فكيف إذا
كنّا أمام مخطوطات لكلمات الحيّ الذي لا يموت، وقد خطّها بعض أوليائه ليحفظوها
للعصور، كما حفظوها في الصدور؟
يهتزُّ كلُّ كيانك وأنت واقفٌ أمام رقوقٍ تكاد تطفح بالعرفان وتلهج بالإيمان.. رقوق
يُشار إليها بالقلب والبنان: "هذا خطّ الإمام عليّ".
هنا الخطّ الكوفيّ وهناك الحجازيّ، وهنا دواة قديمة وتلك وثائق متنوّعة في الأحجام
والخطوط، وأنواع الورق من جلود وعظم الحيوانات، إلى ورق البردي وعسيب النخل وألواح
خشبيّة وغير ذلك من نماذج لما كُتب عليه القرآن الكريم في عصر النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم. مضافاً إلى أدوات تطوّر الكتابة، من مقالم ومحابر وأقلام القصب وريش
الطيور ومواد صناعة الحبر. هنا باختصار "صحف" المعرض القرآنيّ الأول في لبنان.
* أهميّة معرض "صحف"
أقيم المعرض في قصر الأونيسكو في بيروت يومَي الإثنين والثلاثاء الثالث والعشرين
والرابع والعشرين من شهر تموز 2018م، وحضره فعاليات من علماء الدين والمثقّفين
والفنّانين وطلاب الجامعات ووفود وشخصيّات مختلفة، عبّرت عن تأثّرها وأكّدت أهميّة
هذا النوع من المعارض.
وقد حَوَى المعرض مصاحف مخطوطة، ومصاحف مطبوعة عن أصول خطيّة قديمة، ومصاحف نادرة
تنفرد بخصوصيّات كلّ نسخة، لجهة ترتيب الآيات، أو لجهة نوع الخطّ، مضافاً إلى كتب
علوم القرآن، وتفاسير مخطوطة، ومصاحف مترجمة، ومصاحف غير ورقيّة كالأسطوانات وشرائط
التسجيل. كما حَوَى المعرض أدوات عديدة، تتعلّق بالمصحف: كالأغلفة والمحافظ
القماشيّة، والجلديّة.
* ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾
هنا فرصة الإنسان أن يتفكّر في ذلك الكتاب وحفظه، ولا ريب، وقد تعهّد الله بحفظه
شكلاً ومضموناً، فتواترت سوره وآياته عبر القرون؛ ليبقى نورَ هدايةٍ لا ينطفئ
﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ﴾ (الصف: 8).
هنا فرصةٌ أيضاً للتأمّل في جهود المسلمين، والبشر عموماً، الذين ما زالوا يخطّون
علومَهم وكتبهم وينسخوها بأيديهم، منذ انبلاج فجر الإسلام، حتّى أواخر القرن التاسع
عشر، زمن اختراع آلة الطباعة. هنا تنعكس بحسب تعبير الشيخ خازم: "روح الثقافة
الدينيّة والفنيّة، ويجب على كلّ إنسان أن يتعرّف على تاريخ نسخ القرآن الكريم،
وتطوّره وأساس وأصل النسخة الخاصّة بكلّ فرد منّا".
* جمع المخطوطات
أمّا جهد صاحب المعرض فهو بدوره استثنائيٌّ ومميّز ومبارك، حيث قام سماحة الشيخ علي
خازم طوال سنوات من الزمن، برصد وجمع هذه الرقوق النادرة والنفيسة من بلاد مختلفة
وحفظها. وأكّد سماحته أنّ: "هذا المعرض الذي تمّ التحضير له طوال الأشهر الثمانية
الماضية، سوف يقام قريباً في كلّ المحافظات اللبنانيّة، على أمل أن يتحوّل إلى معرض
دائم، يستفيد منه الباحثون والطلبة وتُتاح للجميع زيارته".
ومن يطّلع على هذا العالم، يدرك أنّنا نملك تراثاً مهيباً، من آلاف المخطوطات
والرقوق، "في اليمن والهند وإيران، وغيرها من البلدان، ويرجع بعضها إلى حقبات قديمة،
حتّى إلى القرن الأول بعد رسالة الإسلام، وانتشارها في أصقاع الأرض. وهذه المخطوطات
بالتأكيد بحاجةٍ إلى الحفظ والاهتمام والحماية، في ظلّ الهجمة الشرسة على الإسلام،
ومحاولة طمس آثاره وقيمه"، كما يؤكّد سماحة الشيخ خازم.
* "صحف.." وآخر الجولة
هنا استراحت العين واطمأنّ القلب. لم يكن في تصوّري أنّ معرضاً ما سيسحرني يوماً
إلى حدِّ الذهول، ولكنّ معرض اليوم مختلف تماماً، "إن فيه لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة".
يدور قلبك قبل أن تكمل دورتك في فضاء الصحف، فتسبح بين كواكب درّيّة من الأسرار
والأنوار.
هنا الصحف.. وفيها فلسفة الوجود والكون وعالم التكوين والإنسان، منذ آدم إلى نوح
وإبراهيم وموسى (صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً)، إلى أحسن البيان حيث تبيان كلّ
شيء.
هنا الصحف التي نُسخت كلماتها من بُطنان العرش وعالم الملكوت، ومقام القرب؛ لتتنزّل
علينا مصدر هداية وصراط عروج، وشاء الله أن يجعل كلّ المواعظ والحِكَم والأحكام
والعِبَر والعلوم، رحمةً ومعجزةً محفوظة أبد الدهور.. في كتاب مسطور.. في رقٍّ
منشور، على أن يُحفظ في كلّ قلب... "صُحف".