صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

اللعب رواح أم عبث؟


الشيخ عباس رشيد


* هدفية وغائية خلق الكون
إنَّ من الضروري للمسلم أن يعرف أنَّ هذا الكون لم يُخلق عبثاً ولهواً ولعباً ولغواً، وهذا ظنُّ الذين كفروا من الملحدين المادّيين، الذين لا يعترفون بهدف للخلق؛ لأنَّهم يعتقدون أنَّ الطبيعة الفاقدة للعقل والشعور والهدف هي التي ابتدأت الخلق، بصدفةٍ عمياء؛ ولهذا فإنَّهم يؤيِّدون اللغويّة وعدم الفائدة في مجموعة الوجود. فليس غريباً مع هذه النظرة العبثية أن يكون الغرب المادّي - الذي لا إيمان له بوجود هدف وغاية من الخلق - مجتمعاً عبثيّاً لا همّ له إلا الأكل والشرب واللهو واللعب واللغو والملذّات. وهذه النظرة ليست جديدة بل لها جذور تاريخيّة، وقد كانت الجاهليّة الأولى تؤمن بهذه العبثيّة، يقول تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (الجاثية: 24). أمّا نظرة الإسلام إلى الخلق فهي ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (الأنبياء: 16-18). ويقول سبحانه: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (المؤمنون: 115) ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (القيامة: 36) فما هو الهدف إذاً؟؟ الهدف من الخلق لا يعود إلى الخالق تعالى، فهو غنيٌّ عن خلقه، وإنَّما يعود إلينا نحن المخلوقين الناقصين. ويمكن القول إنّ الهدف من خلقِنا هو تكاملنا وارتقاؤنا وذلك يحصل بمعرفتنا لخالقنا وبعبادته أي طاعته. فبطاعته نتكامل وبعصيانه نتسافل إلى الحيوانية والشهوانيَّة واللغويّة واللاهدفيّة. يقول تعالى مشيراً إلى غاية خلق الإنسان: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 56) ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الطلاق: 12). ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (الملك: 2).

* الكفّار ولغوهم
وإذ كان الكفّار ينظرون إلى الدنيا نظرة عابثة لاغية انعكس ذلك على سلوكهم، فإنَّهم يأخذون الأمور حتَّى المهمّة منها مأخذاً لهويّاً، يقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (المائدة: 57-58). نلاحظ في هذه الآيات أنَّ الكافرين يتعاملون مع الدين وهو مسألة مهمّة وخطيرة - لأنه يمثِّل مصير الإنسان - باستهزاء ولِعب. و"الهزو" هو الكلام المصحوب بحركات تصوّر السخرية، ويستخدم للاستخفاف والاستهانة. و"اللعب" هو الذي يصدر عبثاً وبدون هدف صحيح، أو خالياً من أي هدف، وسميّت بعض أفعال الصبيان لعباً لنفس السبب.

* تصحيح رؤية الكفّار وتنبيه المؤمنين:
ومن أجل أن يحوِّل القرآن أفكار الكفّار العبثية اللاغية من أفق هذه الحياة المحدودة إلى عالم أوسع، يبيّن لهم حقيقة الحياة الدنيا بالنسبة إلى الحياة الآخرة التي لا يؤمنون بها، يقول سبحانه: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (العنكبوت: 64) معناه: كل عمل يصرف الإنسان عن مسائل الحياة الأساسية. أمَّا اللعب فيطلق على الأعمال التي فيها نوع من النظم الخياليّ، والهدف الخيالي، ففي اللعب مثلاً يكون أحد اللاعبين ملكاً، والآخر وزيراً، والثالث قائداً للجيش، والرابع سارقاً... وبعد انتهاء اللعب المؤقت يعود كلُّ شيء إلى مكانته.

هل يطمر المؤمن نفسه في التراب إذاً:
ما مرَّ من كلام قد يوحي لبعض الناس بأنَّ حياة المؤمن قاتمة، سوداء، جادّة إلى أبعد الحدود، لا ترفيه، لا لعب، لا تسلية، لا سياحة، بل فقط عليه أن ينظر إلى ما وراء الدنيا، إلى الموت إلى القبر إلى القيامة إلى الآخرة!! في الحقيقة ليس الأمر كذلك، فالإسلام دين يحاكي فطرة الإنسان وطبيعته، ويُعطي لكلِّ شيء حقّه، فالإنسان ليس ملكاً من الملائكة بل فيه جنبة مادّية لا بدَّ من مراعاتها، وإلا إذا لم تُراعَ أدّت إلى ردّة فعل عكسية وإلى مشاكل نفسية وعصبية وسلوكية. لذلك يقول الإمام علي عليه السلام: "روّحوا قلوبكم فإنّها إذا أُكرهت عميت"(1). ويقول أيضاً: "إنَّ للقلوب شهوة وكراهة وإقبالاً وإدباراً فأتوها من إقبالها وشهوتها فإنَّ القلب إذا أكره عمي"(2). ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله: "ينبغي للعاقل إذا كان عاقلاً أن يكون له أربع ساعات من النهار: ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يأتي أهل العلم الذين يبّصرونه في أمر دينه وينصحونه، وساعة يخلي بين نفسه ولذَّتها من أمر الدنيا فيما يحلّ ويُحمد"(3). هذا وقد شاهدنا وسمعنا عن أناسٍ كانوا ملتزمين بالإيمان إلا أنَّهم انقلبوا على أعقابهم؛ لأنَّهم فهموا الدّين أو أُفهموه بشكل قاتم سلبي، ممَّا أدّى إلى ردّة فعل عكسية فتركوا الالتزام ولجأوا إلى من يُرفِّه عنهم ويرفع الضغط والكبت عنهم. وقصة المؤمن - الذي هدى أحد الكافرين إلى الإيمان ثم رِدّة هذا إلى الكفر؛ بسبب ضغط المؤمن عليه ضغطاً شديداً وهو بعدُ مبتدئ الإيمان - معروفة وفيها عبرة لمن اعتبر.

* بين اللعب اللاغي واللعب الهادف:
لقد مرَّت معك آيات عديدة تذم حالة اللعب اللاغي، وإليك بعض الأحاديث التي تذمّ هذه الحالة: عن الإمام علي عليه السلام: "اللهو من ثمار الجهل" "المؤمن يعاف اللهو ويألف الجد" "لا يفلح من وله باللعب واستهتر باللهو والطرب"(4). وفي المقابل هناك أحاديث تشير إلى نماذج من اللعب الهادف وإليك بعضها: عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "عليكم بالرمي فإنه خير لهوكم"(5)، "من ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة كفرها"(6).عن رسول  الله صلى الله عليه وآله: "إن الملائكة لتنفر عند الرهان، وتلعن صاحبه ما خلا الحافر والخف والريش والنصل"(7). وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "أغار المشركون على سرح المدينة فنادى فيها منادٍ: يا سوء صباحاه، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وآله في الجبل فركب فرسه في طلب العدو، وكان أوّل أصحابه لحقه أبو قتادة على فرس له، وكان تحت رسول الله صلى الله عليه وآله سرج دفتاه ليف ليس فيه أشر ولا بطر فطلبا العدو فلم يلقيا أحداً وتتابعت الخيل، فقال أبو قتادة: يا رسول الله إن العدو قد انصرف، فإن رأيت أن نستبق؟ فقال: نعم فاستبقوا فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله سابقاً عليهم..."(8).

وننهي هذا المقال بمناجاة زين العابدين عليه السلام: "إلهي أشكو إليك نفساً بالسوء أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة،... كثيرة العلل، طويلة الأمل، إن مسّها الشر تجزع، وإن مسّها الخير تمنع، ميالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو..."(9).


(1) عوالي اللآلي، ج3، ص111.
(2) غرر الحكم، ج1، ص24.
(3) بحار الأنوار، ج1، ص131.
(4) الأحاديث كلها من: غرر الحكم، ج1، ص314.
(5) ميزان الحكمة، ج4، ص124.
(6) ن.م، ص1120.
(7) الوسائل، ج19، ص249.
(8) الوسائل، ج19، ص249.
(9) الصحيفة السجادية، مناجاة الشاكين، الدار الإسلامية، ط1، 2006، ص314.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع