نسرين إدريس
ملحوظة: هذه قصة الهدية التي اشتراها أحد الأخوة لابنة الشهيد سعيد العلي ودفع ثمنها الشهيد بعد حوالي أربع سنوات من استشهاده.
ولفتت نظره لعبةٌ شقراء موضوعة بتأنٍ ملفت بين رفوف اللعب الممتدة في متجر كبير للألعاب، بعد بحثٍ طويل عن لعبةٍ جميلة لها.. اقترب وأخذها بين يديه؛ عيناها واسعتان كعيني فاطمة البريئتين.. وبسمتها كجناحي فراشة مرسومة كبسمة فاطمة الشفافة.. فاطمة الصغيرة، لا يزال يذكر المرة الأولى التي رآها فيها وهي تلعب في زاوية من زوايا البيت.. كانت الزيارة الأولى له وعائلته إلى منزل الشهيد سعيد العلي الذي اغتاله اليهود عام 1994 في قريته "حاريص".. يومها أراد تأدية الصلاة، فافترش سجادة الصلاة في نفس المكان الذي كان يصلي فيه الشهيد، أمام الدهشة الصامتة لزوجة الشهيد التي أسرَّت ذلك في نفسها واحتفظت به كمصادفةٍ لا أكثر، وفاطمة تنظر إليه بطرف عينها بخجلٍ وتبتسم..
لم تكن فاطمة تعني بالنسبة إليه طفلةً صغيرةً يتيمةً استشهد والدها دفاعاً عن الوطن فحسب، بل كان يعتبرها كابنته وهو ينظر إليها بسعادة تتنقل بين الأطفال وهم يلعبون، ويعلو صوت ضحكتها حيناً وتذمرها أحياناً.. في المرة الأخيرة التي زارهم فيها قبل سفره، اقتربت منه فاطمة، فسألها عن الهدية التي ترغب بأن يشتريها لها.. فأخبرته أنها تريد لعبة جميلة، تهتم بها، وتخيط لها الثياب.. انه الآن يكاد يسمع صوتها الرقيق يغني للعبة بلطفٍ وهدوء كي تنام، وتغمض عينيها لتغفو قربها.. أخيراً، لقد وجد لها اللعبة التي تحبها، معها ثياب، وأدوات كثيرة.. كم ستكون سعادتها كبيرة عندما تفتح أوراق الهدية وتجدها أمامها.. ستضمها إليها، وتحكي لها الحكايات الجميلة، وتمنع أخواتها من إصدار أي ضجيج حتى لا يوقظوها، وتدفئها في البرد بدثارٍ من الحب.. وحدهم الأطفال يمتلكون البراءة التي تجعل الدنيا مشهداً جميلاً بل رائعاً.. لكن الصور الجميلة التي تلاحقت في مخيلته عن فاطمة وسعادتها بهذه اللعبة تبدَّلت عندما رأى ثمنها الباهظ جداً، فهو إن اشترى لفاطمة ولابنته لعبتين منها لن يستطيع شراء أي شيء آخر.. فأعاد اللعبة بهدوءٍ إلى مكانها لتستقر بين مثيلاتها الكثيرات على نفس الرف، وتوجه إلى خارج المتجر وأمام عينيه تلوح ابتسامة فاطمة ورنين ضحكتها الطفولية التي تُدمع عينيه.. لقد عزَّ عليه جداً ألاَّ يستطيع شراء اللعبة الغالية الثمن، خصوصاً وأنها كالتي طلبتها فاطمة.. لكنه قرر أن يعود مرة أخرى وينتقي لعبة أخرى جميلة مثلها..
لم تفارق صورة فاطمة مخيلته طوال الوقت، وهو يهيئ أغراضه للعودة إلى لبنان لقضاء بعض الوقت بين عائلته.. وبعد أن انتهى من إعداد حقائب السفر، خلد إلى النوم بعد نهارٍ طويل ومنهك.. لم يستطع أن يمنع تفكيره من الإبحار بين وجه فاطمة ووجه اللعبة حتى غفا.. في الحلم زاره رجلٌ لم يصادفه في حياته، ولكنه رأى صورته في منزل فاطمة.. أجل انه الشهيد سعيد العلي.. لطالما حملت فاطمة صورة والدها أمامه وقبَّلته على جبينه فكانت بذلك تلهب الأسى في فؤاده.. نظر الرجل إليه وقال له: ألا تريد أن تجلب اللعبة لابنتي فاطمة إنها تنتظرها، اذهب غداً واشترِها لها.. واختفى الرجل من أمامه، فاستيقظ والدهشة تعلو وجهه، ولم يتردد لحظة في الصباح الباكر من أن يذهب مباشرة إلى محل الألعاب، دخل مسرعاً حتى وصل إلى المكان المخصص للعبة، فوجده خالياً إلاَّ من أخيرة تنتظره أن يأخذها إلى صاحبتها التي تنتظرها في لبنان..
أخذها بين يديه ولم يصدق أن كل مثيلاتها قد بيعت.. توجه إلى الصندوق ليدفع ثمنها، انتظر قليلاً حتى وصل دوره ليدفع ثمن اللعبة التي حضنها بشكل ملفت، فأخبرته المحاسبة على الصندوق أن الشاب الذي يرافقه دفع ثمنها، فاستغرب لردها، فهو قصد المتجر منفرداً وليس ثمة من يرافقه.. تلفَّت حوله لم يجد أحداً، فأخبرها أنها قد تكون مخطئة، فأكَّدت له أن شاب ملتحٍ أشار إليه ودفع ثمن اللعبة.. خرج مسرعاً من المتجر يبحث بين الوجوه عن وجه رجل يعلم أنه لن يراه، إلاَّ عندما تحمل فاطمة صورة والدها لتقبله قبلةً على جبينه، وهي تحمل لعبةً صغيرة أرسلها لها هديةً من عليائه لتغفو قربها.