فاطمة السيد قاسم
إن شخصية الإنسان منذ بداية وجوده إلى يوم وفاته يحددها بشكل أساسي عاملان، هما
عامل الوراثة وعامل التربية. على أن هذين العاملين لا يكونا بنفس المستوى لدى جميع
الناس، كما أن أولوية أحدهما على الآخر فيها بحث دقيق. هذا البحث تناوله أحد
العلماء الأفاضل. الذي سنلقي الضوء على بعضٍ منه في هذه المقالة.
يقول منقذ البشرية محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كل مولود يولد على
الفطرة، إلا أن أبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
نفهم من هذا الحديث بأن
عامل التربية يتغلب على الفطرة. بل ويتغلب أيضاً على عامل الوراثة. بمعنى أن المربي
بإمكانه أن يجعل الولد ذا الفطرة السليمة يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً.
على أن لهذا الحديث بُعداً علمياً بالغ الأهمية وهو أن الوراثة لا تفعل فعلها إلا
بواسطة التربية وتأثيرها. فالوراثة هي مجرد قابلية يمكن معها توجيه الإنسان بهذا
الاتجاه أو ذاك.. فالطهارة وغيرها، والشجاعة والجبن والكرم، والبخل وغيرها من
الصفات المختلفة تكون تربة مساعدة للصلاح أو الفساد في سلوك الطفل.. ولكن هذه
الصفات ليست قدراً حتمياً بل يمكن إصلاح الفاسد بالطرق التربوية الصالحة.. وعلى
العكس تبديل التربة المساعدة للصلاح إلى الفساد بالطرق التربوية الفاسدة. وفي هذا
المعنى يقول أمير المؤمنين: "إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء
قبلته" أي أن الطفل عندما يولد تولد معه القابلية فقط. القابلية لأن يكون صالحاً أو
طالحاً. لأن قلبه صفحة بيضاء والآباء والأمهات والتربويون هم الذين يستغلون ذلك
بجعل قلوب أطفالهم تتزين بالصفات والأخلاق الحميدة.
القرآن الكريم يشير إلى ذلك بوضوح:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *
قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس/7 ـ 10).
فالتربية هي الأساس وهي المسؤولة عن توجيه الطفل لذلك هي التي تحاسب على استقامته
أو انحرافه في حدود مسؤوليتها.
البعض ربما يتساءل: كيف نوفِّق بين ما ذهبنا إليه وقوله تعالى:
﴿ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا
فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ (نوح/27).
أو الحديث الشريف: "إن العرق دساس".
الواقع أن الفكرة التي ذهبنا إليها لا تنفي بالضرورة العامل الوراثي، لكنها تؤكد أولوية التربية، كما إننا نرى أن المعنى الموجود في الآية الكريمة والحديث الشريف إنما ينصرف أساساً إلى التربية لأن الفسق والفجور ودنس العرق ليست من فطرة الأبوين، وإنما اكتسباها عن طريق التبية فولدت فيهما طبيعة ثانية تأصّلت مع الزمن والإنسياق في المعاصي حتى غدت طبعاً أصيلاً أورثاه لولدهما فإذا ما تمادى هؤلاء في فسقهم وفجورهم فإنهم لن يهيئوا لأولادهم إلا تربية من جنس أخلاقهم وبالتالي فإنهم لا يلدون إلا فاجراً كفاراً.
وتبلغ العادات التربوية
والتمارين الإصلاحية المتواصلة درجة من القوة في التأثير بحيث تتغلب على الصفات
الوراثية وتحدث وضعاً جديداً في الأفراد، يقول الإمام علي في هذا الصدد: "العادة
طبع ثانٍ".
ويرى العلماء أن التربية عامل قوي جداً، حيث تقدر أحياناً على أن توقف الخواص
الوراثية السيئة وتعود بالأفراد إلى طريق السعادة والكمال، وقد لا تعطي التربية
نتيجة حتمية كاملة.. وهذا يتبع الخصوصيات الفردية للأفراد حيث أنها متفاوتة".
ولكن الثابت أننا يجب أن ننظر إلى جميع الأفراد بعين القابلية ونحتمل أن تؤثر فيهم
الأساليب التربوية الصالحة. فإن كانت هناك استعدادات كافية للخير والكمال فإنها
تظهر بفضل التربية الصالحة وتخرج من مرحلة القوة إلى مرحلة الضعف.
كل هذه الحقائق العلمية التي أوردناها أشار إليها الحديث الشريف! "كل مولود يولد
على الفطرة..".
وبعد هذا الاستطراد يلوح لنا في أفق البحث أن التربية إذا جاءت
موافقة للعامل الوراثي فإن النتيجة تكون عالية جداً في خلق إنسان من الطراز الرفيع.