العلامة الشهيد مرتضى مطهري
روح علمية وعقل فياض تناولا موضوعاً أساسياً، لم تفرد له مؤلفات السلف مكاناً خاصاً، فأثمر كتاباً يعتبر بحثاً متكاملاً في موضوع ندرة تشعباته جعلته صعب المنال.
وقد استكنه الباحث آياتٍ وأحاديث وارتشف من معين القرآن ما يثلج قلب طالب الحقيقة كعادته، وغاص في بحر الاستدلال مستخرجاً لآلئ رصَّعت متن هذا الكتاب المسمى بـ "الفطرة".
يقع هذا الكتاب في 226 ص في القطع الصغير عربه جعفر صادق الخليلي وتنشره مؤسسة البعثة وهو إحدى مؤلفات الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري التي أصبح ذكرها على لسان كل باحث ومحقق في العلوم الإسلامية والعقلية والتي أصبحت حجة يرجع إليها ومرجعاً إذا أريد التمحيص والتدقيق.
قدم المؤلف للكتاب بحوالي ثلاثين صفحة حوت تعريفات لغوية واصطلاحية لكلمة "الفطرة" وذكراً لمجمل الآيات والأحاديث التي دارت حولها والمعاني التي أريدت منها بالإضافة إلى أهمية بحث موضوعها وفهم الفرق بينها وبين الغريزة والطبيعة. وقد تعرض- المؤلف- خلال هذه المقدمة إلى مفهومين أساسيين لم أجدها لدى غيره:
- الأول: الفرق الجوهري بين التربية والصناعة، فالثانية على عكس الأولى تعنى بإيجاد شيء من مواد خام حتى ولو أدى ذلك إلى تلف بعضها ومسخ خاصيته أما الأولى فتكون بتنمية القابليات والاستعدادات الموجودة في هذه المواد والوصول بها إلى كمالها والغاية من وجودها.
- الثاني: حقيقة المعاد الفطري وذلك بكونه رجوعاً إلى الله وليس إلى الدنيا كما توهم البعض.
ثم أشار- المؤلف- باستغراب إلى مجهولية الإنسان لنفسه مع ادعائه بكشف المجهولات الأخرى وإلى أن الفطرة هي واحدة في تلك المجهولات.
بعد هذه المقدمة يدرج الأستاذ الشهيد أربعة فصول كصلب للبحث ويختم بفصل خامس هو عبارة عن أسئلة توجه بها الحضور إليه وقام بالإجابة عنها من أجل توضيح المطلب والغور في أعماق الفكرة وإزالة الإشكالات.
* الفصل الأول: يدخل المحقق صلب الموضوع في هذا الفصل حيث قسمه إلى قسمين:
1- الإنسان والمعرفة.
2- الإنسان ومطاليبه.
جاء القسم الأول طرحاً لمختلف النظريات المتعلقة بالمعرفة الإنسانية وذلك من حيث كونها قبلية (فطرية) أو بعدية (اكتسابية)، فاستعرض آراء أفلاطون وأرسطو وكانت وغيرهم من الفلاسفة التجريبيين والحسيين والمثاليين والعقليين ثم خلص إلى الاستنتاج من الآية القرآنية ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون﴾ ومن أسلوب القرآن البديع في طرح التساؤل وترداد كلمة "التذكير" أن في الإنسان أموراً فطرية على نحو الاستعداد والقابلية وليس على نحو المعلومات المخزونة (نظرية أفلاطون) والتذكير في القرآن يرد بمعنى الالتفات إلى بديهة عقلية يحصل من خلالها التصديق والإدراك بمجرد النظر إلى موضوع القضية ومحمولها.
وجاء القسم الثاني بفرعين:- الأول- المطاليب الجسمية وهي التي تختص بالجسم مئة بالمئة كاتباع الغريزة الجنسية وغريزتي النوم والأكل.
- الثاني- المطاليب الروحية من قبيل الأمومة والأبوة وطلب الحقيقة والفن والجمال والتفوق والجاه وكل ما ندعوه بالعشق والعبادة حيث قسم كل هذه إلى خمس مقولات أساسية عرض لها بأسلوب رائع وسلس ثم خلص على عرض نظرية منكري النوازع الفطرية مع شيء من النقد وعدم الاتفاق مع آرائهم التي خلطت بين الاعتماد على الحس والتجربة والعقل.
كما جاء في هذا الفصل نكتة لطيفة حول الأصل اللغوي لكلمة "إدراك" وما لذلك من مدخلية في فهم مدلولها الفكري.
* الفصل الثاني: في الفصل هذا الذي عنونه بـ"جذور القيم الإنسانية" يبدأ العلامة بطرح موضوع يتعلق في إحدى حيثيات النظر بـ"الفطرة" حيث يدرج مجموعة أسئلة ناتجة عن الاختلاف الناشئ من القناعة بثبات الأخلاق وعدمه ثم يقسم الآراء إلى:
- فئة تقول بنسبية الأخلاق (القيم الإنسانية).
- فئة تقول بثبات الأخلاق إلا أنها غير فطرية.
- فئة تقول بثبات الأخلاق وفطريتها.
حيث يعرض خلال البحث لآراء الماركسيين وفيلسوف القوة نيتشنه ويبين ما فيها من ضعف وثغرات تنسفها من خلال مبادئها الأساسية. ثم يسهب بطرح فكرة القائلين بعدم فطرية الأخلاق من خلال توضيح الفرق بين مفهوم التكامل ومفهوم التغيير (ليس كل تغيير تكاملاً) ليخلص إلى الاستنتاج بأن هذه الفكرة تفقد قيمتها الحقيقية إن لم تكن للقيم الإنسانية مما يعطيها القيمة الحقيقية والفاعلة على صعيد الحياة.
حقيقة المعاد الفطري هو الرجوع إلى الله إلى الدنيا.
* الفصل الثالث: تشكل هذا الفصل من إجابات الأستاذ الشهيد على مطارحات تقدم بها بعض الحضور متعلقة بأصل فكرة نشوء الدين، حيث قام "بالاستناد إلى هذه المطارحات وإلى المعلومات الشخصية" بتوضيح نظرية كل فئة مضمناً البحث إشارات دقيقة إلى الخلط الذي وقعت به جراء النظر تارةً إلى الشخصية الفردية للإنسان وطوراً إلى الشخصية الاجتماعية له وطوراً آخر إلى العلاقات بين الطبقات المختلفة وما إلى ذلك من وجهات نظر شكلت تمحوراً حول فكرة أن كل شيء قاد الإنسان إلى الدين ما عدا المنطق والعقل. وأهم النظريات التي نوقشت كانت.
1- نظرية فويرباخ.
2- نظرية الجهل.
3- نظرية الخوف.
4- النظرية الماركسية.
5- نظرية دوركهايم.
حيث قام العلامة الشهيد- في الفصل التالي- بالرد الشامل على جميع هذه النظريات من خلال إيضاح فكرة أن الدين على ارتباط وثيق بالفطرة الإنسانية وجاء للرد على استفساراتها وبحسب رغبتها.
* الفصل الرابع: بيّن الأستاذ مطهري في هذا الفصل أن الفطرتين الأساسيتين الموجودتين في الإنسان "لفطرة الإدراكية والفطرة الإحساسية" تقودانه إلى تقبل الدين بل تجعلان الله والدين هدفه الوحيد من حيث الإدراك والميل وطبيعة الخلقة. ثم أورد آيات وأحاديث ونصوصاً أخرى استشف منها بأسلوب استدلالي راقٍ فطرية التدين.
* الفصل الخامس: كان عبارة عن أسئلة طرحها الحضور ودخلت في صلب موضوع الفطرة حيث أجاب الأستاذ كالمعتاد بأسلوبه الرائع وبيانه الوافي واستدلاله المحكم.
وأخيراً يعتبر هذا الكتاب من الأبحاث المهمة والتي يجب أن تقرأ حيث ورد فيه لطائف ودقائق قلماً جرى قلم غير المؤلف بمثلها وقد حوى قصصاً وعبراً مهمة، كما تجدر الإشارة إلى حدوث بعض الخلل الناتج عن الترجمة أو عن رداءه أشرطة التسجيل أو فقدان بعضها والعهدة على المترجم حفظه المولى والحمد لله رب العالمين.
والصلاة التامة النيرة المزجاة إلى أسرار الوجود وهداة الخلق أجمعين محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين.