إن موضوع الفطرة من المواضيع التي أولاها القرآن أهمية خاصة لدورها البارز في حياة الإنسان ولمدخليتها في تحديد مصيره النهائي من حيث سلوكه طريق التقوى أو طريق الفجور وهل هذه الفطرة تكفي لهداية الإنسان إلى جادة الصواب، وما هو سبب الاختلاف عند البشر، وهل ينشأ هذا الاختلاف من الفطرة أم من طارئ خارجي؟، هذه التساؤلات وغيرها سنحاول الإجابة عليها في هذا البحث المتواضع.
* حول المعنى اللغوي للفطرة:
- بداية لا بد من معرفة معنى الفطرة وعلى ماذا تطلق؟
قال الله تعالى في سورة هود - 51/ على لسان نبيه الكريم: ﴿يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعلقون﴾ صدق الله العلي العظيم.
الفطر في اللغة الشق عن أمرِ الله كما ينفطر الورق عن الشجر وفيه فطر الله الخلق، فالفطر هنا بمنزلة ما شق منه فظهر قال الراغب الأصفهاني في كتابه المفردات في غريب القرآن: أصل الفطر الشق طولاً، يقول أيضاً الله فقطر الخلق أي أوجده وأبدعه بعد عدمه وقيل للكمأة - نوع من النبات مثل البطاطا - فُطرٌ من حيث أنها تفطر الأرض فتخرج منها. قال تعالى: الحمد لله فاطر السموات والأرض أي أبدعها وأوجدها بعد انعدامها.
* هل تكفي الفطرة لهداية الإنسان؟
اختلف العلماء في كون الفطرة كافية لهداية الإنسان أم لا. فالبعض اعتبر أن اختلاف الناس في مراتب الكفر والإيمان يدل على عدم كفاية الفطرة للهداية، وإلا كان جميع الناس مؤمنين. ويؤكد البعض الآخر على أن الفطرة الصافية تكفي في هذا المجال.
قبل الكلام عن الهداية لا بد وأن نتطرق إلى المرحلة المتقدمة عليها إلا وهي مرحلة الاختلاف ونكشف منشأ هذه التفرقة المشاهدة للعيان وأصل هذا الاختلاف.
* منشأ الاختلاف
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغياً بينهم﴾ فالله سبحانه يقول أن الاختلاف لم يكن بسبب الأنبياء كما يقول بعض البسطاء والسذج لا عامة الناس حيث يدعون أن الأنبياء هم السبب الأساس للخلاف بين الناس وغفلوا أو تغافلوا أن الله بعث النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس، في أي شيء؟
حصول الاختلاف بين الناس بسبب حمل العلم بغياً.
يأتي الجواب الإلهي: في ما اختلفوا فيه فالخلاف لم يكن من الأنبياء والمبشرين والمنذرين أيضاً نستطيع القول أن معنى هذا الكلام أن تنزيل الكتب والرسائل السماوية وبعث الرسل ما كان إلا لرفع الاختلاف فهو ليس منهم بل بهم يرفع وبالأحكام الشرعية وبالتعاليم الإلهية التي جاؤوا بها، وجميع الأنبياء لم يدعوا إلا إلى سبيل الله ولم يعلموهم سوى الكتاب والحكمة، فالاختلاف إذاً ليس منهم بل من الذين حملوا العلم بغياً كما قال تعالى: ﴿وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعدما جاءتهم البينات بغياً بينهم﴾(البقرة/213).
فهو ليس من الدين بل ممن حمله بغياً ونشره غياً بين الناس ومن الطبيعي أن تكون نتيجة هذه الدعوات الفرقة والاختلاف. بناءً على ما تقدم سوف ننسب إثم الاختلاف إلى من حمل العلم بغياً، وليس كل من ضل عن الصراط المستقيم أو دان بغير الإسلام ديناً يُعدّ باغياً وإن كان ضالاً منحرفاً عن الصراط السوي، صحيح أن الله سبحانه وتعالى لا يعذر الضال لكن لا يعامله معاملة الباغي فالفرق بينهما كالفرق بين الفاسد والمفسد فالثاني أعم من الأول وأكثر فساداً وإن كان الأول عذابه شديد يوم الحساب، وهما لا عذر لهما، لكن من لم يجد حيلة ولم يهتد سبيلاً واشتبه عليه الأمر فهو معذور والعفو له مرجو قال تعالى: ﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم﴾ (التوبة/102).
فالفطرة الإنسانية بناءً على ما تقدم لا تنافي الغفلة لا الشبهة لكنها تنافي تعمد الوقوع في الاختلاف والبغي ولذلك خصت بعض الآيات البغي بالعلماء ومن استبانت له الآيات الإلهية وعرف الأحكام الشرعية قال تعالى: ﴿والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ (البقرة/39) فالفطرة لا تقع في الخطأ بذاتها بل منشأ انحرافها يكون من الذين يعطونها العلم بغياً وغياً.
في هذا الوقت - أي وقت - "انحرافها" يكون دور الأنبياء والرسل والشرائع من أجل هداية الفطرة قال تعالى: ﴿فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق﴾ (البقرة/213).
ونقول هنا أن السبب من بعث الأنبياء وإنزال الكتب والعلة للدعوة الدينية هي رفع الاختلاف الذي حصل بسبب علماء السوء فالله سبحانه يرفع الاختلاف بالنبوة والتشريع لهداية الإنسان إلى كماله اللائق بحاله المصلح لشأنه، إذاً الهداية من الله فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وما كان عطاء ربك محظوراً فعطاء الله لا مقطوع ولا ممنوع إلا أن يقطعه، قاطع بسوء حظ من قبل نفسه لا منه جل عطاؤه.
فالفطرة لا تكفي للهداية لأنها قابلة أيضاً لاختلاف إذا شربت من الماء الآسن من علماء السوء، والهداية لا تخلو من أحد أمرين، أما من الفطرة أو من أمر وراءها والفطرة غير كافية لاحتمال وقوعها في الاختلاف كما مر فتعين السبيل الثاني لانحصاره والسبيل هو التفهم الإلهي غير الطبيعي (مقابل الفطرة الطبيعية) - وهو المسمى بالوحي وبالنبوة وهذه الأفكار التي طرحت مصرّع بها في كتاب الله وقد بينتها تجربة الإنسان في تاريخه واجتماعاته المتنوعة، فكل اجتماع لم يخلُ من اختلال وكل اختلاف لم يرتفع بغير القوانين الاجتماعية، وعقل الإنسان لم يستطع وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف.
وتقلع مادة الفساد وتجتث دابر الفرقة ويكفينا مؤونة الدليل الوجدان فهو مثل البرهان.
* دور الفطرة في الهداية:
بعدما تقدم من الكلام نقول أن الإنسان بفطرته السليمة يتبع في اعتقاده ما يراه حقاً ويجده واقعاً أمامه ويتبع في عمله ما يراه مصيباً للواقع في تشخيصه طبعاً ضمن دائرة الاستطاعة وهذا يكون غالباً في الأصول، أما في الفروع الاعتقادية التي لا يتيسر لأغلب الناس العلم بها وتفصيلاتها، تدفعه فطرته إلى اتباع من له علم وخبرة بذلك وعليه يؤول اتباعه لذلك العالم إلى علمه تماماً كما يرجع السالك وهو لا يعرف الطريق إلى الدليل بشرط علم السالك بعلم الدليل وخبرته، وكما يرجع المريض إلى الطبيب ومثلهم من أرباب الحوائج. إذاً فطرة الإنسان يجب ألا تفعل فعلاً في الخارج - بواسطة البدن - ولا أن تقطع أمراً لا بعلم أو ما بحكمه كالظن المتبع بدليل علمي كالمثالين السابقين فعلم المريض والسالك لا كعلم الطبيب والدليل من حيث القوة والوضوح، فالإنسان كما مر يستطيع بفطرته السليمة اتباع الأصول حسب ما يراه واقعاً كذلك يستطيع اتباع الفروع باتباعه عالماً بها.
* التقوى والفجور عند النفس:
إن النفس تملك قابلية الاختلاف كذلك تملك قابلية الهداية قال تعالى: ﴿فألهمها فجورها وتقواها﴾ (الشمس/ 8) فالفجور هو شق الستر والتقوى هي جعل النفس في وقاية مما يخاف منه والإلهام هو الإلقاء في الروع أو إفاضة الصور العلمية من تصور أو تصديق على النفس الإنسانية أو قل على فطرة الإنسانية، وإطلاق الإلهام على عنواني الفجور والتقوى من باب إطلاق لكل المال مثلاً المشترك بين لكل مال اليتيم وهو مفجور وبين لكل مال نفسه وهو تقوى، ومباشرة النساء المشتركة بين الزنا وهو فجور وبين النكاح الشرعي وهو تقوى، والله سبحانه لم يلهم الفجور إلا بهذا المعنى وقد ميز سبحانه وتعالى التقوى والفجور حتى يعرف الإنسان فيفعل أو يترك ولم يكتف بالتمييز بل أشاد بتزكيتها وذم من دساها ﴿قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها﴾(الشمس/9/10).