نهى عبد الله
دخل الأستاذ قاعة الدرس، حاملاً بين يديه صندوقاً خشبياً مغلقاً، ووضعه جانباً، وأخذ يتحدث عن أهمية التفكير، والتزوّد بالمعرفة الحيّة، التي لها دورٌ أساس في تغيير الإنسان ونظرته للأمور، وربما خياراته ومجرى حياته.
وأخذ يفصّل الحديث في نموذج حيّ؛ "بدايات المقاومة الإسلامية في لبنان؛ عندما انبعثت روح مؤمنة وعقيدة مبصرة، في ثلّة من الشباب، حينها تغيّر الواقع من اجتياح العدو إلى اندحاره، ومن خوف منه إلى انتصار عليه. فأصحاب ذلك الخيار كانوا يُحَلِّقون بجناحين: العلم والعمل، العقل والقلب. كانوا يعرفون متى يَضربون ومتى يَرحمون... يتمهَّلون حتى يؤذن لهم... يصارعون أنانيتهم قبل قتال عدوهم...". كانت جُمَلُ الأستاذ تُرسل بعضها، وتصوغ ذكرياته على إيقاع نبض قلبه المشتاق إلى تلال بعيدة.
استرق نظرةً حانيةً إلى الصندوق، ثم أكمل حديثه: "منهم من أدرك أهمية الجناحين، ومنهم من قادَتْهُ فطرته النقية، منهم من حفظ القرآن والدعاء والمناجاة، ومنهم من كان الكتاب أنيسه الصامت، والسؤال لغته الخاصة، وكلهم قابضٌ على سلاحه... وكانت القيادة تراقب نمو هذه الثلّة، وتدرك أهمية جناح المعرفة الأصيلة، فواكبتهم بتغذية خاصة... تلازمهم طوال أوقات مرابطتهم، حين يجب أن يخفَّ حملُ زادهم ومؤونتهم..". قاطعه أحد الطلاب: "لمَ لا أستطيع تخيّل مجاهد يقرأ؟ فالملابس العسكرية والسلاح والترقّب أمورٌ لا تتناسب مع الفكر".
حينها تحرَّك الأستاذ نحو الصندوق الخشبي، وقال فيما يحاول فتحه: "ربما! قد تكون هذه إجابة واقعية عن سؤالك". أخرج المحتوى ... قبّله ثم رفعه، كان عدداً قديماً من مجلة (بقية الله) أطرافه مجعدة، أكسبت الشمس أوراقه لوناً شديد الصفرة، واستحال لون غلافه الأزرق إلى الأخضر، زيَّنَتْهُ بقع تراب جنوبية، وتوسَّطَتْهُ ثغرة محترقة... تناثرت حولها نقاط دم... ختم حديثه: "كانت في جيب صديق لحظة استشهاده*، وتلقَّت معه رصاصةَ قلبه".
* الشهيد أشرف خير الدين.